× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

دروس من العشوائيات البرازيلية: ماذا نتعلم من «الفافيلا»؟

عقل بارد - شعوب وحروب 06-09-2025

شهدت البرازيل خلال انتقالها من الحكم العسكري إلى الديمقراطية تجربة لافتة في التعامل مع العشوائيات. فانتقلت من نهج قائم على الإقصاء والإخلاءات القسرية إلى سياسات أكثر عدلاً، قائمة على المشاركة وحقوق السكن. هذا التحول يحمل دروساً مهمة لبلدان مثل سوريا، التي تواجه اليوم تحديات مشابهة

الصورة: أطفال يلعبون في إحدى عشوائيات ريودي جانيرو / catcomm

لم تكن التجربة السورية في الحكم العسكري واستبداده حالةً فريدة في العالم، ولن تكون الأخيرة ما دامت هناك جيوش وفصائل.

هذا يعني، ببساطة، أن مسارات الانتقال التي شهدتها بلدان متفرقة من حكمٍ عسكريٍّ إلى أنماطٍ أخرى – مدنية أو مشتركة – يمكن أن تتيح فهماً مغايراً للعالم، بعيداً عن منطق «الرابح والخاسر». 

برأيي، إنّ المنطق الّذي يحتاجه السوريون اليوم أكثر من أي وقت مضى هو منطق «الكل رابح»، لأنّ خمسة عشر عاماً من الحرب لم تخلّف سوى «خاسرين»، حتى بين من يزعمون النصر اليوم. هذه السّنوات خلّفت أيضاً مشكلاتٍ كبيرةً على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، لعلّ من أبرزها ملف «العشوائيّات». من هنا يمكن أن نفتح الباب على تجارب بعض الدول في معالجة قضايا السكن العشوائي، ضمن سياق العدالة الانتقالية ومراحلها، ونبدأ من البرازيل.

مدن الصفيح

شكّلت الفترة الانتقالية في البرازيل، التي أعقبت عقدين من الحكم العسكري (1964-1985)، وبداية عودة الديمقراطية في منتصف الثمانينيات، لحظةً فاصلة في التعامل مع واحدة من أبرز المشكلات الموروثة عن النظام السابق، مشكلة مدن الصفيح (Favelas)، وهو الاسم المتداول لها في البرازيل. 

لم تكن هذه المستوطنات العشوائية مجرّدَ قضيةٍ سكنيةٍ أو سكّانية، بل كانت حصيلةً طويلةَ الأمد لسياساتِ إقصاءٍ وتهميشٍ منهجيّةٍ مارستها بوضوحٍ شديد النخب الاقتصادية والسياسية، الّتي لم تكتفِ بالاستئثار بالامتيازات، بل ذهبت إلى إحاطة الفقراء بالأسوار ودفعتهم نحو الهوامش، ليس على الصعيد الجسدي والمكاني فحسب، بل على الصّعيدين الاجتماعي والاقتصادي أيضاً.

نشأت تلك التجمّعات السكنية في أواخر القرن التاسع عشر، وكان أولها في ريو دي جانيرو، عقب إصدار قوانين «إعادة التطوير الحضري» التي هدفت إلى تحويل مركز المدينة القديمة إلى الطراز الأوروبي. من أبرز هذه المشاريع ما عُرف بـ «بوتا-أبايشو» Bota – Abaixo الّذي قاده العمدة بيريرا باسوس (1902 – 1906م). 

عملت السلطات آنذاك على إخلاء آلاف السكان الفقراء، ومعظمهم محرَّرون حديثاً من العبودية، وعمال مصانع، من مساكنهم الشعبية المعروفة باسم كورتيسوس (Cortiços) في المنطقة المركزية، وطردهم قسراً إلى التلال والأراضي الطرفية غير المرغوبة. وهكذا وُلدت أوائل تجمّعات الـ«فافيلا»، مثل «مورو دا بروفيدينسيا»  Morro da Providência.

بقيت الـ«Favelas» على حالها لعقود طويلة خارج مركز المدينة، تتطور من تلقاء نفسها وتؤسس لقوانينها الخاصة المستقلة عن الدولة، بشكل عشوائي. وخلال حقبة الحكم العسكري عاد الإقصاء ليظهر من جديد. عملت السلطات العسكرية تحت ذريعة أنّ هذه التجمعات تشوّه صورة المدينة الحديثة وتشكل مرتعاً للمعارضة السياسية، على محاصرة هذه المواقع والتضييق على سكانها. كان الهدف من المضايقات تلبية رغبات النخب العسكرية والمحلية التي وضعت هذه الأراضي نصب أعينها للاستثمار العقاري، وهو أمر تكرر في بلدان أخرى مثل مصر والهند والصين، وقد يتكرر قريباً في سوريا.

