شفان إبراهيم
الرّسم مولّد بالذكاء الاصطناعي
أولاً - المقدمة
تُعدُّ المرحلة الانتقالية فرصة ذهبية لإعادة بناء الدولة والمجتمع، وفق أسس من العدالة والمساواة، في الدول الخارجة من النزاعات. غير أنّ التجربة السورية تُظهر هشاشة هذه المرحلة منذ بدايتها. فإسقاط النظام لا يعني بالضرورة نهاية الاستبداد، بل بداية صراع جديد على تعريف الدولة وهويتها.
تستوجب هذه المرحلة إعادة تشكيل نظام سياسي اجتماعي جديد، بمتطلبات المرحلة الجديدة، عبر عقد اجتماعي جديد قادر على إدارة التنوع الاجتماعي والسياسي للجماعات السياسية القومية والعرقية، والفئات المهمشة والضعيفة، بما يضمن إشراك المكونات في صناعة القرار السياسي وكتابة الدستور، علاوة على السعي إلى الانفراج الاقتصادي عبر مكافحة الفساد وإزالة المظالم التي أحدثها النظام السابق، ثم التوطيد، أيّ التحول إلى جوهر ديمقراطي عبر إصلاح المؤسسات الحكومية، وتنظيم الانتخابات، وتعزيز المجتمع المدني؛ فبقايا الدولة العميقة ستلجأ إلى تعميق الشروخ المجتمعية بين مختلف الأطراف والمكونات، مستغلة الفراغ الأمني، والوضع الاقتصادي الهشّ لتعميق التصدعات العرقية والطائفية والطبقية التي كانت سابقاً مُغطاة بالقمع أو الصمت القسري.
إن بناء دولة عصرية أكبر إشكاليّةً مما يجري تصوره في البداية ضمن نموذج الانتقال، أو الاكتفاء بسقوط النظام وفقط.
تُقدم الأمم المتحدةُ العدالةَ الانتقالية على أنها طوق نجاة من الانتقامات في «المجتمعات التي تحاول إعادة بناء نفسها من جديد. والانتقال من تاريخ عنيف يتسم بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، ارتُكِبَت في سياق ممارسة القمع أو في سياق نزاع مسلح، أو غير ذلك من السياقات الأخرى.
تبرز تساؤلات بالغة الأهمية تتناول كيفية الاعتراف بالانتهاكات ومنع تكرارها، وتلبية مطالب العدالة واستعادة نسيج المجتمعات المحلية الاجتماعي، وبناء سلام مستدام. والعدالة الانتقالية هي النظام الذي يسعى إلى بذل كل ما يلزم كي تنجح المجتمعات في التعامل مع مثل هذه الموروثات الصعبة، وتطوّر أدوات مختلفة من أجل تحقيق هذه الغاية».
ثانياً- خطاب الكراهية... العدوّ الخفي للمرحلة الانتقالية
المرحلة الانتقالية، لحظة فارقة في تاريخ الشعوب الخارجة من النزاع. فإما أن تقود إلى التعافي والازدهار، أو تنتهي بالانزلاق مُجدداً في دوامة العنف والكراهية.
في سوريا تراكمت مشاعر الغبن وانعدام الثقة بين السلطة والشعب، وتحوّل خطاب الكراهية إلى عائقٍ جوهري أمام بناء عقدٍ اجتماعي جديد، ودستورٍ جامع، وهويةٍ وطنية جامعة. وهذا ما يقود إلى ثلاث نتائج: هشاشة المرحلة الانتقالية، وأدوار ملتبسة للنخب السياسية والدينية، وأدوار سلبية للقوى الدولية. وجميعها يلعب أدواراً في تضخّم خطاب الكراهية
- المرحلة الانتقالية الهشّة وخطاب الكراهية
- الضغوط الخارجية: تحديد التموضع الجيوسياسي للدولة الجديدة، وضغوط القوى الغربية في دعم العملية الانتقالية وفق شروطها.
- الانقسام الداخلي: صراعات حول الدستور، والهوية الوطنية، وشكل الحكم، وقانون الأحزاب.
- الفراغ الأمني: كيفية التعامل مع المقاتلين السابقين، وفلول النظام، وتنظيم «داعش» المتطرف، وتشكيل جيش وطني جديد.
