× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

أين يقع المغرب؟

حكاياتنا - حشيش 09-06-2020

في هذه البلاد فروع كثيرةً. أينما ولّيت وجهك فهناك فرع. لا تسيئوا الظنّ، فأنا لا أقصد فروع اﻷمن التي تشبه القلاع، وتحتلّ أفضل المواقع في البلاد، ولا يزورها إلا كل مغضوب من والديه

الصورة: (حسّان بليبل - كارتون موفمينت)

*تنويه ضروري وجادّ
مضت سنواتٌ طويلة لم أسمع فيها خبراً عن أستاذي الذي تعلمتُ منه كيف أحوّل الكلمات إلى مدن وشوارع وأنهار وأناسٍ وأحلام. سألتُ كثيرين عنه، فأخبروني أنه هاجر إلى بريطانيا باختياره، وانقطعت أخباره. أودّ أن أردّ بعضَ جميله، فأهديه - أنا البنت التي صارت عجوزاً خَرِفة - ما أكتب. إلى أستاذي «الحدّاد في وطن الفخّار» هذه الوقائع غير المتخيلة أبداً.

أنهيتُ دراستي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في إحدى الجامعات السورية، قبل أكثر من عشرين عاماً. 
كنت قبلها قد صرفت عشرين أخرى، في تعلّم ما لا يفيد ولا يضر. وقضيت ما بعدها من سنوات عمري، وأنا أبحث عن وظيفة تقيني غضب أبي الذي صرف عليّ ما يظنها أموالاً طائلة، حتى أكملت دراسة فرع لا يحبه أحد في هذه البقعة من الكوكب.
في هذه البلاد المنتفخة بكل أنواع الفروع والأفرع، كان فرع التاريخ من أسوأ الفروع للدراسة، ولا يقبل عليه إلا كل سيئة أو سيئ حظ، نتبادل فيه تفريعات التاريخ المكشوف فقط، أما المخفى في طيّات الصدور والمؤخّرات والمقدمات، فلا نجرؤ على الاقتراب من مجاهيله.
ما إن تنتهي من إعادة «تبصيم» ما يطلب منك ونقله إلى الورق وتتخرج، حتى تصدمك قطارات الحياة وسياراتها بأن لا حاجة لأحد بهذا التاريخ المسكون في رأسك. فوق ذلك، ليس لك حظ في سوق الدروس الخصوصية، لذلك تمضي حياتك وأنت تستعيدُ نابليون في لحظاته الأخيرة وهو يهذي بأن «التاريخ هو صيغة أحداث الماضي التي قرر الناس الاتفاق عليها»... من دونك!
مرة؛ سألتُ أستاذ مادة تاريخ الأندلس: «لماذا أحرق طارق بن زياد السفن، بدلاً من أن يخفيها في أي زاوية لا يراها الإسبان؟»
نظر إليّ بقرف، وبدلاً من أن يجيبني، أشار بإصبعه الوسطى أن «انقلعي برا». بالطبع، انقلعت وسط ضحك «زملاء التاريخ»، وما زلت أنقلع من كثير من اﻷماكن، لمثل ذلك السبب.
في هذه البلاد فروع كثيرةً. أينما ولّيت وجهك فهناك فرع. لا تسيئوا الظنّ، فأنا لا أقصد فروع اﻷمن التي تشبه القلاع، وتحتلّ أفضل المواقع في البلاد، ولا يزورها إلا كل مغضوب من والديه.

صدّقوني؛ لقد زرتُ مرة أحدها، ورفضتُ أن أشرب فنجان القهوة الذي قدّموه لي، ولم يحدث لي أي شيء، بل خرجت في الساعة نفسها. أعرف أنكم لم، ولن تصدّقوا، حتى لو بلعت المصحف واﻹنجيل والدستور والصحف الوطنية، ومجلة الحسناء والمناضل، أقصد الحسناء والوحش. لكن هذا ما حصل بالفعل، خرجت في الساعة نفسها بعد ثلاث سنوات كاملة.
بعد التاريخ، كان عليّ كي أستحقّ الانضمام إلى جيش الموظفين المرضيّ عنهم من فوق اﻷفرع والفروع، أن أنضمّ إلى فرع آخر: فرع الحزب. طبعاً، لا حاجة إلى ذكر اسمه، فهو «الحزب»، وغيره لا لا.  
ﻷنّ أحد أقربائي من الدرجة الرابعة كان ممن دخلوا مرةً فرعاً لشرب فنجان قهوة - لم تعجبه القهوة مثلي، فقد كان يفضل الشاي الخمير ـ وبقي هناك قرابة عشر سنوات، على أمل إقناعه بتغيير رأيه في الضرورة الوطنية والقومية للقهوة، لم أَفٌز بعضوية الحزب. وبرغم أنني «تفرّعتُ» يومها، فلا تفريعتي، ولا فروعي ولا أصولي أعجبتهم، وهكذا طارت عليّ أول فرصة للتوظيف.