ظاهرة العشوائيات في البرازيل لم تكن مجرد مشكلة عمرانية، بل نتاج سياقات تاريخية، وسياسية، وقانونية مختلفة، وهذا ينطبق أيضاً على الحالة السورية.

خلال تلك الحقبة شهدت البرازيل حملات إخلاء واسعة النطاق تحت ذرائع مشروعة، مثل مشاريع البنى التحتية (كإنشاء الطرق السريعة)، أو تحت مسمى «تجميل المدينة» و«إزالة التعديات على الملكية العامة».

نُفّذت عمليات الإخلاء بعنف مفرط، فكانت الجرافات العسكرية تهدم المنازل غالباً دون سابق إنذار، بينما يُنقل السكان قسراً إلى مجمّعات سكنية كبيرة على أطراف المدينة، معزولة تماماً عن أي فرص عمل أو خدمات. من أبرز هذه المجمّعات «سيداد دي ديوس/ مدينة الله» (Cidade de Deus)، التي أنشئت بالأصل لإيواء المشردين من عمليات الإخلاء. لم تكن هذه السياسات مجرد «تطهير حضري»، بل كانت أداة للسيطرة الاجتماعية والسياسية، تهدف إلى تحطيم المجتمعات وإظهار السكان كتهديدٍ للنظام.

هذا التاريخ من الاقتلاع المؤسسي والعنف الرسمي ترك جراحاً عميقة في ذاكرة سكان «الفافيلات»، وزرع داخلهم انعدام ثقة عميقاً بسلطات الدولة التي تحوّلت من مصدر أمان إلى مصدر تهديد وجودي. ساهم هذا العزل القسري والتهميش المنهجي في خلق فراغ سلطة، ملأته لاحقاً عصابات الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات، مقدمةً في بعض الأحيان شكلاً مشوهاً من الخدمات والحماية مقابل الولاء والسيطرة. ما يعني أن العنف الذي تعانيه العديد من «الفافيلات» اليوم ليس سمة ثقافية متأصلة، بل هو إرثٌ لعقودٍ من التهميش الحكومي والإقصاء العنيف.

مع بداية الحكم المدني، وجدت الدولة الجديدة نفسها أمام تحدٍ هائل: كيف تعالج هذا الإرث المعقد في ظل بيئة سياسية جديدة تقوم على المشاركة والشفافية وحقوق الإنسان؟ يقودنا هذا السؤال سريعاً إلى المقارنة مع الحالة السورية، التي تحوي ما لا يقل عن عشرين موقعاً عشوائياً، قد لا يقتربُ في سوئه أو نقصِ خدماته من ظروفِ مدن الصفيح، إلا أنّه، في الوقت نفسه، يفتح بابَ التساؤلِ عن الحلول التي قد تفكر بها السلطات الجديدة في هذا المجال. 

ما زاد الأمر تعقيداً في البرازيل أنّه حتى في العصر الديمقراطي استمرت سياسات الإخلاء تحت ذرائع جديدة، إذ أزيلت مجتمعات كاملة في ريو دي جانيرو على نطاق واسع خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بهدف تحرير الأراضي لإقامة منشآت كأس العالم 2014 والألعاب الأولمبية 2016.

العشوائيات البرازيلية.. إرث متراكم

 كان التحدي متعدد الأبعاد، ولم يقتصر على غياب البنية التحتية، إذ شمل:

  1. البعد القانوني والملكية: غياب سندات الملكية أو حق السكان الرسمي في الأرض، ما جعلهم عرضة للطرد والإخلاء القسري، وحرمانهم من استخدام مسكنهم ضماناً للحصول على قروض أو بدء مشاريع صغيرة.
  2. البعد الخدمي والبنية التحتية: حرمان شديد من أبسط الخدمات، مثل مياه الشرب النظيفة، والصرف الصحي، وجمع النفايات، والكهرباء الآمنة، وخدمات التعليم والصحة.
  3. البعد الاجتماعي والأمني: أصبحت العشوائيات ساحات لصراعات عنيفة بين عصابات الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات، ما زاد من عزلتها وتهميش سكانها.
  4. البعد البيئي: شُيدت العديد من العشوائيات على أراضٍ هشة وغير آمنة، مثل سفوح التلال المعرضة للانهيارات الأرضية، أو ضفاف الأنهار المعرضة للفيضانات، ما جعل السكان عرضة للكوارث الطبيعية.
  5. المقارنة مع الحالة السورية: بالنسبة لعشوائيات دمشق، تمكن ملاحظة أبعاد مشابهة. السكان لا يملكون غالباً وثائق ملكية، ولا يتمتعون دائماً بمياه نظيفة أو خدمات أساسية، كما تنتشر في هذه المجتمعات بعض الأمراض الاجتماعية، بما فيها المخدرات، وإن كانت بنسب أقل مقارنة ببعض الحالات العالمية، لأسباب متعددة.

