فاطمة شيخو أحمد
الرّسم مولّد بالذكاء الاصطناعي
أول الخيط عُقدة!
أنا كردية، أعملُ في جامعة حلب، وأعيشُ في وطن ينهشه وحش الكراهية على جبهات شتى. وحش لا يبدو ضخماً حين يطلّ أول مرة، لكنه يولد دائماً من كلمة واحدة، أشبه ببذرة خبيثة تنمو ببطء حتى تصير غابة كثيفة من الأحقاد، وجدراناً شاهقة تحاصر العقول والقلوب، وتمزّق الإنسان قبل أن تمنحه اللقاء فرصة التعارف.
ولدتُ في حلب، ونشأتُ بين أحياء عربية. أتحدثُ العربية بطلاقة مع أصدقائي وطلابي، بينما في بيتي تنبض الكردية على لساني مع عائلتي. أفكرُ بالعربية وأعبّر عن مشاعري بالكردية. أحملُ في داخلي، مثل آلاف السوريين، هويّات متعدّدة تنسج معاً لوحة مركبة لذاتي؛ تنوّعٌ أراه ثراءً عظيماً، لكنه أيضاً مصدر ألم لا يُستهان به.
عندما تُمس إحدى هوياتي بالتهميش أو الإقصاء، أشعرُ بأن جزءاً من كياني يُجرح جرحاً غائراً. والألم يأتي أحياناً من قلب المجتمع الكردي الذي أحسب أنني أنتمي إليه. فكم مرة سمعتُ، بوجع، من يقولُ باستغراب: «أنتِ درستِ الأدب العربي بدل الأدب الكردي!!»، وكأن اختياري هذا خيانة لهويتي.
وبين العرب، هناك لون آخر من الكراهية الصامتة؛ نظرات مشوبة بالدهشة والتعجب من دكتورة جامعية كردية تتقن العربية بهذه البراعة، وكأنّ إجادتي لغتهم أمرٌ خارج المألوف، أو ذنب يستحقُّ الشكَّ.
أقفُ دائماً عند مفترق هوياتي المتعددة، وأحتضن الاختلاف بكلِّ أبعاده، لكن صوت الكراهية يتربص، وينهش من هذا الاحتضان، ويترك في داخلي أثراً لا يمحوه الزمن.
لغة برسم الولاء
أتذكّرُ لحظة بدت عابرة لكنها تركت أثراً أعمق مما توقعت. كنت في إحدى الأمسيات الثقافية أتحدث مع روائي كردي عن نص أدبي، وفجأة، وسط النقاش، انحرفت كلماته إلى لغتي العربية، مغلّفة بابتسامة لا تخفي وخزة استهزاء: «لو اشتغلت مع الإدارة الذاتية وخدمتي بني جلدتك، ما كان أحسن لك من المرمطة بالمؤسسات العربية؟»
لم يكن السؤال سؤالاً. كان طعنة صغيرة تقول إنني غريبة هنا وهناك، وإن لغتي العربية المتقنة علامة على تنازل أو انحياز. في تلك اللحظة، شعرت أن اللغة التي أحبها وأتنفس بها تحوّلت إلى مرآة مشروخة، تعكسني على نحو لا يشبهني.
للأسف، هذه ليست حكاية فردية. في مناطق الانقسام السوري، تتحوّل اللغات واللهجات إلى خرائط ولاءات، تُقرأ كما تُقرأ إشارات المرور: أنت من هنا، لست من هناك. يعلو الجدار بين الناس، لا بالحجارة، إنما بالكلمات، إذ تتحول اللغة من جسر للتواصل إلى سلاح لترسيم الحدود. أو كما وصفها فوكو: «اللغة أداة سلطة، والتحكّم بها يعني التحكّم بالحقيقة» . (ميشيل فوكو، السلطة والمعرفة، ترجمة: محمد عابد الجابري، المركز الثقافي العربي، 1994).
وحين يُساء استعمال هذه السلطة، تُغلق اللغة أبواب الانتماء، وتحبس الإنسان داخل هوية يراها الآخر على هواه، لا كما يراها هو. عندها، تعود الكلمة إلى حلقة جديدة في سلسلة القيود التي تصنع خطاب الكراهية.
التنميط.. سجن غير مرئي
طوال حياتي، كنتُ أظن أن خطاب التفرقة والاضطهاد اللغوي محصور فقط بالكورد في ظل نظام البعث البائد، لكن بعد التحرير انكشفت الحجب لي، وأدركت أن صوت الكراهية يتجاوز الهويات إلى ما هو أكثر تعقيداً. على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، تكررت على ألسنة كثيرين وصمات صارت شبه طبيعية: «العلوي شبيح»، «الكردي انفصالي»، «الشامي متكبر»، «البدوي جاهل»، «الدرزي كافر»..