- تأخير العدالة الانتقالية
يعاني المجتمع السوري إرثاً ثقيلاً من الانتهاكات الجسيمة التي ارتُكبت منذ بداية الثورة. وفقاً لقاعدة بيانات «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» وُثّق مقتل 231 ألف مدني، من بينهم 202 ألف قُتلوا على يد قوات نظام الأسد. و157 ألف حالة إخفاء قسري، فضلاً عن استخدام أسلحة محرمة دولياً بشكل ممنهج، مع إلقاء ما لا يقل عن 81916 برميلاً متفجراً، و217 هجوماً كيميائياً، و252 هجوماً بذخائر عنقودية. وقد أدت هذه الانتهاكات الممنهجة إلى تشريد نحو 14 مليون سوري - أي ما يقارب نصف السكان - بين نازح داخلي ولاجئ في دول الجوار والعالم.
بناء دولة عصرية أكبر إشكاليّةً مما يجري تصوره في البداية ضمن نموذج الانتقال، أو الاكتفاء بسقوط النظام وفقط
يتطلب مسار العدالة الانتقالية مراعاة الخصوصيات الثقافية والقومية والسياسية التي تُميز المجتمع السوري، ودور الحوار وحقوق المكونات في إخماد الصراعات. كما أن التأخر في إطلاق هذا المسار سيقود إلى مزيد من الانتقامات، خاصة على صعيد التراتبية العسكرية التي تختلف بين تلقي أو إصدار الأوامر، وسيخلق فراغاً أخلاقياً وأرضية خصبة لملئها بخطاب الكراهية.
منذ سقوط الأسد، تقف سوريا على مفترق طرق خطير، فإما قيام دولة القانون عبر مؤسسات تُطبق العدالة الانتقالية وتتولى الكشف عن الحقيقة، أو أن العدالة الانتقامية والكراهية هي التي ستُسيطر على المشهد الاجتماعي والسياسي .
ولتحاشي هذه المطبات ينبغي الإسراع بإنشاء مؤسسات متخصصة مثل لجان الحقيقة، والمحاكم الخاصة، ومبادرات لإصلاح الأجهزة الحكومية، وبرامج التعويض وجبر الضرر لضحايا النزاع، ومحاسبة المسؤولين، وتقوية الاستقرار الوطني عبر ضمان عدم تكرار الانتهاكات، وكبح الأصوات التي تحض على الكراهية.
- ضعف أداء المؤسسات القضائية والإعلامية والصراع على السردية
أما غياب الإعلام المسؤول فيمنح جوازَ عبور لخطابَ الكراهية، ويؤدي إلى انفلاته ضمن الخطابات الرسمية واليومية والإعلامية. ويقود إلى الصراع على السرديات واحتكارها بين الضحايا، والمكونات، وقوى الأمر الواقع، والجماعات المؤدلجة التي تستخدم الإعلام منصةَ تحشيد وتجييش وترويج لخطاب الكراهية، وتسعى إلى تمتين سرديتها الخاصة، كسردية رمزية وطنية رسمية. وهو ما يتطلب وبسرعة دعم وبناء سرديات جامعة، وبناء علاقات دولة-مجتمع، والحمل الأكبر يقع على عاتق الإعلام الوطني.
سياسات القوى الفاعلة في الملف السوري أسهمت، عن قصدٍ أو غير قصد، في تضخيم خطاب الكراهية
كما تُسهل مواقع التواصل الخلط والتداخل بين النقد وخطاب الكراهية. ورغم وجود فارق جوهري بين التعبير عن رأي نقدي، واتهام شخص باستخدام خطاب الكراهية، فمن المهم للغاية فهم هذا الفارق في إطار مكافحة خطاب الكراهية.
- الأدوار الملتبسة للنخب السياسية والدينية
عبر كتابه «مقاربات في سوسيولوجيا الدين والتدين» يقدم الدكتور عبد الحسين شعبان، قراءة نقدية جريئة للعلاقة الجدلية بين الدين والتاريخ والسياسة، موظفاً سوسيولوجيا الدين؛ لفهم كيف تسهم النخب الدينية والسياسية في إنتاج الانقسام الطائفي، أو في مقاومته. خاصة مع صعود الحركات الطائفية والإرهابية، وما تخلل ذلك من انفجار خطاب الكراهية. فالدين، وإن كان من حيث الجوهر يحثّ على الحرية الفردية ويشجّع على الإبداع والابتكار، إلا أن توظيفه السياسي غالباً ما ينحرف به إلى خدمة الغايات الفئوية، ويغدو أداة بيد النخب لتبرير التسلط أو التحريض أو الإقصاء.