من القمع إلى المشاركة

كانت استجابة الدولة البرازيلية خلال المرحلة الانتقالية مختلفة جذريّاً عن نهج النظام العسكري، الذي اعتمد في الغالب على الإخلاءات القسرية والعنف. وعليه، تمحورت الاستراتيجيات الجديدة حول ركائز عديدة: 
  1. الإطار الدستوري الجديد (دستور 1988): يُعتبر دستور 1988 نقطة تحول أساسية، إذ نص لأول مرة على الوظيفة الاجتماعية للملكية، ما يعني أن حق الملكية مقيد بتحقيق منفعة للمجتمع. كما أكد الدستور على حق السكن وكرامة الإنسان، ما وفر أساساً قانونيّاً قويّاً لبرامج التحديث والتملك بدلاً من الإخلاء القسري.
  2. المشاركة المجتمعية: كان هذا اختلافاً جوهريّاً عن تجارب أخرى، إذ جرى إشراك سكان العشوائيات مباشرة في التخطيط واتخاذ القرار عبر جمعيات المجتمع المحلي والقيادات المحلية. بذلك حدد السكان أولوياتهم واحتياجاتهم بأنفسهم، ما أدّى إلى مشاريع مناسبة ثقافيّاً، مستدامة، ومملوكة محلية.
  3. النهج المتكامل: أدركت السياسات الناجحة أن مشكلة العشوائيات لا تحل بمد الأنابيب فقط. لذلك، دُمجت برامج البنية التحتية مع مبادرات خلق فرص العمل، التدريب المهني، الشمول المالي، وتعزيز الأمن المجتمعي، بهدف مكافحة الفقر وإشراك السكان في الملكية والعلاقة مع محيطهم، ما ساهم نسبيّاً في التخلص من العديد من المشكلات بشكل فوري.
  4. برامج التحديث الحضري (Urbanização de Favelas): تحول التركيز من إزالة العشوائيات إلى تحسينها ودمجها رسميّاً في نسيج المدينة. ومن أبرز هذه البرامج، Favela-Bairro في ريو دي جانيرو خلال التسعينيات، التي قامت على فكرة تحويل العشوائيات إلى أحياء قانونية مكتملة من خلال:
  • مد شبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء بشكل آمن.
  • شق طرق وإنارة وتعبيد ممرات لتحسين الوصول إلى الخدمات.
  • بناء مرافق مجتمعية مثل المراكز الصحية والمدارس والملاعب الرياضية.
  • منح سندات ملكية أو عقود استخدام الأرض للسكان.

التحديات المستمرة والدروس المستفادة

رغم التقدم الكبير الذي أحرزته البرازيل، واجهت الدولة تحديات مستمرة:

  • الحوكمة والفساد: تعقيد البيروقراطية وانتشار الفساد أبطأ وعرقل تنفيذ العديد من البرامج.
  • التمويل: لم يكن التمويل كافياً لمواجهة حجم المشكلة الهائل.
  • السيطرة غير الرسمية: في بعض المناطق، سيطرت العصابات على العشوائيات وأصبحت بمثابة «دولة داخل الدولة»، ما عرقل عمل الحكومة ووضع السكان بين نارين.
  • الدفق السكاني المستمر: استمر تدفق السكان من الريف إلى المدن، ما أدى إلى ظهور مستوطنات عشوائية جديدة أسرع من قدرة الحكومة على معالجتها.
هذه النقطة الأخيرة لها صلة واضحة بالواقع السوري الحالي. مع عودة آلاف المهجرين إلى بيوتهم المدمّرة، يعاود البعض الرحيل إلى مدن أخرى، وغالباً لن يسكنوا في الأحياء المنظمة، بل يتجهون إلى أفضل ما يلائم قدراتهم الاقتصادية. في اللاذقية، كمثال، سجّل حي «الرمل الجنوبي» زيادة ملحوظة في الطلب على بيوت الإيجار، ما رفع الأسعار إلى حدود الضعف.

