× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

هكذا تسلّلت «مقاهي النُّخب» إلى غزّة.. والسّويداء

عقل بارد - على الطاولة 13-05-2024

لم يقف «الشعار الأيديولوجي- الإسلامي» عائقاً في وجه مناصرة شعبية واسعة النطاق للمقاومة ضد الاحتلال في كثير من الدول الغربيّة، لكن «الشعار الأيديولوجي» نفسه لم يمنع نخباً وأحزاباً تصنف نفسها تحت هذا الشعار، من اتخاذ مواقف ملتبسة أو صريحة ضد المقاومة الفلسطينية بذرائع شتّى!

الصورة: (Atanu De - فليكر)

يكاد يتفق كلّ من يحاول التنظير لحركات الاحتجاج الشعبي الواسعة النطاق، لا في منطقتنا فحسب، بل وفي العالم كلّه، على أنّ مجرد ظهور هذه الحركات على مسرح التاريخ هو - في أحد جوانبه - تعبيرٌ عن أنّ النخب السياسية القديمة، أحزاباً وقوىً وأفراداً، ما عادت قادرة على التعبير عن الواقع الجديد. وأكثر من ذلك، أنّ انفجار الحركات الشعبية بحد ذاته هو تعبيرٌ عن انقطاع الصلة بينها وبين الحركات السياسية التقليدية

رغم أنّ الفكرة السابقة تبدو واسعة الانتشار والقبول، فغالباً ما يقتصر الوقوف عندها على حدودها هذه دون سعيٍ جدي إلى تأمل ما تُمليه هي نفسها من نتائج إضافية، ومن استنتاجات إضافية، لا تقل أهمية عنها.

كي لا نغرق في التنظير، فلنحاول الانتقال إلى مثالٍ محسوسٍ يوضح القصد: في سوريا مثلاً - ولعقود متتالية قبل 2011 - كان الحراك السياسي نخبوياً إلى حد بعيد، وعموم الناس بعيدون عن الممارسة السياسية المباشرة، فكان من المعتاد أن يأخذ الصراع الأيديولوجي (في المقاهي خاصة) الحصة الأكبر من «الممارسة السياسية»؛ صراعٌ زاخرٌ بمصطلحات كبيرة ومعقدة: الليبرالية، النيوليبرالية، الحداثة وما بعدها، الماركسية، القومية، الإسلام السياسي، العَلمانية وإلخ. وضمن كلٍّ من هذه المصطلحات/التيارات، لن نعدم وجود صراعات أخرى أكثر تفصيلية.

بعد 2011 لم تصدّق نخبٌ سياسية تقليدية كثيرة أنّ الشارع «شبّ عن الطوق»، ولم يعد يرى فيها مرجعيّة له، فعادت تلك النخب إلى دفاترها العتيقة، وإلى أدواتها المعرفية القديمة، وحاولت استخدامها في توجيه وقيادة الحركة المنفلتة من العقال، والنتيجة كانت مزيداً من التشويش وعدم الوضوح حول تلك الأدوات و«الاصطلاحات». 

الأهم من ذلك ربّما أنّ الحركة الغضة سمحت من حين إلى آخر - بهذا القدر أو ذاك - لتلك النخب بلعب أدوار قيادية ضمنها، وكان من نتائج ذلك اقتناع من لم يكن قد اقتنع بعد بأنّ جعبة معظم النخب التقليدية قد خلت تماماً من أي فائدة!

وبالتوازي؛ لم يعد مفهوماً ولا واضحاً ما هو اليسار وما هو اليمين؛ إذ برزت أمثلة على ضفتي الصراع يقف فيها «اليسار» و«اليمين» متحدين متضامنين متكافلين. لم يعد واضحاً كذلك أين تقف التيارات الثلاثة (الأساسية فكرياً وشعبياً في مرحلة سابقة)، أي الماركسية والقومية والإسلام السياسي؛ فقد اختلط الحابل بالنابل، ولم يعد معروفاً من يقف مع من وضد من.

