× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

«أزهار عبّاد الشمس العمياء»: الهزيمةُ منتصرةً في حرب إسبانيا بقلم مينديس

المقهى - مراجعات 15-05-2024

«يقتضي التجاوز تحمّل المسؤولية، لا طيّ الصفحة أو اللجوء إلى النسيان». ولتجاوز حقبة دموية من تاريخ إسبانيا، وضع ألبرتو مينديس الحرب الأهلية تحت المجهر، وشخصيات عاشت في خضمها فصول موتها المحتم أمام مرآة الذات، فاعترفت أنها هُزمت بصنوف الهزائم كلها، وتحمّل كلٌّ مسؤوليته.

الصورة: (ألبرتو مينديس بعدسة ابنه / صحيفة elmundo)

عبر ثنائيات الموت والحياة، الهزيمة والانتصار، الذاكرة والنسيان، واستناداً إلى تاريخ اقتُبِس من محاضر محاكمات أو مذكرات أو إفادات شهود أو رسائل كتبها أصحابها قبل موتهم، صاغ ألبرتو مينديس (1941-2004) رائعته «أزهار عبّاد الشمس العمياء»، فكان فيها من الواقعية ما يُرجح كفة الميزان في الحروب الأهلية إلى الموت، وما يُعلن انتصارَ الهزيمة.

الثيمة الرئيسة التي تدور حولها الرواية هي الحرب، وانطلاقاً منها حبك الكاتب روايته عن الحرب الأهلية الإسبانية في أربع قصص قصيرة. يحسب القارئ نفسه أمام قصص مختلفة بأحداث وحبكات وشخصيات، وزمكان مختلفين، توحدها الثيمة الرئيسة. ثم يتراءى له، بدءاً من الفصل الثالث، أنه أمام رواية متشابكة العناصر، متصل بعضها ببعض بإحكام وبشخصيات مترابطة، إن بِصلات دم أو صداقة أو تجربة.

الحرب الأهلية الإسبانية، تلك المرحلة الدامية في تاريخ البلاد الحديث التي امتدت من 18 تموز/يوليو 1936 إلى 1 نيسان/أبريل 1939. تتحدث بعض تقديرات ضحاياها عن أكثر من 1,5 مليون إنسان، بين قتيل وجريح وسجين ومشرد. وقد دارت رحاها بين الجمهوريين، أي اتحاد أحزاب وأطراف يسارية وبعض الضباط الذين انشقوا عن الجيش، وبين القوميين الذين كانوا يدعمون عودة النظام الملكي، ويتشكلون من تحالف قوى الجيش بقيادة الجنرال فرانسيسكو فرانكو، تسانده الأحزاب اليمينية الفاشية والأثرياء وملاك الأراضي ورجال الدين والكنيسة.

لا يعلن المنتصر هزيمته

عنونَ ألبرتو فصول روايته بأشكال الهزائم كلها. كرر مصطلح «الهزيمة» على امتداد فصول الرواية، محمّلةً بالدلالات النفسية والاجتماعية والتاريخية التي اكتسبتها من سياق النص الروائي. فقال بذلك ألا منتصرَ في الحروب الأهلية، الكلّ مهزومون ويد الموت هي العليا.

كانت الهزيمة الأولى من نصيب القبطان كارلوس أليغريا، الذي - قبل ساعات من انتصار جيشه - سلّم نفسه إلى جيش المهزومين، ليُحاكَم بوصفه خائناً. عندما حُكم عليه بالإعدام، لم يمت. ثم اكتشف أن في الحياة صنوفاً من الموت أقسى وأمرّ يعانيها المهزومون في الحروب، كما الخونة والمستسلمون. كأن يشعر المرء بـ«أحاسيس غسقية» وبالخوف وبالعُزلة «التي تجعل منه بقايا إنسان»، كما عبّر لحبيبته إينيس في رسالة كتبها إليها. حتى صار «ضمّ اليد» وهو يُساق إلى حتفه، كافياً لتبديد وحدته.

أما عن سبب استسلامه، فلأنه كان يرى أن الجميع في هذه الحرب مهزومون. حتى المنتصرين منهم، فـ«كيف يعلن المنتصر هزيمته؟». هذا ما اتضح في رسالة كتبها إلى الدكتاتور الإسباني فرانكو، «ليس لاستعطافه أو طلب العفو، بل ليقول إن ما عاشه، عاشه آخرون». فالجميع كانوا «يصارعون بمفعول العادة لا أكثر».

