فاطمة شيخو أحمد
الصورة: متداول عبر سوشال ميديا
على التلّة الشمالية لمدينة حلب، يقف حيّ الشيخ مقصود مثل ذاكرةٍ معلّقةٍ بين جغرافيتين زمنيتين، بين حربٍ لم تُغلق أبوابها وسلامٍ لا يريد الدخول.
كلّما هدأ القتال في مكانٍ من سوريا، وجد هذا الحيّ نفسه يدفع نصيبه من ضريبة البقاء. لا أحد يعرف على وجه الدقة إن كان «الشيخ مقصود» قد خرج من الحرب يوماً، أم أنه تعلّم العيش داخلها بهدوءٍ متوتّر يشبه استراحةً بين قصفين!
معركةٌ دائمة بأشكال مختلفة
منذ العام 2012، لم يكن الشيخ مقصود طرفاً كاملاً ولا ضحيةً صافية. في البداية، احتضن النازحين من حلب الشرقية، ثم وجد نفسه هدفاً للمدافع ذاتها التي كانت تلاحقهم. دخلت فصائل المعارضة إلى أطرافه، ثم انسحبت تاركةً خلفها فراغاً ملأته «وحدات حماية الشعب» الكردية.
لاحقاً، وعقب تأسيس قوات سوريا الديمقراطية/قسد، وتوسّع الإدارة الذاتية، صار الحيّ كياناً شبه مستقلّ داخل مدينةٍ خاضعةٍ اسميّاً لسلطة النظام الحاكم في دمشق. فالكهرباء تُقطَع وفق جدولٍ خاص، والطحين يأتي عبر طرقٍ محفوفةٍ بالمساومات، والأحوال تتبدّل كما تتبدّل الولاءات.
هنا، كلّ شيءٍ مؤقّت، وكلّ شيءٍ دائمٌ في آنٍ واحد.
في كثير من المواجهات العسكرية في ريف حلب - من عفرين إلى منبج - وجد «الشيخ مقصود» نفسه داخل الحسابات، ولو لم تُطلِق منه رصاصةً واحدة. فالحيّ الذي لم يعد يملك شيئاً، يُحاصَر كلّ مرة كأنّ فيه ثروةً خفية، رغم أنه أصلاً واحد من أفقر أحياء حلب.
تارةً يُضغط عليه لإجبار الكورد على تنازلٍ سياسي، وتارةً يُترَك ليعاقب نفسه بجوعٍ محسوب.
المدارس القليلة في الحيّ تُدرّس المناهج الكردية والعربية معاً، لكنّ الكتب لا تصل بانتظام، والطلاب يحفظون من الدروس ما يكفي فقط للنجاح في يومٍ لا يُعرَف متى سيأتي
ومنذ العام 2016، لم يتوقّف الحصار كليّاً، إنما تغيّر شكله فقط: فالطرق تُفتَح وتُغلَق وفق المزاج السياسي، والأسعار ترتفع وتنخفض بحسب اتجاه الريح القادمة من القامشلي أو دمشق. حتى المساعدات الإنسانية تخضع لخرائط النفوذ أكثر مما تخضع للإنسانية نفسها.
مجتمعٌ يتغيّر بصمت
لم تكن المعركة عسكريةً فحسب، إنما ثقافيةً أيضاً، تدور داخل الحيّ نفسه. إذ نشأ جيلٌ كاملٌ على مفرداتٍ جديدة مثل: الإدارة الذاتية، والكومينات، والمرأة المقاتلة، والاقتصاد المجتمعي.
في المقابل، حافظت عائلاتٌ قديمة على إيقاعها الحلبيّ، بينما تقام الأعراس على أنغام «جبلي» و«دلعونا»، وتحتفظ بذكرياتٍ عن جيرانٍ غادروا ولم يعودوا.
وبين الكرديّ والعربيّ والمسيحيّ والنازح من مناطق أخرى، تشكّل نسيجٌ غير متجانس، لكنه متماسك على نحوٍ غريب، كأنّ البقاء صار هو الهوية الوحيدة الممكنة.
في المقاهي الصغيرة التي نجت من الحرب أناس يتحدثون عن سعر الغاز أكثر مما يتحدثون عن السياسة، وعن صعوبة إيجاد العمل أكثر مما يتحدثون عن شعارات «الإدارة».
لكن في عيونهم التعب ذاته: تعبَ العيش في منطقةٍ لا يثق بها أحد، ولا تستطيع أن تثق بأحد.
النجاة إذ تصير عبئاً!
كان الشيخ مقصود يوماً جزءاً طبيعياً من مدينة حلب، يصل إليه الناس من السبع بحرات وشارع النيل. أما اليوم، فتصعد المدينة إليه بحذر، كأنها تصعد إلى منطقةٍ أُعيد تعريفها، فالمدارس القليلة في الحيّ تُدرّس المناهج الكردية والعربية معاً، لكنّ الكتب لا تصل بانتظام، والطلاب يحفظون من الدروس ما يكفي فقط للنجاح في يومٍ لا يُعرَف متى سيأتي.
أما النساء في الحيّ فهنّ أكثر حضوراً في الحياة العامة من أيّ مكانٍ آخر في حلب، غير أن هذا الحضور يأتي من الضرورة أكثر مما يأتي من الحرية.
والرجال إمّا في الجبهات، أو في الغربة، أو في انتظار معبرٍ مفتوح.
أن تنجو في الشيخ مقصود يعني أن تتقن فنّ التكيّف، وأن تعرف متى تتحدث بالعربية ومتى بالكردية، وأن تتعامل مع الحواجز بلا غضب، وتشتري الخبز غالياً ولا تشتكي كثيراً.
في هذا الحيّ، تُعَدّ النجاة عادةً يوميةً لا جديد فيها. ومع كلّ جولة حصارٍ جديدة، يتكوّن وعيٌ جمعيّ يهمس: «لسنا مع أحد، ولسنا ضدّ أحد، نحن فقط نريد أن نعيش».
لكن ماذا بعد النجاة؟
ذاك هو السؤال الذي لا يجرؤ أحد على طرحه بصوتٍ عالٍ.
فالحيّ الذي تعلّم البقاء، لم يتعلّم بعد كيف يتعافى. والجراح التي لم تُعالَج تحوّلت إلى ملامح في وجوه الناس، وإلى حذرٍ في لغتهم.
تبدو الحياة ممكنةً، إلا أنها هشّة، معلّقةٌ بخيطٍ سياسيّ لا يملكه أحدٌ من أبناء الحيّ.
ومع ذلك، حين تغيب الكهرباء، تُضاء الشرفات بالشموع، وتعلو ضحكات الأطفال من الأزقّة الضيّقة، كأنّ الحياة نفسها تتآمر لتقول: «ما زلنا هنا، ولو بصمت».
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0