× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

أرزة في ريف حماة.. الترحيل القسري مستمر بعد المجزرة

حكاياتنا - خبز 05-07-2025

في السابع من آذار/مارس، جُمع عشرات الذكور من أبناء قرية أرزة بريف حماة في ساحة القرية، ثم ارتُكبت مذبحة غيرت مصير القرية إلى الأبد. أُعدم 23 رجلاً وامرأة واحدة، ثم نُكّل بالجثث، ودُفع من تبقى إلى الفرار تحت التهديد تمهيداً لتغيير ديمغرافي واستيلاء على الملكيات.

«جمعوا الرجال عند دوّار القرية، مع إهانات لفظية وجسدية وشتائم طائفية، ثم أعدموهم بشكل جماعي. عندما انتهى المجرمون من قتل هذه المجموعة، ربطوا الجثامين بالسيارات وجرّوها حتى المبرّة، ثم تركوها هناك». يقول محمد (40 عاماً – اسم مستعار)، أحد أبناء قرية أرزة في ريف حماة الشمالي مسترجعاً وقائع مجزرة شهدتها قريته في السابع من آذار/مارس الماضي.

أفضت المجزرة إلى مقتل 23 رجلاً وامرأة واحدة، بالتزامن مع مجازر الساحل السوري التي خلّفت نحو 1600 ضحية، وقضت فيها عائلات بأكملها وفق «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، بينما يرتفع العدد إلى 1743 ضحيّة وفق إحصائية نشرتها «مجموعة السلم الأهلي» السورية المستقلة في 29 آذار/مارس 2025.

جاءت مجازر الساحل عقب تحركات عسكريّة لمجموعات من بقايا النظام السابق، وسقط فيها قتلى من الأمن العام (كان عددهم 15 في أول حصيلة وردت في 6 آذار، وفي 9 آذار قال مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان إن الحصيلة بلغت167 عنصراً).

لكنّ لـ«مجزرة أرزة» أهميّة خاصة، فالقرية لم تشهد أي نشاط عسكري مضاد للسلطات الحالية، ولم تكن ضمن مخططات «فلول النظام» التي تعتبرها الرواية الرسميّة حتى الآن السبب المباشر لوقوع المجازر في الساحل السوري، أو «الانتهاكات» كما تسميها الرواية.

يُعرّف التطهير العرقي بأنّه: «إزالة ممنهجة قسرية لمجموعات إثنية أو عِرقية من منطقة معينة، وذلك مِن قبل مجموعة عرقية أخرى أقوى منها، غالباً بنيّة جعل المنطقة متجانسة عرقياً».

يكشف هذا التحقيق أن مجزرة أرزة في 7 آذار/مارس تأتي ضمن سياق متكامل يُعلن فيه المرتكبون بوضوح أن غايتهم تغيير ديموغرافيا القرية بشكل جذري، وفي سبيل ذلك يُنفذون سلسلة جرائم على مدار شهور كانت ذروتها في 7 آذار/مارس، وتشمل هذه الجرائم: القتل الفردي، والمجازر الجماعية، والتهجير القسري، وحرق الممتلكات، واحتلال البيوت، وتغيير اسم القرية، وإجبار جزء من السكان على توقيع عقود تأجير صوريّة لممتلكاتهم العقارية كما يُبيّن التحقيق.

مقطع مصوّر يُظهر بعض ضحايا مجزرة أرزة - محتوى عنيف +18

إفطار الدّم..

لم تكن آية (25 عاماً - اسم مستعار)، التي اعتادت صيام شهر رمضان كاملاً، تعتقد أنها ستضطر إلى قطع الصيام في اليوم السابع، وتضطر إلى الهروب من منزلها في قرية أرزة مع طفلها، وذاكرة مليئة بالدم والقتل.

في مساء ذلك اليوم (7 آذار/مارس 2025) باتت القرية خاليةً من سكّانها، بعد منح من لم يُقتل مُهلة ساعتين للمغادرة، ففرّ السكان إلى أرياف سلمية ومصياف وطرطوس وحمص.

تروي آية لـ«صوت سوري» بعض تفاصيل الليلة التي سبقت المجزرة. تقول: «بعد منتصف الليل، تحديداً في الساعة 12:30 بدأت مكبرات الصوت في جوامع بعض القرى المجاورة لنا، وأقربها شيحة وخطّاب (تبعد نحو 3 كيلومترات فقط) بإطلاق نداءات الجهاد: حيّ على الجهاد، الله أكبر، جايينكم يا علوية...». دبّ الذعر في أرزة، «اتصلنا بعائلات من القريتين القريبتين (شيحة والخطاب) تربطنا بها علاقات صداقة، أخبرونا أنهم يحاولون تأجيل دخول فصائل الجهاديين حتى الصباح، لينجو الناس بأنفسهم خارج القرية»، تقول آية. 

لم يُغادر سكان أرزة قريتهم، لأن الظلام والرعب كانا يتسيدان الموقف، ونداءات الجهاد تتناهى إليهم. قرروا الانتظار حتى الصباح، لكن الأحوال لم تتغير، ومع انتصاف النهار في توقيت صلاة الجمعة اقتُحمت القرية، كانت الساعة تشير إلى الواحدة ظهراً تقريباً حين دخلت مجموعات مسلحة بيوت قرية أرزة تسبقها هتافات طائفية. «فتشوا بحثاً عن الذكور، أخذوا كل من وجدوه أيّاً كان عمره أو عمله، جمعوهم عند دوار القرية الرئيسي، وأعدموهم ميدانياً، مع التأكد من مقتل الجميع»، تستذكر السيدة بحرقة. 

فيما تقول ندى (34 عاماً، اسم مستعار)، وهي زوجة أحد ضحايا المجزرة: «زوجي فلاح وصاحب محل أعلاف، دخلوا بيتنا، كنا أنا وأولادي الثلاثة وزوجي. أخذوه، صرختُ بهم أن يتركوه، قالوا سنحقّق معه، وإذا لم يكن متورطاً بشيء سنتركه. بعد قليل سمعتُ إطلاق نار، لم أتخيّل أنه لن يعود».

مقطع يوثق الانطلاق لاقتحام أرزة، يحمل البعض أسلحتهم، ويهتف البعض «أحرار بلدة خطّاب»

«القائد» معروف

يعرف سكان أرزة قاتلهم جيداً. أفصحت شهادات من تحدثنا إليهم، وهم ناجون وناجيات وشهود عيان مباشرون على الأحداث، عن تورط عدد من سكان قرية خطاب المجاورة في الهجوم على قريتهم. وأظهرت مقاطع مصورة انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي هجوم مئات المسلحين، بعضهم مشيًا على الأقدام، وبعضهم بالسيارات والدراجات النارية، معلنين أنهم «أحرار بلدة خطاب، وأنهم مع الدولة الجديدة، ومع قيادة العمليات ووزارة الدفاع»، وقد عبروا حاجز الأمن العام الموجود عند مدخل القرية، وتقول شهادات الأهالي إن عناصر الحاجز لم يحاولوا منع الاقتحام، لكنهم تدخلوا لاحقاً لإيقاف عمليات الإعدام.

بعدما هاجمت مجموعات من «فلول النظام السابق» حواجز ومقار للأمن العام في ريفي جبلة واللاذقية في 6 آذار/مارس 2025، أُطلق «نفير عام»، ونودي «حي على الجهاد يا أهل السنّة» في كثير من المدن والقرى السورية، وضجت مواقع التواصل الاجتماعي بخطابات التحريض الموجهة ضد «جميع العلويين». رصدنا مقطعاً مصوّراً يوثّق إطلاق مثل هذه الدعوات عبر عنصر ملثّم من عناصر الأمن، داخل أحد المساجد . 

كان أبو جابر الخطابي (محمد عبد الغني المحمود)، – ولا يزال – واحداً من أنشط المحرضين عبر صفحته الشخصية على موقع «فايسبوك»، ووثقنا بعض منشوراته. قاد الخطابي الهجوم على قرية أرزة وأشرف على ارتكاب المجزرة والتنكيل بجثامين الضحايا. 

ينحدر أبو جابر من بلدة خطاب في ريف حماة الشمالي، وكان في 2012 قائداً لـ «لواء ابن الخطاب»، كما شغل منصب «المسؤول الشرعي» في «فرقة السلطان سليمان شاه» المعروفة باسم «العمشات»، بقيادة محمد الجاسم/أبو عمشة. أما حاليّاً فيعمل مدرّساً في «ثانويّة خطّاب للبنين».

مع سبق الإصرار

يستذكر محمد: «كانت شرارة الكارثة عبر بث مباشر لأبو جابر على صفحته قبل المجزرة بيوم، أي في 6 آذار عصراً، ووعد فيه بالانتقام من علويي قرية أرزة، والثأر لشهداء الأمن العام في اللاذقية. مما قاله في البث: "كل شهيد من الأمن العام رح نقتل بداله 2 علويين من أرزة"، وقد أزال فيديو البث لاحقاً، بعد قرارات صدرت عن الحكومة حول تجريم التحريض الطائفي». يتحسر محمد: «لقد حذّرنا أبو جابر قائلاً: "رَملاً باتجاه الساحل، أعذر من أنذر، الكويس قبل السيئ" ليتنا سمعنا منه ولم نثق بأحد».

إثر ذلك البث المباشر، اجتمع وجهاء قرية أرزة، وأجروا اتصالاً مع أبو جابر في العاشرة من ليل 6 آذار/مارس. يروي محمد: «قالوا له: كل عمرنا أهل وأخوة يا أبو جابر... وغيره من الكلام المشابه في محاولة لاحتواء الموقف، فكان جواب أبو جابر: الأمان عليكم، سأجتمع غداً بكم في مبرّة القرية (صالة العزاء)». في اليوم التالي، وبعد المجزرة، حرص أبو جابر على ربط جثامين بالسيارات، وجرّها إلى حيث المبرّة، وفاء لوعده لهم بالاجتماع هناك!

ينهي محمد شهادته بصوت مرتجف: «قتلوا عمَّي الاثنين، وجيراني، ورفيق عمري، وابن عمتي. اضطررتُ للهرب إلى البساتين وتركت زوجتي وأطفالي في البيت. لو قتلوهم أو اغتصبوهم، لكنتُ قتلتُ نفسي بعدهم. كل ما أتمناه اليوم أن أعيش بقية حياتي بلا ذاكرة».

مع فرار الأهالي بعد وقوع المجزرة، لم يبقَ هناك من يدفن جثث الضحايا. تشير شهادات حصلنا عليها من بعض ذوي الضحايا إلى أن الدفن حصل بواسطة «بعض العائلات من أصدقائنا من القرى (السنّيّة) المجاورة، استعنّا بهم ليدفنوا شهداء المجزرة الذين بقوا أياماً أمام المبرّة. استجابوا، وأحضروا "التركس" وحفروا حفرة كبيرة لتكون مقبرة جماعية».

«لم يبقَ لكم شيء في أرزة»

بعد نحو ستة أسابيع من المجزرة، نشر أبو جابر الخطابي على صفحته الشخصية في «فايسبوك» صورةً يُجهز فيها لافتة تحمل اسم «خطّاب الجديدة» ويُعلن نيته تغيير اسم أرزة، وقوبل المنشور باحتفاء من حسابات عديدة بأسماء صريحة. 

تفاعل العديد من السوريين مع الصورة واعتبروها دليلاً على «أول حالة تهجير قسري علني بعد سقوط النظام، وأول محاولة لتغيير ديمغرافي، بدعم وتواطؤ من السلطات السورية الانتقالية». لكن سرعان ما نُسي الموضوع لصالح «تريند آخر».

لم تكن الصورة مجرد استعراض، فعلى أرض الواقع تشهد أرزة عملاً ممنهجاً للتغيير الديمغرافي بشكل جذري، لا يقتصر على تهجير السكان مؤقّتاً، بل يشمل السيطرة على ما تبقى من أملاكهم وعقاراتهم ومنعهم أي فرصة للعودة إلى قريتهم.

وفق بيانات «المكتب المركزي للإحصاء» وهو الجهة التوثيقية الرسمية في سوريا قبل سقوط النظام، بلغ عدد سكان قرية أرزة 1280 شخصًا في إحصاء العام 2004، فيما قال موظف يعمل في بلدية خطاب (رفض الكشف عن اسمه)، إن عدد سكان قرية أرزة في سجلات الأحوال المدنية (النفوس) يبلغ 2200 نسمة.

يُقدّر عدد منازل القرية بـ 305 منازل تعرض معظمها لأعمال حرق ونهب، واستولى عدد من أبناء قرية خطاب على منازل فيها. كثرٌ من أبناء أرزة الذين عادوا لتفقّد منازلهم وأرزاقهم لاحقاً وجدوا فيها من احتلّها.

تُظهر مقاطع مصورة منشورة على «يوتيوب» ومواقع أخرى بيوتاً كُتب على جدرانها عبارات مثل: «محجوز للهيئة» (في إشارة لهيئة تحرير الشام) و«محجوز لحركة أحرار الشام»، وهما فصيلان عسكريان من المفترض أنهما حَلّا نفسيهما بعد «مؤتمر النصر» الذي عُقد في 29 كانون الثاني/يناير 2025، وأصبحا جزءاً من وزارة الدفاع السورية الجديدة.

صاغ المستولون عقود إيجار لعدد من المنازل، وأرسلوا صور العقود عبر تطبيق «واتساب» إلى أصحاب المنازل، وأخبروهم بأنهم استأجروا منازلهم. في حين أُجبر بعض الأهالي على توقيع عقود إيجار أثناء زيارتهم القرية لتفقد منازلهم وأراضيهم.

تقول رانيا (25 عاماً، اسم مستعار) إن والدها أُجبر على توقيع عقد إيجار صوري، ومُنع حتى من الاحتفاظ بنسخة من ذلك العقد. وتضيف: «بعض أهالي القرية وقعوا عقوداً مع معارفهم وأصدقائهم من القرى المجاورة لحماية بيوتهم والاطمئنان على أراضيهم، لكن بعد الاستيلاء على البيوت، لم يُسمح حتى لهؤلاء المعارف بالبقاء، وأُخرجوا منها. بعض الأهالي أُجبروا أيضاً على توقيع عقود مع القادمين الجدد، لكن المشكلة أننا لا نعرف حتى أسماءهم الحقيقية، ولا نعرف سوى ألقابهم». تروي رانيا أن والدها حاول التواصل مع الشخص الذي احتل البيت، لكنّه هدده وقال له: «لا تتصل مرة ثانية، لم يبقَ لكم شيء في أرزة».

قوننة الاستيلاء

إجبار سكان قرية أرزة على توقيع العقود بعد المجازر يُعد «جريمة غصب عقار وفقاً للمادة 723 من قانون العقوبات السوري رقم 148 للعام 1949»، وفق ما يقوله المحامي رضا نقشبندي لـ«صوت سوري». 

يشرح نقشبندي أن القانون يُعاقب على هذه الجريمة بالحبس حتى ستة أشهر، وقد تمتد إلى عام إذا رافقها تهديد أو جبر، وترتفع العقوبة إذا اشترك في الجريمة مسلّحون. كما يُعدّ الاستيلاء على الأثاث والمنقولات من دون مبرر قانوني جريمة سرقة بالعنف أو سرقة موصوفة، وفقاً للمواد 624–625 من القانون ذاته، وقد تصل عقوبتها إلى خمس عشرة سنة، وترتفع إلى السجن المؤبد أو الإعدام إذا رافقتها جرائم قتل.

خطوة العقود الصوريّة، تأتي وفق رأي نقشبندي «محاولةً من المستولين لقوننة وجودهم في البيوت من خلال عقود البيع والإيجار، لكن وبما أنه لا يوجد ختم رسمي، يُعد العقد بين الطرفين غير ملزم». 

أيضاً؛ من القرائن الموجبة لعد العقد لاغياً «عدم وجود بصمة أو توقيع المؤجر (المالك)» كما يمكن اعتبار تاريخ العقد قرينة على الإكراه. (في المثال الذي ننشره أُرّخ العقد بتاريخ 4 نيسان 2025، أي بعد المجازر بنحو شهر).

بدوره؛ يشرح بسام الأحمد، وهو مدير منظمة «سوريون من أجل الحقيقة والعدالة» أن الاعتداء على عقارات سكان قرية أرزة «يُعد خرقاً للقوانين الدولية والقوانين السورية. الحق في التملك والسكن اللائق، وفقًا للقوانين الدولية، يُعتبر من الحقوق الأساسية للإنسان. وبالتالي، لا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفاً، وذلك استناداً إلى المادتين 17 و25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادتين 17 و11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والمادة 14 من اتفاقية سيداو للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة. ويُشكل استيلاء العناصر المسلحة على المنازل ونهب محتوياتها خرقاً واضحاً للمواد المذكورة، في ظل عدم وجود أي أمر قضائي يُوجب هذا الإخلاء أو مصادرة الموجودات».

تهجير قسري بلا اعتراف قانوني

يؤكد بسام الأحمد أن إرغام عائلات أرزة على النزوح خلافاً لإرادتهم، دون مبرر قانوني، وباستخدام التهديد أو القوة أو العنف، «يُعد جريمة تهجير قسري، وهي محظورة بموجب المادة 9 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة للعام 1949، والمادة 17 من البروتوكول الإضافي الثاني لاتفاقيات جنيف للعام 1977. كما اعتبر نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية فعل التهجير القسري جريمة حرب».

لكن القانون السوري «لا يعترف بالجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية، والتهجير القسري، والتطهير العرقي»، كما يؤكد المحامي رضا نقشبندي لـ«صوت سوري».

يُعلّل نقشبندي ذلك بأن سوريا لم تصادق على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ولم تُدرج في تشريعاتها المحلية جرائم مثل الإبادة الجماعية، أو الجرائم ضد الإنسانية، أو التطهير العرقي. واستنادًا إلى مبدأ قانوني عام هو «لا جريمة دون نص» لا تُعد الأفعال جرائم ما لم يرد تعريف قانوني لها في قانون العقوبات. 

حتى الآن، لا توجد تشريعات داخلية تعترف بهذه الجرائم أو تجرّمها بهذه الأوصاف في القانون السوري. ويتطلّب إصلاح القانون «تعديلاً تشريعياً يشمل إدخال تعريفات للجرائم ضد الإنسانية، والإبادة، والتهجير القسري، فضلاً عن تعديل قانون العقوبات لتضمين العقوبات المناسبة لهذه الجرائم، وإقرار نظام مؤسساتي، مثل هيئة وطنية للعدالة الانتقالية، تتولى إدارة هذه الملفات».

السلطات متواطئة؟ 

اتفقت شهادات ستة من الأهالي الذين تحدثنا معهم على أن حاجز الأمن العام، المؤلف من ستة عناصر فقط، لم يتمكن من التدخل لحمايتهم رغم التهديدات المتكررة التي وصلتهم من القرى المجاورة. 

وتشير إحدى الشهادات إلى «عناصر من الأمن العام طلبوا منا الخروج من القرية فوراً  لأنه لن يستطيع حماية القرية من الفصائل، خرجنا بثيابنا فقط، واستكملت الفصائل مع مجموعات من المدنيين نهب بيوت أرزة.. حتى النوافذ والأبواب وصنابير المياه لم تسلم من القلع والسرقة والتخريب».

لم تكن مجزرة 7 آذار/مارس الأولى التي تقع في قرية أرزة؛ ففي 31/12/2024، داهم مسلحون القرية وارتكبوا مجزرة خلفت ثمانية ضحايا من الذكور.

تتذكر ليلى (21 عاماً، اسم مستعار) المجزرة الأولى التي ارتُكبت أيضاً في يوم جمعة. «في الثامنة ليلاً، دخلت جماعة مسلحة (3 سيارات) عبر الطريق الزراعي أسفل القرية إلى ثلاثة منازل. أمروا النساء بالتجمع في غرفة واحدة، وأخرجوا الشبان، ثم قتلوهم بمسدسات مزودة بكواتم صوت، وغادروا المكان فور تنفيذهم الجريمة».

عقب المجزرة الأولى، نقلت وسائل إعلام مقربة من السلطة أن قوات الأمن طوقت القرية وشرعت في عمليات تمشيط بحثاً عن المسلحين المسؤولين عن الهجوم. تقول رانيا «في اليوم التالي للمجزرة انتهى البحث، وأُعلن عدم إيجاد المجرمين». 

سهّلت المجزرة الأولى وتساهل السلطات مع الحملات التحريضية بمشاركة بعض موظفيها، حدوث المجزرة الثانية في آذار، خاصة أن كل المجازر والانتهاكات التي حصلت قبل مجازر آذار لم تواجه بتحقيقات ومحاسبة فعليّة. وبرغم علنيّة تورّط أشخاص مثل أبو جابر الخطابي في المجازر، وتفاخرهم بها، لم تُسجل أي محاسبة مؤكّدة حتى الآن.

كان الرئيس الانتقالي أحمد الشرع قد شكّل في 9 آذار / مارس لجنة للتحقيق في «أحداث الساحل»، وكان من المفترض أن تُنجز أعمالها خلال شهر، قبل أن يُمدد في 7 نيسان/أبريل عملها ثلاثة أشهر إضافية غير قابلة للتمديد.

في أحدث تصريح صادر عن اللجنة، قال المتحدث باسمها ياسر الفرحان لوكالة «رويترز» إنها «تعكف حالياً على تحليل المعلومات، ثم ستكتب تقريرها النهائي بناء على شهادات ومعلومات جُمعت من أكثر من ألف شخص، بالإضافة إلى إحاطات من مسؤولين واستجوابات لمعتقلين، وتوقع أن تُسلم تقريرها خلال أسبوعين».

يرى بسام الأحمد أن «السلطات السورية الانتقالية ملزَمة، حسب القانون الدولي والقوانين السورية بفتح تحقيقات شفافة ومستقلة، ومحاسبة المنتهكين، مع ضمان علنية المحاكم وتعويض المتضررين. وإذا لم تُتخذ هذه الإجراءات، تُعتبر السلطة متواطئة ومشاركة في هذه الانتهاكات، ويعكس ذلك عدم رغبتها في التأثير على هذه المجموعات المتورطة بجرائم التهجير القسري، والتي يُعتبر هدفها النهائي التغيير الديمغرافي ودفع الناس إلى الهجرة».

وفق الأحمد، الجرائم التي وقعت في قرية أرزة، «ترقى وفقاً لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، إلى مستوى جرائم حرب، وتُعدّ جرائم بدافع طائفي، وهو ما قد يرقى إلى عمليات القتل على أساس الهوية. كما أن عمليات القتل استهدفت أشخاصاً مدنيين غير منخرطين في الأعمال القتالية، وبالتالي، فهم مشمولون بالحماية القانونية المنصوص عليها في المواثيق الدولية، الأمر الذي يقتضي محاسبة المتورطين في تلك الانتهاكات، بسبب مخالفتهم الصريحة لتلك المواثيق».

مأساة مُتسلسلة في ريف حماة

بعد سقوط النظام السابق، وفرار رئيسه بشار الأسد، تزايدت مخاوف أبناء الطائفة العلوية التي ينتمي الأسد إليها، لا سيّما مع ارتفاع وتيرة الخطاب التحريضي ضد الطائفة، وتحميلها وزر جميع جرائم النظام، ومع تتالي الانتهاكات بحق أبنائها من دون محاسبة فعلية. في ريف حماة، تحدثت تقارير عن تعرض أكثر من 20 قرية يسكنها أبناء الطائفة لهجمات من قبل جماعات مسلحة ترتدي زياً عسكرياً يشبه زي «هيئة تحرير الشام» وفصائل أخرى. وأسفرت هذه الغارات عن نزوح وسرقات وقتل، وفرّ الناجون إلى مناطق أكثر أماناً.

لكن قرية أرزة ليست مجرد مسرح للمجازر الدامية التي استهدفت أهلها، بل كانت أيضاً معقلاً لمجموعات من «الشبيحة» لها باع طويل في الانتهاكات بحق المدنيين في مناطق مختلفة من ريف حماة، ونفّذت حملات قمع لصالح النظام السابق. وترافقت جرائم «الشبيحة» بحملة تهجير واسعة شملت عشرات الآلاف من النازحين من مناطق مثل اللطامنة، وكفرزيتا، ومورك، وخطاب، بعدما عانى السكان من الاعتقالات التعسفية، والقتل العشوائي، والمداهمات الليلية، إلى جانب تدمير المنازل وحرمان الأهالي من حقوقهم الأساسية.

ومع غياب أي إجراءات حقيقية ملموسة تتعلق بالعدالة الانتقالية، بدا وكأنما الإدارة الجديدة ترسل إشارات للأهالي بتنفيذ أعمال انتقاميّة، في توريطٍ صريح لهم.

تقول ليلى بحسرة: «لا أحد يغفل عن الألم الكبير الذي يعيشه الأهالي بعد فقدان أبنائهم على يد الشبيحة من قرية أرزة أو خطاب. نحن لا نطالب إلا بالعدالة الحقيقية التي تُحاسب هؤلاء المجرمين وتُوقف اعتداءاتهم، لا بالانتقام العشوائي الذي يستهدف المدنيين الأبرياء. كثرٌ من الذين أُعدموا في أرزة كانوا فلاحين بسطاء، يكافحون يومهم بصعوبة، فقط ليؤمِّنوا رغيف الخبز لأسرهم. ما نريده هو العدالة فحسب؛ العدالة التي تضمن حق كل الضحايا وتُعيد إليهم كرامتهم».

منشورات أبو جابر التحريضية by SOT-SY

* جميع أسماء الشهود المُستخدمة في هذا التحقيق، واسم الصحافية التي أنجزته، أسماء مستعارة، لأسباب تتعلق بالأمن والسلامة

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها

This work by SOT SY is licensed under CC BY-ND 4.0