× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

لهذه الأسباب أخاف من «المركزيّة» و«اللامركزيّة».. وأدافع عنهما!

عقل بارد - على الطاولة 28-05-2024

تتباين الحمولات الدلالية للمصطلحات السياسية تبايناً هائلاً بين ما تخبرنا إياه الكتب، وبين الواقع السوري الراهن. ولأنّ درجة التعقيد عالية جداً، فليس لهذا المقال أن يحيط بموضوع «المركزية» و«اللامركزية»؛ سيكون كافياً – حسب ظني - أن أستعرض بعقل بارد مخاوفي وآمالي تجاه هذا الموضوع، وقد يتقاطع معي فيها كُثرٌ.

الرسم مولّد باستخدام الذكاء الاصطناعي - freepik

كثيراً ما تبدو التعبيرات والاصطلاحات السياسيّة والإدارية بسيطةً، وواضحةً، ومباشرةً، ومحدّدة حين نقرؤها في الكتب. ينطبق هذا على «المركزيّة» و«اللامركزيّة» و«الحوكمة» وحتى «التّعافي المبكر»، وغيرها من التعبيرات التي تحتل مساحة مهمة هذه الأيام من النقاش السياسي المرتبط بالوضع السوري.

بعد أن نتملّى ما تقوله الكتب، ونطمئن إلى «فهمنا»، وبمجرد أن نحوّل نظرنا عنها باتجاه الواقع تتلاشى الطمأنينة سريعاً، وننتبه إلى أنّ الحمولات الدلالية لكل تعبير من التعابير السياسية المشار إليها، أكبر وأثقل وأشد تعقيداً مما هي عليه في الكتب.

فخٌ لغوي

توحي التركيبة اللغوية لكل من «المركزيّة» والـ«لا مركزيّة»، بأننا أمام ضدّين متعاكسين تماماً، لا يمكن الجمع بينهما، بل ينبغي اختيار أحدهما فقط، وبمجرد اختياره نكون قد نفينا الآخر.

هذا الإيحاء اللغوي المخاتل، ورغم أنه لا يصمد أمام أيّ اختبار نظري أو واقعي للفكرة، يلعب دوراً في إحداث استقطابٍ شديد الحدة بين عموم الناس، وحتى بين كثير من الساسة: إمّا أن تكون مع المركزيّة أو أن تكون مع اللامركزيّة... وليس هنالك حلٌ وسط بينهما!

أقول إنه «إيحاء مخاتل» لأن الفهم النظري لموضوع المركزيّة واللامركزيّة، ودراسة التجارب الواقعية المطبقة في بلدان عديدة حول العالم، كلاهما يقول إنّهما تعملان معاً (أي المركزيّة واللامركزيّة) بوصفهما جزءاً من أدوات توزيع السلطة على مستوى البلاد، أيّ بلاد كانت. ويقول أيضاً إنه لا توجد مركزيّة مطلقة، حتى في ظل أكثر الأنظمة استبداداً واحتكاراً للسلطة، بما فيها الملكيات غير الدستورية، ولا توجد لامركزيّة مطلقة حتى في ظل أكثر الدول ديمقراطيّة؛ هنالك دائماً درجة ما من المركزيّة طالما أنّ الحديث عن بلدٍ واحد له عاصمته وعملته وجيشه وسياسته الخارجية، وهنالك دائماً درجة ما من اللامركزيّة ما دام الحديث عن بلد يتوزع سكانه بين مدن ومناطق عديدة، ولهم خصوصياتهم الاقتصادية والقومية وحتى الدينية والطائفية واللغوية وإلخ.

«المركزيّة» و«اللامركزيّة» تعملان معاً بوصفهما جزءاً من أدوات توزيع السلطة على مستوى البلاد

في السياق السوري، وحين نسمع ونقرأ ما تقوله التيارات السياسية المختلفة حول هذه المسألة، سنرى أنّ كثراً (وربما غالبية) من أولئك الذين يوصفون بأنهم «متعصّبون لـ اللامركزيّة» يشتركون مع الطرف «النقيض» الموسوم بـ«تعصبه للمركزيّة»، بأن معظمهم يريد مركزاً قويّاً لدولة واحدة موحدة، لها عاصمتها وجيشها وعملتها وسياستها الخارجية وإلخ.

يمكننا أيضاً أن نرى أنّ كثراً (وربما غالبية) ممن يوسمون بـ«التعصب للمركزيّة»، يشتركون مع «الآخر المقابل»، بأنهم يريدون لمنصب المحافظ مثلاً أن يُنتخب انتخاباً لا أن يعيّنه المركز، ويريدون قدراً من مساحات الحركة للأطراف في مجالات متعددة إدارية وثقافية وتنموية وإلخ.