ولعل ما يعمّق هذا التوظيف هو صمت بعض الشخصيات الدينية، أو تواطؤها الرمزي حين يُستغل الدين في تبرير العنف أو التكفير، كما حصل إبان صعود تنظيم «داعش» المتطرف. في المقابل يمكن للشخصية الدينية أن تجمع بين الهويتين الدينية والوطنية، دون أن تنزلق إلى خطاب العداء أو الإقصاء، كما فعل كثيرون انطلاقًا من وعيهم بخطورة تقسيم المجتمع. لهذا لابد من فتح ملفات مسكوت عنها، وإعادة التفكير في أدوار النخب، سواء كانت دينية أو علمانية، في مراحل التحوّل العنيف.
يؤكد المفكر عبد الإله بلقزيز أن البذور المبكرة لخطاب الكراهية في المجال السياسي، ولدت من رحم الصراع على السلطة، لتبرز جدليات متشابكة بين الديني والقبلي، وبين المركز والأطراف، وبين العصبية والثورة. فتحول الاجتماع السياسي من دينامية إلى عصبية طائفية وقبلية، استعارت مقولات دينية لتبرير تنازع المصالح، وهو ما مثّل لحظة انحراف خطيرة، وأسس لثقافة سياسية لا تزال وقوداً لخطابات التحريض والانقسام.
- القوى الدولية وأدوارها السلبية
سياسات القوى الفاعلة في الملف السوري أسهمت، عن قصدٍ أو غير قصد، في تضخيم خطاب الكراهية. فكلّ دعمٍ لطرفٍ على حساب آخر ولّد انقساماً جديداً أو عمّق انقساماً قائماً، وأنتج سرديات متناحرة حول «الخيانة» و«الاستقواء بالخارج».
كما أن التمويل المشروط من بعض الجهات الدولية دفع قوى محلية إلى تبنّي خطابٍ سياسي يتماهى مع الممولين، ما زاد الاستقطاب الداخلي وعمّق الشروخ الوطنية.
ثالثا - فواعل الوقاية من خطاب الكراهية في المرحلة الانتقالية
تبرز الحاجة في المرحلة الانتقالية إلى فواعل/جهات فاعلة لتولي أدوار الرقابة والوقاية والحدّ من انتشار خطاب الكراهية، وتُصنف وفقاً لأدوارها وهي:
- المسؤولية المجتمعية الجماعية: لمعالجة مظاهر الكراهية، بشكل جذري وعبر خطاب بديل يعزز التسامح والتعايش، فالكراهية ليست مسؤولية فرد أو جهة واحدة، بل مسؤولية جماعية تشمل الدولة، والإعلام، والمؤسسات الدينية. وبشكل خاص التعليم الذي يُعتبر خط الدفاع الأول، وتُشكل المناهج مصدراً لقيم التنوع والنقد والتفكير الحر. ما يتطلب تدريب المعلمين على مناهضة الكراهية، وتعزيز الانتماء واحترام التعددية في العملية التعليمية.
- المجتمع المدني: يأخذ دوراً ومكانة ريادية وحيوية في مكافحة خطاب الكراهية، عبر التوعية، والتأثير السياسي، وبناء جسور التفاهم والتضامن، وبالتالي يُشكل ذلك تعزيزاً لقيم السلام والتسامح والمؤاخاة في المجتمع. ولمؤسسات بناء السلام المحلية، فاعلية واضحة في الحدّ من الكراهية والعنف، عبر تنظيم حملات، وورش عمل، ومحتوى إعلامي لنشر قيم التسامح والاحترام ونبذ الكراهية، وإجراء حوارات مجتمعية تعزز التفاهم بين المكونات. فضلاً عن إعداد برامج خاصة حول مخاطر الكراهية، وتقديم الدعم النفسي والقانوني لمن تعرضوا لخطابات الكراهية، وتعزيز أصوات الفئات المهمّشة والمساعدة في إنتاج سرديات بديلة للتعايش والمساواة.
- الإعلام والصحافة: وسط التسارع الرقمي وهيمنة السوشيال ميديا، بات دور الإعلام أكثر أهمية ومحورية في التصدي لخطاب الكراهية، وترسيخ ثقافة التسامح عوضاً عنه. خطاب الكراهية لا ينشأ في فراغ، بل يرتبط بالسياق الاجتماعي والسياسي والثقافي، وهذا يستوجب تمكين طلاب كليات الإعلام من ممارسة إعلام مهني أخلاقي يسهم في بناء مجتمع متماسك، ويدعم مسار التنمية المستدامة، بما يُتيح بناء إعلام وطني جامع قادر على مداواة الجراح والانقسام، بدلًا من تعميقها. وقد ظهرت مبادرات إعلامية ومجتمعية تسعى لبناء خطاب بديل، يركّز على التعددية والسلم الأهلي. مثلاً؛ نظم المركز الدولي للصحفيين بالشراكة مع عدد من المؤسسات الإعلامية مجموعة تدريبات حول التعامل مع خطاب الكراهية. استعرضت التدريبات سياسات المنصات الكبرى التي طورت أدوات خوارزمية وإجرائية للحد من انتشار الخطاب التحريضي، مثل خفض ظهور المحتوى، أو حذفه من النتائج، أو حظره من الإعلان، لكنها لا تزال تواجه صعوبات في التوفيق بين حرية التعبير ومنع الكراهية المنظمة. يحتاج العديد من الصحافيين في سوريا وعياً عميقاً بالسياقات الاجتماعية والسياسية للخطاب الذي يُنتج، وتحليله وفق عناصر تشمل هويّة المتحدث، وانتشار خطاب الكراهية، وتأثيره على الفئات المستهدفة، وإنتاج محتوى أكثر اتزاناً وأقل عنفاً.