بين البرازيل وسوريا

تكشف دراسة ظاهرة العشوائيات في البرازيل عن أن هذه الظاهرة ليست مجرد مشكلة عمرانية، بل هي نتاج سياقات تاريخية، وسياسية، وقانونية مختلفة، وهذا ينطبق أيضاً على الحالة السورية. وبينما تتشابه العوامل الديموغرافية الأساسية التي أدت إلى نشأتها (الهجرة الداخلية)، يتباين المساران السياسي والاجتماعي في البلدين بشكل جذري.
أهم دروس التجربة البرازيلية هو التحول في النظر من اعتبار «الفافيلا» مشكلة يجب حلها أو إزالتها، إلى اعتبارها فرصة وقوة دافعة للاقتصاد المحلي والإبداع

لقد انتقلت البرازيل من مقاربة الإقصاء والإزالة القسرية في عهد الديكتاتورية إلى نموذج الإدماج والتمكين في ظل الحكم الديمقراطي. وأهم درس من هذه التجربة هو التحول في النظر: من اعتبار «الفافيلا» مشكلة يجب حلها أو إزالتها، إلى اعتبارها فرصة وقوة دافعة للاقتصاد المحلي والإبداع. وقد تحقق ذلك عبر برامج مثل Favela-Bairro التي ركزت على تحسين البنية التحتية بالتعاون مع السكان، ما أدى إلى دمج هذه الأحياء في النسيج الحضري ورفع قيمتها الاجتماعية والاقتصادية.

في المقابل، استمر المسار السوري حتى ما قبل سقوط نظام الأسد في تبني مقاربة مركزية، فانتقل من الإهمال والقصور التخطيطي إلى إصدار تشريعات مركزية (مثل القانون 10) تثير الجدل حول دورها الحقيقي في إعادة الإعمار. يظهر التحليل أن هذه التشريعات تركز على السيطرة على الأرض وإعادة تنظيمها، ما قد يغفل حقوق السكان ويفشل في إدماجهم بوصفهم شركاء فاعلين.

 بناءً على هذه المقارنات، يمكن تقديم التوصيات التالية للسياسات السورية المستقبلية:

  1. الإرادة السياسية الوطنية: معالجة العشوائيات يجب أن تكون أولوية وطنية، وليست مجرد برنامج للبلديات أو المحافظات.
  2. الإطار القانوني: يجب أن تحمي القوانين حقوق السكان، وليس فقط حقوق المُلّاك أو المستثمرين في هذه المواقع.
  3. المشاركة وليس الإملاء: تمكين المجتمع المحلي: يجب منح دور حقيقي وفاعل للوحدات المحلية والمجتمعات المحلية في التخطيط والتنفيذ، عبر أطر قانونية ومالية مرنة، واعتبار السكان شركاء أساسيين وليس مجرد مستفيدين. فالمشاركة المجتمعية هي الضمان الوحيد لنجاح أي مشروع عمراني واقتصادي على المدى الطويل.
  4. النهج المتكامل: يجمع بين البنية التحتية المادية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية لضمان حلول شاملة ومستدامة.
  5. الاستمرارية: التقلبات السياسية لا يجب أن توقف سياسات طويلة الأمد؛ النجاح يتطلب التزاماً حقيقياً.

نحو مدن أكثر عدالة

تقدم التجربة البرازيلية في التعامل مع العشوائيات خلال مرحلة الانتقال دورساً مهمة، من أبرزها أن المشكلة لا تكمن في وجود هذه الأحياء، بل في النظرة إليها. 

بالنسبة للحالة السورية، التي تمرّ بمرحلة انتقالية معقدة، لا يمكن تجاهل هذه الدروس، إذ يتطلب المستقبل نهجاً جديداً يتجنب أخطاء الماضي. الحل لا يُختصر في هدم البيوت وإعادة بنائها دون الأخذ بعين الاعتبار لحقوق سكانها وظروفهم، بل يكمن في دمجهم في النسيج الحضري والاقتصادي والاجتماعي.

إن معالجة ملف العشوائيات في سوريا يجب أن تكون فرصة لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، ولإثبات أن المستقبل لن يكون مجرد تكرار للماضي، بل بداية نحو مدن أكثر شمولية وعدالة.

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها

This work by SOT SY is licensed under CC BY-ND 4.0