بقليل من التفكير الهادئ، يبدو أن ثمة إمكانات عملية واسعة للوصول إلى توافقات وتفاهمات؛ فيمكن الاتفاق مثلاً على أننا بحاجة علاقة جديدة بين المركزيّة واللامركزيّة، والانطلاق من هذه الفكرة نحو نقاش تفاصيلها العملية، لكنّ هذا لا يحدث، وتستعر بدلاً منه حالة استقطابٍ حاد في النقاش العام للمسألة، ما يعيدنا إلى النقطة التي بدأنا منها؛ وهي وجود حمولة دلاليّة ثقيلة - ومُخفاةً إلى حدٍّ ما - في كلا التعبيرين: «المركزيّة» و«اللامركزيّة»، حمولة لا تتعلق مباشرة بالفهم الحقيقي والعملي لهما، بل بالمشاريع السياسية التي تُوظف كلّاً منهما ليكون جزءاً منها.

المخاوف

الوصول إلى توافقات حقيقية لا يتطلب فقط تقديم تنازلات متبادلة، بل يتطلب قبل ذلك أن يفهم كلٌّ منّا مخاوف «الآخر»، وأن يحترمها ويحاول النظر إليها بعينٍ وطنية وإنسانية مسؤولة.

أكثر المخاوف المنتشرة وضوحاً على طرفي النقيض، هي من جانبٍ: الخوف من الذهاب باللامركزيّة بعيداً لتكون غطاءً لتقسيم البلاد، ومن جانب مقابل: الذهاب بالمركزيّة بعيداً نحو استنساخ نموذج «سوريا ما قبل 2011»، حيث قد تصل الأمور حدّ تحكُّم المركز بتعيين أصغر موظف رتبةً في أبعد دائرة حكومية في البلاد، فضلاً عن التحكم بالموارد وتوزيعها، وبالتنمية والميزانية الاستثمارية وإلخ.  

رغم أنّ هذين التخوفين محقان - إلى هذا الحد أو ذاك - لكنهما ليسا بين أكبر مخاوفي في التعاطي مع المسألة، ولديّ أسبابي: في ما يخص التقسيم، وعلاوة على أنّ الأغلبية الساحقة من السوريين على اختلاف اصطفافاتهم يرفضونه ويقفون ضده، فإنّ تقسيم بلدٍ من بلدان العالم الذي نعيش فيه لا يستند بالدرجة الأولى إلى وجود أو عدم وجود رغباتٍ محلية بالتقسيم في ذلك بالبلد، بل إلى تدافع وصراع القوى وأوزانها على المستويين الإقليمي والدولي، وتقديري هو أنّ وزن القوى الراغبة في تقسيم سوريا، وعلى رأسها - وفقاً لقناعتي - «إسرائيل» لا يسمح لها بفرض ذلك التقسيم.

من الجهة المقابلة، ولأنّنا «لا نستطيع عبور النهر نفسه مرتين»، ولأنّ الواقع السوري بات في مكانٍ آخر شديد الاختلاف عما كان عليه قبل 2011، فإنّ إعادة استنساخ النموذج السابق بمركزيّته الشديدة يبدو لي أمراً أقرب إلى المستحيل.

الوصول إلى توافقات حقيقية لا يتطلب فقط تقديم تنازلات متبادلة، بل يتطلب قبل ذلك أن يفهم كلٌّ منّا مخاوف «الآخر»، وأن يحترمها

ما يخيفني أكثر، تلك الاحتمالات التي أعتقد أنها أكثر واقعية في استخدام هذين التعبيرين ليكونا شعارين سياسيين.

أُلخص هذه المخاوف في أربع نقاط:

  • أولاً: أن يكون الإصرار على «المركزيّة» أو على «اللامركزيّة»، والهجوم الشرس على «النقيض» في الحالتين، مجرد أداة سياسية لقطع الطريق على التفاهم وعلى التوافق وعلى الحل؛ أي أن يكون التمترس وراء أحد التعبيرين أداة في تكريس تقسيم الأمر الواقع وتكريس سلطاته القائمة، ليكون تالياً أداة تمنع إنهاء الكارثة وإطالة أمدها... وكل ذلك لصالح الممسكين بدفة الأمور حالياً - وإنْ جزئياً - على مستوى «المركز» و«المناطق» على حدّ سواء، وضدّ مصلحة عموم السوريين المحتاجين إلى حلٍ حقيقي وتغيير حقيقي يعيد السلطة إلى الناس، ولا يفرقها بين مجموعة قوى تمارس تسلطها ضدهم لا لصالحهم.
  • ثانياً: أن يجري تقديم اللامركزيّة، وإنْ بشكلٍ موارب، بوصفها أداة للفرار من سلطة المركز؛ هذه الفكرة شديدة الخطورة لأنّ الناس لن تكون لهم سلطة حقيقية في مناطقهم عبر الهرب من المركز، بل على العكس تماماً لن تكون للناس سلطة حقيقية في المناطق ما لم تكن لهم سلطة حقيقية تمثلهم في المركز. خلاف ذلك، فإنّ ما كان يُمارس من عسف وظلم على نطاقٍ وطني شاملٍ، قد يتحول إلى عسفٍ وظلم على مستويات محلية، يجري فيها استنساخ المركَزَة السابقة نفسها، ولكن على نطاقات أضيق. هذا الأمر أشد خطورة حتى من المركزيّة على نطاق وطني، لأنّه سيسحب من السوريين قدرتهم على نضالٍ سياسيٍ عامٍ وواسع ومشترك، ويحولهم إلى «رعايا» لسلطات عديدة تستغلهم من جهة، وتستخدمهم من الجهة الأخرى في عملية التحاصص والتقاسم والتنافس مع السلطات الأخرى ضمن البلاد.
  • ثالثاً: الخوف السابق يصبح أكثر تهديداً حين يجري تضمين اللامركزيّة أفكاراً حول مسائل الهويات؛ فيصبح التقسيم الإداري للبلاد، وتوزيع الصلاحيات ضمنها، مقروناً بالتركيبات الديمغرافية المتنوعة. ومشكلتنا في سوريا هي أنّ التوزع الديمغرافي (ضمناً التوزع الطائفي والعشائري والقومي)، وبسبب الضعف الهائل في التنمية، والضعف الهائل في تطوير نموذج إنتاجي فاعل، لم يطرأ عليه تغيير جدي طوال قرون متتالية، وبقي حتى الآن شبيهاً بحالة الانعزال النسبي في المرحلة الإقطاعية، مرحلة ما قبل الدولة الوطنية. ربما اختل هذا التوزع خلال سنوات الحرب وما أنتجته من نزوح داخلي ولجوء خارجي، وربما اختلّ «إيجاباً» باتجاه درجة من الاندماج والاختلاط بين السوريين والسوريات لم تكن موجودة سابقاً، لكنّه لم يزُل كليّاً. ولهذا، أرى أنّ مسألة الهويات وضمناً الهوية الوطنية والهوية القومية والهويات الأخرى الفرعية، ينبغي أن توضع على الطاولة باسمها هذا، وبدون أقنعة «مركزيّة» و«لامركزيّة»...
  • رابعاً: يخيفني أيضاً الاحتفاء المبالغ به، والغربي خاصّة، بالحديث عن اللامركزيّة وتمويل مشاريعها والتنظير لها، أسوةً بما يجري حالياً بخصوص «التعافي المبكر»، وبما يوحي بأنّ هذه المشاريع هي بديل الحل السياسي الشامل على مستوى البلاد، وبأنها أدوات لا لـ«التطبيع مع النظام» كما يقال، بل لتطبيعنا مع الوضع الراهن، واستدامته... هذه الاستدامة الطويلة الأمد، مع اختفاء سوقٍ وطنية واحدة، ووجود ثلاث عملات متداولةٍ على الأقل في الأراضي السورية، ووجود أربع أو خمس سلطات متمايزة، ومع الوقت، يمكنها فعلاً أن تجعل من خطر التقسيم البعيد نسبياً، أكثر قرباً وواقعية...

الأمل

أطلت في الحديث عن المخاوف، ولم أترك سوى حيزٍ ضيق للحديث عن الأمل؛ ولكنه مع ذلك أمل كبير وواقعي؛ أملٌ بأن تعبّر كل من المركزيّة واللامركزيّة عن سلطة السوريين على بلادهم بأكملها، وعلى مناطقهم التي يسكنونها في الوقت نفسه... هذه الوصفة ليست وصفة سحرية، بل أجرؤ على القول إنها الوصفة الوحيدة الممكنة إذا كان هدفنا هو سلطة الشعب السوري بمجمله على أرضه وموارده ومصيره، وليس سلطة هذا الطرف السياسي أو ذاك...