وبما أنّ ميتة واحدة لا تكفي لشخص منبوذ ومهزوم و«عدوّ لنفسه»، ناجٍ من الموت عائش في خضمّه، قرر أن يضع بنفسه خاتمة لها تليق بها. فقد كانت «الحياة بالنسبة إليه وهو ينتظر حتفه، غير محتملة». وهكذا كان للمرة الأولى والأخيرة سيد قراره.

الهزيمة الثانية، كانت من حصة صيبايوس، ابن الـ18 عاماً. شاعر «غنّى للحياة في المتاريس حيث كان يسكن الموت»، وهذه جريمة عظيمةّ بعد هزيمة «حزب الجبهة الشعبية» ضد الفاشيين، هرب برفقة زوجته إلينا - الحامل في شهرها الثامن - إلى منطقة تحت نفوذ الجمهورية ليلتحق بالجيش الذي خسر الحرب. ماتت زوجته في قرية كافييديس، المعلقة على الجبل وهي تضع طفليهما. وبذلك خلّفت وراءها زوجاً يائساً، وطفلاً ينتظر موتاً مؤجّلاً.

وفي مخطوط كتبه بدافع الحب، تحدّى صيبايوس الموت بإنشاد الشعر بين الرصاص، والهزيمة بالحب، والفناء بالرسم. لقد كان الحب هو دافعه الوحيد للبوح. فكتب حتى جفّ الحبر وانتهى الورق ومات الطفل، الذي امتلك اسماً بعد الموت برداً (رفائيل). وكلّما تضاءلت قدرته على الكتابة أو خانته الذاكرة عن استرجاع بيت شعر، تحدّى الصمت بالرسم.

اختار الكاتب ألبرتو مينديس لروايته شخصيات مأزومة، هاربة من الموت وباحثة عنه في الوقت نفسه

أما الهزيمة الثالثة، فكانت لـ خوان صينرا، الماسوني الشيوعي. انتمى إلى هيئة الممرضين في السجن الشعبي. مثُل أمام «محكمة مواجهة الماسونية والشيوعية» التي يرأسها العقيد إيمار، ليُحاكم بوصفه مجرم حرب. فوجد أن إجابةً واحدة قد تنقذ حياته ولو مؤقتاً. كان يكفي أن يكذب على زوجة العقيد إيتمار بشأن ابنها الذي قُتل في الحرب، ليكسب أياماً إضافية من حياته.

لقد تحدّى خوان الموت بالكذب. وبالكذب اختاره بكامل إرادته. فقد ثبت له أن القابعين في السجون، حيث «يُدان الانتحار بوحشية ولا يُتحدّث عن وفيات أخرى»، ليسوا أوفر حياةً من القابعين في المقابر. كان انتظار المرء أن يُنادى اسمه ليلتحق بركب المعدومين أشد فظاعة من الموت نفسه.

توزعت الهزيمة الرابعة بالتساوي بين القسيس سالفادور، وتلميذه لورينصو ووالديه إلينا وريكاردو. ريكاردو مدرّس للأدب ومترجم. أحد منظمي المؤتمر الدولي للكتّاب المناهضين للفاشية، حيث أعلن تبنيه الفكر الماسوني. سُجّل على أنه في حالة فرار، بينما ابنه وزوجته أعلنا وفاته. وفي الحقيقة، كان يعيش في المنزل معهما متخذاً من «الدولاب» مقرّاً لاختبائه.

وفي المقابل، كان القسيس محارباً في «الجيش الوطني»، مشاركاً «في الحرب الصليبية». وفي لحظة الخطيئة أُغرم بإلينا. وعندما رفضته واكتشف أمر زوجها، وضع الأخيرَ بين حدّي الأسر أو الموت بالشكل الذي يفضّل. ليختار ريكاردو الانتحار على الإعدام، أمام طفله وزوجته. فعاش سلفادور بقية حياته بخطيئة لا تغتفر، شاكّاً في ندمه وتائهاً مثل «أزهار عبّاد الشمس العمياء». فراح يطالب الإله بالعفو «بين الموتى والفاشلين والحطام الذي خلّفته الحرب».

وسائل التعبير: محاربة الموت بالخلود

ترك الكاتب شخصيات روايته تحرّر حاجتها إلى التعبير عن مكنونات نفسها ومشاركة أفكارها وهواجسها باستخدام وسائل التعبير كافة. فمثّلت تلك الوسائل، من أشعار أو رسوم أو رسائل وجدانية أو اعترافات على مذبح الخطيئة، خلاصة الانفعالات والأفكار.

كانت وسائل التعبير المستخدمة علاجاً مؤقتاً للرهاب واضطرابات القلق وهرباً من الواقع، ومحاولة لاستبدال مشاعر الحب الصادقة بمشاعر الخوف والألم. فعندما وضعت الحرب أوزارها في نفوس أبنائها، اختار أليغريا أن يبوح لحبيبته بما يخالج نفسه من مشاعر الوحدة. فكتب إليها رسالة تعبّر عن مكنونات شخصيته النفسية والعصبية.

«إذ إن الحبّ يوفّر إمكانية التجاوز لأشكال الوجود، ففيه يلتقي الكائن بحقيقته، وعلّته الحرية الباطنية» وفقاً لبيار سوفاني. وخوان قرر أن يكتب إلى أخيه رسائل لن تصل، يحدّثه فيها عن حاله وهواجسه. أو يكتب إليه هرباً من واقع أليم حيناً آخر. وصيبايوس لاذ بالحبّ وكتب إلى امرأة لن تعود، وإلى قارئ لم يعرف عنه بعد. ثم لما عجزت اللغة عن أداء دورها، اختار الرسم والإنشاد. لا غاية في حد ذاتها، بل أودعهما همومه وأفكاره وعبّر بهما عن عواطف داخلية وأفكار يصعب التعبير عنها. أما القسيس سلفادور، فقد كتب إلى إله يعترف أمامه عاريَ السريرة يرجوه العفو. فكان لعلاقته مع الله وسط مناخ من الانحناء والهزيمة دور في إرساء طمأنينة نفسه.

لقد سمحت هذه الرسائل في الكشف عن مكنونات أنفس بشرية أنهكتها الحروب، سواء خرجت منها منتصرة أم مهزومة. وكذلك أسهمت في سدّ الثغرات السردية وإيصال الأفكار. كما أوضحت بعض أفعال الشخصيات وأجابت عن أسئلة تولدت في ذهن القارئ. فهندست المشاعر وأفسحت المجال في التواصل الإنساني.

صوت من هم بلا صوتَ

لقد اختار الكاتب لروايته شخصيات مأزومة، هاربة من الموت وباحثة عنه في الوقت نفسه. أو على الأقل، هاربة من موت «الذل» باحثة عن موت «بكرامة». همها «ألّا يكون لجيش فرانكو نشوة الانتصار عليها مرتين». لقد اختار لشخصياتها وظائف مختلفة، تجمعها الهزائم والخوف والموت المتربّص بها. شخصيات تبحث عن الأمان والوجود والانتماء، بعضها في عيني أمّ ثكلى أو في أحضان طفل يتيم. وبعضها في مناجاة الحبيبة أو في اعترافات أمام الله. وآخر يبحث عنها في «جيش من المهزومين».

بذلك، استطاع أن ينقل بإبداع كيف تستوطن الحروب نفوس أبنائها الناجين منها، المهزومين فيها. تنغّص عليهم تبعاتُ الهزيمة تفاصيل حياتهم وتقضّ مضاجعهم. إذ ليس الفقر وسوء التغذية والسجون وانتظار الموت أسوأ ما في الأمر. بل العدمية التي تجعل من الإنسان «شيئاً مقفراً»، يبحث «عن أن يكون»، ولن يكون إلا إن نوديَ اسمه ليلتحق بركب «السائرين إلى حتوفهم».

وبما أنّ الرواية تحمل بُعداً إنسانياً، سمح مينديس لنفسه أن يكون صوتَ من هم بلا صوت. فأفسح المجال لكل شخصية في التعبير عن أفكارها وهواجسها. ولذلك تعدَّدت الأصوات وتنوَّعت وجهات النظر بتعدد الرواة وبطرائق رواياتهم لشخصياتهم وللأحداث وللواقع، في بناء سردي محكم وطرائق متنوعة. أضفى ذلك وهجاً سردياً وديناميكية وتنويعاً في العرض بما يكسر من الرتابة في بنية النص الروائي. أُتيحت بذلك الفرصة للقارئ في التأمل وتبنّي وجهة النظر التي يريد.

وعلى إثر ذلك، برزت أهمية الرواية وعمقها الأدبي والفلسفي والأيديولوجي والاجتماعي. فقد أثارت الكثير من القضايا الجوهرية: الحرب والسلم، الانتصار والهزيمة، الحب والاستسلام، الموت والحياة، الكفر والإيمان، الإخلاص والخيانة... كما طفت الإشكاليات المتجدّدة في حياة الإنسان وصراعه الدائم بين الخير والشر. بالإضافة إلى إشكاله المستمر في فهم الحياة وفهم نفسه، ورؤيته للواقع من حوله.

ألبرتو مينديس، أزهار عبّاد الشمس العمياء، ترجمة عبد اللطيف البزي، دار مسكيلياني للنشر والتوزيع – تونس، 2018. عدد الصفحات: 175 صفحة