بعد انهيار نظام المجرم بشار الأسد عام 2024، شهدت سوريا تصاعداً خطيراً في خطاب الكراهية، خاصة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تُبرز تقارير مثل: تقرير«NPASyria 2024» زيادة ملحوظة في التحريض والتمييز، ما يؤدي إلى انقسامات أعمق ومواجهات متكررة
الكراهية إن لم تُفكك، ستورّث، وسنُرغم يوماً على مواجهة وحش نحن من غذّاه، وحينها لن نقدر أن ننكر أننا صمتنا طويلاً جداً
في مدينتي حلب - حي الميدان ، نظّمت مدرسة ثانوية منذ أشهر نشاطاً جمع طلاباً عرباً وكورداً ومسيحيين، لكن رغم الهدف المعلن للمشروع، لاحظتُ من خلال جولتي أن بعض الطلاب جلسوا ضمن مجموعات من المكوّن نفسه، وكأنهم يحمون مسافة أمان غير معلنة.
هذه الأرقام تحكي قصة واقعية، تُبرز كيف أن التنميط لا يكتفي بقتل فرص التفاهم والاندماج، إنما يحول وطننا إلى مسرحية لصراعات صغيرة وكبيرة، تُضخم الكراهية، وتبني جدراناً من الألم
والانعزال بين أبنائه. فحين تغيب لغة الحوار والاحترام، تصبح الكلمات سيوفاً، والاختلاف أسواراً، والإنسان سجيناً في قفص من صور نمطية تهدّد هويته وحقه في الانتماء.
كراهية بملامح مألوفة
هذه اللغة ليست هامشاً. إنها نسيج الحياة اليومية، سلاح جماعي بلا رصاص، ودمار داخلي من غير قصف. تُنتَج داخل البيت والحي والمدرسة والمقهى، لذا فإن مواجهتها أصعب من مواجهة السلطة ذاتها.
من هنا، فإن أي مشروع تحرر سياسي أو وطني، إذا لم يفكك هذا الخطاب ويحاسب النسق الذي يُنتجه، لن يكون سوى تكرار للكارثة بصيغة معدّلة. لأن الخطاب الذي يزرع الكراهية لا يقتصر أثره على فئة أو جيل معين، بل يتغلغل مثل سموم بطيئة في نسيج المجتمع، ويغير طريقة التفكير والشعور، ويشوه العلاقات بين البشر. إنه ينسج في العمق خريطة عاطفية تتوزع بين «نحن» و«هم»، بين «الصديق» و«الخصم»، وبين «المضمون» و«المخيف».
في قلب هذه العملية، يكبر الطفل السوري الذي لا يولد حاملاً الكراهية، ولا يعرف من هو العلوي، أو السني، أو الدرزي، أو الكردي، أو الشامي، أو البدوي، أو النازح. لكنه يعيش وسط حقل ألغام لغوي، حيث تتحول الخريطة، واسم العائلة، ولباس الأم، ولهجة الأب، إلى علامات شبهة وملامح تهديد.
ينمو الطفل اليوم داخل جدران مشبعة بالكراهية، لكنها لا تُلقن له مباشرة. لا أحد يقول له: «اكره». لكنه يسمعها تتسلل مثل الماء من تحت الأبواب: نبرة الأم حين تذكر طائفة خذلتها، شتيمة الأب الغاضب لعائلة «غريبة»، نكتة جار عن «العلويين»، تعليقات المعلمة على لباس زميلتها، أو أسماء من لا يجوز اللعب معهم لأنهم «من هناك». فنجد أن الكراهية لا تُدرّس، إلا أنها تُتنفس.
ومع الوقت، تتشكّل خريطة عاطفية معقدة داخل الطفل، يفهم فيها من «الأقرب» ومن «الأبعد»، ومن هو «المخيف» ومن هو «المضمون». لكنه لا يعرف لماذا، فقط يشعر بضرورة الحذر، أو الاحتقار، أو عدم الثقة.
سم صامت
من المثير أن الكراهية لا تحتاج حدثاً دمويّاً مباشراً لتولد. كما أن الطفل لا يحتاج أن يرى مجزرة كي يتورط في خطاب الطائفة، أو يكون ضحية ليرث شعور الضحية. يكفي أن يعيش داخل جماعة ترى العالم بمنظار منقسم: «نحن» و«هم». نحن الشرفاء، الطيبون، المظلومون، الصادقون. وهم الكذبة، القتلة، المتآمرون، العالة. وهذا يكفي لتحويل براءة الطفولة إلى مشروع قنبلة مؤجلة.
أسوأ ما في خطاب الكراهية أنه يحمل الطفل أوزاراً لا تخصّه، ويربيه على الخوف من الآخر بدل الفضول نحوه. يتحول الاختلاف من سؤال جميل إلى نذير خطر. ويصبح التشابه شرطاً للسلامة. وفي هذا المناخ، يصبح «الشبيه» صديقاً مفترضاً حتى لو كان مؤذياً، و«المختلف» خصماً حتى لو كان حنوناً.
أطفال كثيرون في سوريا ينامون اليوم مقتنعين بأن الآخر خطر، وأن عليهم أن يختاروا: إما جماعتهم أو الإنسانية، إما الولاء أو الحقيقة، إما أن يكونوا أوفياء للدم أو خونة للوطن. وكلما كبروا، زاد تمسكهم بهذه الثنائية القاتلة.