- الشخصيات المفتاحية والمجتمعية بالتعاون مع الهيئات الدولية: تلعب الشخصيات المفتاحية مثل الزعماء الدينيين والعشائريين، والمؤثرين الرقميين، دوراً في تشكيل الرأي العام. في هذا السياق، شكّلت «مدوّنة معاودة التعايش السورية» التي وُقعت في برلين 2017 محاولة جادّة لجمع قيادات من مختلف الطوائف على مبادئ التعايش ونبذ الكراهية .كما أطلقت اليونسكو مع «المركز السوري للإعلام وحرية التعبير»، مبادرة لرصد خطاب الكراهية، وتمكين الصحافيين من مواجهته.
رابعاً - تجارب مقارنة
ثمة كثير من تجارب الدول والمجتمعات الأخرى يمكن استعراضها، لاستخلاص الدروس، منها ما تعثّر، ومنها ما حقق نجاحات في مسار العدالة الانتقالية.
- تونس: مسار معقّد بين الثورة والارتداد
بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي، شهدت تونس إنشاء مؤسسات للعدالة الانتقالية أبرزها هيئة الحقيقة والكرامة التي تلقت نحو 62 ألف شكوى ونظّمت آلاف جلسات الاستماع. لكنّ غياب استراتيجية واضحة، ورفض بعض مؤسسات الدولة، وعودة رموز النظام السابق، كلها عوامل أدّت إلى تعطيل المسار، فتعثرت جهود المحاسبة القضائية وجبر الضرر، رغم إنشاء صندوق الكرامة. ولاحقاً تسببت سياسات قيس سعيد بإنهاء فعلي لمسار العدالة الانتقالية، مع تجاهل دستوري لمبادئها، واعتقال لبعض رموز الثورة والعدالة الانتقالية، ليشكل ذلك مساراً لإعادة ترسيخ الاستبداد عوضاً عن تفكيكه .
- رواندا: من جراح الإبادة إلى نموذج للمصالحة
في العام 1994، قُتل خلال مئة يوم نحو 800 ألف شخص في واحدة من أبشع الإبادات العرقية. غير أنّ رواندا اختارت طريق المصالحة عبر محاكم «غاتشاتشا» الشعبية التي حاكمت ستة آلاف متورّط، وركّزت على كشف الحقيقة بدل الانتقام.
جرّمت الدولة كل خطابٍ عنصري أو تمييزي في دستورها الجديد، واعتمدت سياسة «لا غالب ولا مغلوب»، فتحوّلت خلال ثلاثة عقود إلى نموذج عالمي في بناء الدول بعد النزاعات.
خامساً - نحو عدالة شاملة لا رمزية
تُظهر التجارب أنّ العدالة الانتقالية لا تتحقق بمجرد سقوط رأس النظام، وأن إنهاء الاستبداد لا يعني بالضرورة بناء العدالة. فغياب الرؤى الاستراتيجية، وضعف المجتمع المدني، وتدخّل القوى الدولية، كلها عوامل تُفرغ العدالة من مضمونها وتحوّلها إلى مجرد شعارٍ سياسي.
تحتاج سوريا اليوم إلى مقاربة عميقة وشاملة للعدالة الانتقالية، تقوم على الحقيقة والمساواة وجبر الضرر، وعلى إرادةٍ سياسية تُعيد الثقة بين الدولة والمجتمع، وتضمن استقلال القضاء، وتكسر الحلقة المفرغة بين الظلم والكراهية، وتُحصن المرحلة الانتقالية من التحول جسراً لعبور النخب نحو سلطة جديدة دون مس البُنى العميقة للاستبداد.
¯¯¯¯
- فاز هذا المقال بالمركز الثاني في الدورة الخامسة من مسابقة «100 صوت سوري ضدّ خطاب الكراهية» - فئة الجوائز الأساسية
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0