بعد 2011 لم تصدّق نخب سياسية تقليدية كثيرة أنّ الشارع «شبّ عن الطوق» ولم يعد يرى فيها مرجعية، فحاولت استخدام أدواتـها المعرفيّة القديمة في توجيه وقيادة الحركة

لمزيدٍ من التحديد، سننتقل إلى مثالين معاصرين: غزة، السويداء. 

في المثال الأول، لم يقف «الشعار الأيديولوجي- الإسلامي» عائقاً في وجه مناصرة شعبية واسعة النطاق للمقاومة ضد الاحتلال، لا في منطقتنا فحسب، بل وبشكل أشد وأوضح في كثير من الدول الغربيّة، والجامعات الغربية التي لم تتوقف فيها الحركة المناصرة للقضية الفلسطينية منذ ستة أشهر، وما انفكّت تتصاعد وتتوسع.

«الشعار الأيديولوجي» نفسه (الإسلامي)، لم يمنع نخباً وأحزاباً تصنف نفسها تحت هذا الشعار، من اتخاذ مواقف ملتبسة أو صريحة ضد المقاومة الفلسطينية بذرائع شتّى، من بينها «عنوان أيديولوجي» أكثر تفصيلية هو «الصراع السني/الشيعي»، «العربي/الفارسي»، إلخ. في كلتا الحالتين ظهرت الحركات الشعبية في كثير من دول العالم، مناصرة لفلسطين، ومنفصلة إلى حد بعيد عن الاصطفافات الأيديولوجية المطروحة على مستوى النخب.

أما في مثال السويداء، وبعد أنْ حُسمت المعركة الأولى لمصلحة «الكرامة» ضد «الجوع» (وكأنهما أمران متضادان متنافران!) ولمصلحة شعارات «2011» ضد «2023-2024»، انتقلنا الآن إلى معارك تنتمي بمعظمها إلى الفضاء السياسي القديم وأدواته، من قبيل الوقوف مع العلمانية أو ضدها، معارك تشترك فيها النخب التي انفضّ عنها القسم الأكبر من الناس، ناقلة معارك المقاهي السابقة إلى ساحة الحراك، ومنفّرةً مزيداً ومزيداً من عموم الناس عن مواصلة الاشتراك في الحركة.

النتيجة؟
ليس الغرض من الكلام السابق التقليل من أهمية وجوهرية الصراعات الأيديولوجية؛ فهذه ستستمر، وستكون لها ضرورتها لعقود عديدة قادمة.

الغرض هو بالضبط الفكرة البسيطة التالية: الناس بعمومها، ونتيجة تجاربها المريرة لم تعد تولي اهتماماً كبيراً لما تقوله النخب والأحزاب عن نفسها على المستوى الأيديولوجي؛ ألا يكفي أنّ السوريين مثلاً عاشوا عقوداً في ظل نظام حكم يقول عن نفسه إنه اشتراكي، ثم في العقدين الأخيرين منذ 2005، يقول عن نفسه إنه نظام اقتصاد سوق اجتماعي/ليبرالي-رأسمالي، وفي الحالتين كان الفقراء يزدادون فقراً وتهميشاً، والأغنياء يزدادون غنىً وسطوة؟!

عموم الناس، ولأنهم في هذه المرحلة من التاريخ في حالة تفاعلٍ إيجابي ونشاط سياسي، باتوا مهتمين أكثر بالبرنامج السياسي الملموس، وبالممارسة السياسية الملموسة لهذه القوة أو تلك، ولم يعودوا مستعدين للاصطفاف وراء شعارات عامة، ثبتَ لهم بالتجربة الملموسة أنها ليست كافية لتكون مقياساً للحقيقة أو للصدق، بل هي في كثير من الأحيان تعميةٌ عن البرامج الحقيقية المخبّأة.

في هذه المرحلة التي تعيشها سوريا، وفي المرحلة القادمة، شهدنا وسنشهد عمليات تفريخٍ هائلة للمجموعات والهيئات والأحزاب والقوى الجديدة؛ وخلاصة القول في هذا الشأن أنّ الامتحان الأساس لهذه القوى «الجديدة» ولمدى «جدّتها» سيكون برامجها وممارستها الملموسة، لا ما تُعلنه وتُشيعه عن نفسها من انتماءات أيديولوجية.