في المدارس، حيث يفترض أن يتعرّف الطفل على العالم خارج بيته، تُعاد الكراهية لكن بلباس أكثر تهذيباً: معلمة تشير إلى أن أهل الجنوب «غير متعلمين»، تلميذ يرفض اللعب مع ابن المخيم لأنه «مش نظيف»، حديث عن «نسب فلان» لأنه «مو من أصل»، أو طعن ضمني في دين زميل لأنه «كله حقد». لا تعد هذه المفردات سقطات لغوية، إنما إعادة إنتاج يومية لهندسة الكراهية من جيل إلى آخر.
ذاكرة مسروقة
لا يحتاج الطفل السوري إلى طعام، أو مدرسة، أو مأوى فحسب، إنما يستدعي حقه في أن ينشأ بلا ذاكرة محشوة بالكراهية. يحتاج إلى من يعلّمه أن الآخر، مهما اختلف، ليس خطراً. كما يستحق أن يسمع لأول مرة: «نعم، هو من طائفة أخرى، لكنه لا يشبه ما قالوه لك عنه». وأن يصدّق أن الشر لا يسكن الهويات، إنما يُزرع فيها، وبإمكانه اقتلاعه.
ربما لا يمكننا أن نعيد لهذا الجيل طفولته المسروقة، إلا أننا نستطيع على الأقل حماية الجيل التالي من أن يُقتل قبل أن يُولد، بجُمل الكبار.
لا يخيفني شيء اليوم كما يخيفني أن أرى شظايا هذا الخطاب تستقرّ في عيون أطفالي. لا أخشى على أجسادهم من الرصاص بقدر ما أقلق على أرواحهم من التسمم البطيء، واللمز، والشك، ووراثة الخوف والعداء.
لا يحتاج الطفل السوري إلى طعام، أو مدرسة، أو مأوى فحسب، إنما يستدعي حقه في أن ينشأ بلا ذاكرة محشوة بالكراهية. يحتاج إلى من يعلّمه أن الآخر، مهما اختلف، ليس خطراً.
ولأنني أمّ لهوية متعددة، لا تشبه الخنادق ولا تليق بها الأسوار، وأمتلك أسماء من جهات مختلفة، وتاريخاً موزّعاً على جغرافيات متنازعة، ولغة فيها بقايا من كل مكان مررتُ به، أعرف ما معنى أن تكون «زائدة» في نظر الجماعة، وتُعامل كتحوير، أو خطر، أو تهمة مؤجلة. ولهذا أخشى أن يطال أطفالي ما طالني، ويضطروا هم أيضاً إلى تبرير أنفسهم، أو الدفاع عن جلودهم، أو خفض صوتهم ليتوافق مع ما يُفترض أنه «الصحيح».
هواجسي ليست فكرية فقط، إنها غريزية. كيف أحمي قلوباً صغيرة من أن تتعلّم الكره باسم المحبة، أو تُربّى على الولاء قبل الإنصاف؟ كيف أعلّمهم أن يكونوا صادقين في عالم يكافئ التمويه؟ كيف أشرح لهم أن تعدّدهم نعمة، لا عبء؟
إذا كانت المراحل الانتقالية أشبه بجسر هش بين ضفتين من الحرب والسلام، فإن اللغة والخطاب هما الأعمدة التي تحمله أو تكسره. فالتجارب التي عشتها، وما سمعته من آخرين، تؤكد أن تفكيك خطاب الكراهية سيكتب له النجاح إن التزم بخطوات عملية، مثل: إدماج التربية على الاختلاف في المناهج المدرسية، بحيث يتعلم الطفل مبكراً أن التنوّع هو أفقٌ أوسع للحياة. كذلك تمكين الإعلام المحلي المستقّل من رواية قصص العبور والصلح، وألا تكتفي فقط بنقل أخبار الصراع والخلاف والتمييز. فضلاً عن إنشاء مساحات حوار آمنة بين المكوّنات، تحمي المتحدثين من التخوين وتضمن أن تُسمع أصوات الضحايا من غير انتقائية، وتشجيع مبادرات العدالة الانتقالية التي تربط المساءلة بالشفاء المجتمعي.
أكتبُ هنا بصفتي كاتبة وباحثة، وقبل هذا بصفتي أمّاً تخشى أن يكبر أبناؤها في مكان لم يُصغِ إليهم، لأن اسمهم لم يكن مألوفاً، أو لهجتهم ليست على «مقام» الجماعة، أو لأنهم أحبّوا من لا يليق، أو صدّقوا ما لا يجوز تصديقه.
في هذا المقال أحاول أن أقول: الكراهية إن لم تُفكك، ستورّث، وسنُرغم يوماً على مواجهة وحش نحن من غذّاه، وحينها لن نقدر أن ننكر أننا صمتنا… صمتنا طويلاً جداً.
¯¯¯¯
- فاز هذا المقال بالمركز الأول في الدورة الخامسة من مسابقة «100 صوت سوري ضدّ خطاب الكراهية» - فئة الجوائز الأساسية
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0