كان عليّ كي أستحقّ الانضمام إلى جيش الموظفين المرضيّ عنهم أن أنضمّ إلى فرع آخر: فرع الحزب. طبعاً، لا حاجة إلى ذكر اسمه، فهو «الحزب» وغيره لا لا

واصلت السعي، فلدينا تشكيلةٌ واسعةٌ في «دواخل» هذه البلاد. بعضها يصرّ على أنه «ليس لدينا فرعٌ آخرٌ»، مع أن القاصي والداني يعرف أن تعدد الفروع أمرٌ جيّدٌ في التجارة والمبايعات والأمن. وبعضها اﻷخر، يوزّع لك على خارطة البلاد فروعه التي تحتل مقدماتها نساء وصبايا حسان أكثر مني بما لا يقاس. فأنا، لسوء حظي، لم تهبني الطبيعة ولا أمي ولا أبي أياً من الصفات المرغوبة في فروع الشركات والأعمال، ولا أحد يهتم بـ«فرع التاريخ»، بقدر اهتمامه بفروع من نوع آخر، وفوارع.
ثمّ حدثت المعجزة. أعلنت جامعتي نفسها، عن مسابقة للتوظيف في الشؤون الإدارية لكليتي نفسها. وكان المطلوب خريجاً من عضام رقبة فرعي نفسه. قلت في نفسي: أخيراً استجاب الله لدموع أمي وغضب أبي، وردّ عليهم اتصالاتهم ونذورهم التي دفعوا فيها أكثر من تكاليف دراستي.
المهم، جهّزتُ نفسي للاختبارات الكتابية والشفهية، وأعدت قراءة تاريخنا الزاهي الناصع البياض، لا بل إنني تجرأتُ وقرأت بعض الأشياء التي قد أسأل عنها، في الحقوق والواجبات والهندسة والطب وحتى اللغة الفارسية. 

في اليوم الموعود، ذهبت بكامل تفريعاتي إلى كلّيتي القديمة. لم أستعد أي ذكرى، ولا أحسست بأي حنين، فقط كنت أصلّي أن «أتوظف» قبل أن يموت أبي.
أنهيتُ الاختبار الكتابي بنجاح، وعرفتُ كل إجابات اﻷسئلة. 
عندما أخبرني زميلي الذي أصبح معيداً ـ لا أعرف كيف ـ أن علامتي فوق التسعين، وأن عليّ أن أذهب فوراً للاختبار الشفهي، لم أصدّق نفسي وقدرتي على تجاوز هذا المطبّ التاريخي.
دخلت الاختبار الشفهي.

كانت الصاعقة التي سوّدت وجهي أن أستاذ مادة التاريخ اﻷندلسي (ما غيرو) هو رئيس اللجنة!

بسملت وحوقلت وقلت في نفسي لابدّ أنه نسي، فقد مضت سنوات طويلة على تلك الحادثة وأنا بتّ أعقل. ومع ركبة تكاد تنقصف جلست أمامه مطرقة الوجه خوفاً من أن يتذكرني.
سألني أول سؤال فأجبت وأنا مطرقة الرأس، فالثاني والثالث والخامس. كنت وقتها أُمني نفسي بأن الأمور تمضي قدماً بخير، إلى أن انتبهتُ أنه يحدّق بي. 
ألقى عليّ السؤال الأخير، السؤال الفصل:
ـ أين يقع المغرب؟
تظاهرتُ كسباً للوقت بأنني لم أسمع السؤال، فأعاده عليّ بوضوح:
ـ أين يقع المغرب؟
لم أكن غبية ﻷدرك أنه سؤال مفخخ، سؤال يعني ببساطة أنني مرفوضة، وأن كل ما جرى مسرحية من الدرجة العاشرة، وهناك من حجز المكان سلفاً.

لكن، وتفادياً ﻷي سوء ظن، كان عليّ إيجاد طريقة مناسبة لاكتشاف الجواب المطلوب، عن سؤال يحتمل خمس إجابات على الأقل. 
قد يقع المغرب غرب الجزائر، جنوب إسبانيا، على ساحل المحيط اﻷطلسي. أو قد يكون المغرب بين العصر والعشاء، وقد يكون عكس المشرق، جنوب شرق الشمال، عشرات اﻹجابات خطرت ببالي من دون أن أنبس ببنت شفة.
مضت السنوات بعد تلك المسابقة ولم أصبح موظفة. مات أبي، فأمي، ونبتت في البلاد فروعٌ كثيرة من داخلها وخارجها، ولا أزال أحاول أن أتناسى الجواب الذي رميته في وجه الأستاذ الأندلسي. يومها، وقفتُ، واستدرت، ثم حملتُ الكرسي، وبكل ما أملك من قوة قذفته فوق اﻷندلسي الذي بهت وسقط مغشياً عليه.
هل عرفتم اﻵن أين قضيت السنوات الثلاث التي رفضت فيها شرب القهوة؟


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها