ضياء الصحناوي
الرسم مولّد بالذكاء الاصطناعي
نهاراً؛ أوّل الليل
لم أستطع الوصول إلى أهلي. والدي، الذي يشارف على التسعين، «نجا» قبل عامين من المقتلة السورية، لكنّه نجا نفسيّاً فقط، حين وقع أسير النسيان. كان، كلّما استعاد وعيه للحظات، يسأل عن حال الرئيس، وعن راتبه التقاعدي، وعن شقيقي الذي رحل بجلطةٍ قلبيّة في نهاية العام 2000.
ربما كنتُ لأنجو أنا أيضاً من هذه التخيّلات الدموية، لو كان أبناء وبنات أشقّائي بالقرب مني. لكنّني أكتفي الآن بمراقبة دموع ابنتي الوحيدة، وهي لا تنفكُّ تضغط عليَّ لأهرب.
«صاروا على مسافة ثلاثة كيلومترات» قال جاري، وهو يحتضن بندقية روسيّة الصنع.
«لن يدخلوا، لا تخف» طمأنته، ثم مضيتُ على حبال الهاوية، أتفقّد قبوَ البناءِ، وأنا أتمتم: «لن يلتفتوا إليه. سنُبقيه مفتوحاً على مصراعيه، ونترك خيوط العناكب المتدلّية كما هي. سننجو». في تلك اللحظة، انزلقت مخيّلتي نحو فيلم «فندق رواندا»، بدون أيّة مناسبة.
خرجتُ مسرعاً من القبو، وقلتُ لجاري أن يُلغي المخطّط: «سيكتشفون المكان». طلبتُ من ابنتي ذات السبعة عشر عاماً، أن تُحَضّر حقيبة الطوارئ. راحت تنشغل بكل تفصيل، الثياب، مقتنياتها الصغيرة، غيتارها الأسود، صورها المعلّقة كمعرضٍ في غرفتها الضيّقة. كنت أراقب تحرّكاتها بدقّة، من خلف الباب، دون أن تراني.
فجأةً، شعرتُ بيدَيْ ابنتي تحتضنان رأسي. أنا، البارد، الساخر من الموت وطقوسه، المتبلّد المشاعر - كما تصفني زوجتي أمام معارفي - الهادئ، المتوازن، الواثق أنّ كلّ تخيّلاتي ستمضي سريعاً، كنتُ أبكي بصمتٍ دون أن أدري. خرجتُ كالمَلسوع أبحث عن طوق نجاة، حتّى لو كان طائرةً من ورق.
منتصف الليلة الأولى من الغزو
«الغزو!» لا أعرف أيّ مصطلح آخر يمكن أن ينقذني من تسلّط أصدقاء العمر - أو ممّن كنت أظنّهم كذلك - ومن منظمات المجتمع المدني، ومن رؤسائي في العمل. كم كنت غبيّاً.
المهم، عند منتصف ليلة الغزو الأولى، اجتمعنا في ساحة الحارة. رجالٌ بزيٍّ مدني وأسلحةٍ فرديّة، شبّانٌ يرتدون الجُعَب الحربية، يافعٌ يحمل قنبلةً يدوية، وابني الشاب الذي يرمقني بنظرة عتب كلما التقت أعيننا.
لم نكن نحمل سلاحاً، كلانا كان أعزلَ تماماً، وكنت وحدي من يتحمّل مسؤوليّةَ ذلك. لم أكن أقبل حتى مجرّدَ طرح الموضوع للنقاش، وحجّتي أنّ كل السّلاح في البلد لن يجلب الأمان، ولن يعيد الحق. اختلفنا كثيراً، لكنّني بقيتُ مُصِرّاً على رأيي.
كان يتحسّس جيبَه، وكنت أعرف تماماً كيف يفكر، وأعرف ما الذي يدور في رأسه. عاد إلى البيت حاملاً كوابيسه اللعينة وتخيّلاته. اتفقنا ألا نخرج من بيوتنا مهما كان الثمن. نحن محصَّنون هنا، وإن خُرِق أي مكان فسندافع بكل ما نملك حتى لا يصلوا إلى حارتنا.
اشتدّت المعارك بكلّ صنوف الأسلحة، والأصوات تقترب. طلبتُ من الجميع الهدوء. كنتُ على يقينٍ بأن المعركة ما زالت بعيدةً عنا، وأن التلال العالية ستحرس المدينة من الخطر.
الصور والفيديوهات والمنشورات تخنق صوتي ويقيني، لكنّ شيئاً ما، كان يدفعني لأصرخ بأعلى صوتي: «سننجو من ذلك كلّه!». سطحُ البناية العالي يسمحُ برؤيةِ النار المشتعلة على الجبهات. الليل طويل، وأصوات السيارات التي تنقل النساء والأطفال تمرّ من أمامنا باتجاه الجنوب. قال جاري: «لقد دخلوا مدينة السويداء».
كنت أنتظر رسائل أصدقائي من درعا، والحسكة، واللاذقية، وطرطوس، وحلب. كنت في اختبار «الخبز والملح»
«الدرون» تحصد الأرواح، والدبابات تمشي على الناس، وصواريخ «غراد» تُسمع على بعد عشرين كيلومتراً. غرفُ العمليات تقول إنهم صدّوا الغزو عن المدينة، فيما تتحدث مجموعات «واتساب» عن مجازر في الريف الغربي. شبانُ عَرِيقة يصنعون الفارق. وابني يذهب إلى حواجز المدينة لتأمين الماء والخبز للمرابطين، كأنّه يحاول أن يصنع فارقاً ما. كنت أراقب رجلاً يكبر أمامي. فقد كان، إلى جانب مهمّته تلك، يمشي مسافاتٍ في الليل، كي يبحث عن حلوى أو أكياس «شيبس» لأخته الصغيرة.
مضت الليلة الأولى ثقيلةً، ثقيلةً. لا أوكسجين في هذا البرد المتواصل. صمتٌ يثقل أرواحَنا، نحن المتحصّنين في البيوت، وعلى الأسطح، وفي الطرقات. لا يقطع تلك الكتلة الثقيلة سوى صوت المدافع والصواريخ، أو مرور سيارةٍ مسرعةٍ لا نعرف ماذا تحمل، ولا إلى أين تسير. في الصباح، اكتشفنا أنّ الاتصالات انقطعت، لتلتحق بالماء والكهرباء. في ذلك اليوم تحديداً تكرّست القناعة بأنّنا وحدَنا، وأنّ الخذلان يأكلنا، نحنَ المتمسّكين بأنّ السويداء هي الحقيقة الوحيدة التي نجت من جنون النظام السابق وعبثيّته.
في اليوم السابع...
أجبرْنَا أنفسنا على التحرك نحو الحياة. كنّا نمشي على حزننا وغضبنا وشعورنا بالخذلان. لا كهرباء منذ بداية الغزو. الماء يُوزع بالـ«بيدون» على كل أسرة. خرجنا نتفقد أحوالنا نحن، وليس حال أيِّ أحد آخر. نعم، نحن أحياء. صحيحٌ أننا التقينا المئات من أشباهنا على طابور رغيف الخبز الليلي لساعات، لكن للشمس نكهة مختلفة.
كان إحساساً لم أشعر به حتى عندما خرجت من أحد سجون نظام الأسد قبل أعوام. في الشوارع، يبحث الناس عن اللبن، والبطاطا، والبصل؛ لا أحد يفكر بأي نوع آخر لأنه يعلم أنّه مقطوعٌ تلقائيّاً. أنا كنت أبحث عن ماء مثلج. كان ارتفاع درجة الحرارة - بخلاف الليل - يهاجمنا كما هاجمتنا جموع المقاتلين. بينما كان كل من في هذه الجغرافية يبحث عن شحنٍ للضوء وللأجهزة الهاتفية المتوقفة، على أمل أن تعود الإنترنت لاحقاً.
«الغزو!» لا أعرف أيّ مصطلح آخر يمكن أن ينقذني من تسلّط أصدقاء العمر - أو ممّن كنت أظنّهم كذلك - ومن منظمات المجتمع المدني
صعدت مبنى المدرسة الافتراضية التي تملك اتصالاً بـ«إنترنت» فضائيّ، وجلست أتلقى الرسائل: «هل أنتم بخير؟ فقط طمئنونا عنكم». رسائل من صحافيين وصحافيات عرب وأجانب يسألون عن الوضع الميداني: «أنا فلان، أعطاني رقمك صديقك فلان. كيف الحال؟ هل يمكننا أن نستضيفك للحديث عن السويداء؟».
أمّا أنا فكنت أنتظر رسائل أخرى، ووجدتها. رسائل أصدقائي من درعا، والحسكة، واللاذقية، وطرطوس، وحلب.
كنت في اختبار الخبز والملح، اختبار الفصل بين العقل وانتماء الهويةِ في الدوس على الدماء أو التبرع بها. لم أخبركم، وأنا متقصّد، عن قصتي مع المشفى الوطني. عن يزن الذي حوصر أربعة أيامٍ مصادفةً، فتحوّل إلى مسعف بدل أن يكون مراسلاً. عن بكائه في آخر اتصال به وهو يخبرني عن صديقه محمد الذي قُتل. وعن القناص الذي أجبرهم على الموت وهم أحياء.
لقد حصلت على عبوة مياه كبيرة مثلجة، كأن السماء أهدتني الأمان.
نسيت أن أخبركم أن عدداً كبيراً من المحال، التي، للصدفة، لم تُنهب ولم تُحرق في مدينة السويداء، فتحت أبوابها للناس بشكل مجاني، وتحولت مقابر القرى الآمنة إلى مأوى ضمّ رفات من سقطوا، بعد أن تعذّر دفنهم في مقابر المدينة.
كانت تلك الساعتان، في العالم الافتراضي، كفيلتين بأن تقتلانك، قبل أن تعودَ إلى دائرتك المغلقة، والأسئلة المعلقة عن الضحايا، والقرى التي ما زالت تقاوم، وعن المجازر التي تُكتشف كل ساعة، وعن وقف إطلاق النار، وعن «الزنّانة» التي تملأ الجو ليلَ نهار... هل كلُّ ما يحدث هنا حقيقيٌّ فعلاً؟
تسعون يوماً من الحصار
جثث الذين قرروا البقاء في بيوتهم ما زالت هناك. اعتصامات، مظاهرات ووقفات يومية تطالب بالإفراج عن المختطفين والمختطفات، ومعرفة مصيرهم.
السويداء تطالب بتقرير المصير. مصطلحات «المعابر»، و«الأزرق»، و«المزرعة»، و«الحصار»، و«مراكز الإيواء» تتصدر الحديث على مواقع الإعلام والتواصل. الطحين والمحروقات بكل أنواعها باتت «حبال مشانق» تخنق الرقاب. الماء، والكهرباء، والاتصالات تتصدر الأخبار العاجلة في كل النشرات.
المدارس بلا طلاب ولا مدرسين، بلا حياة. موظفون بلا رواتب. مزارعون يحسبون الخسارات ويتجرعون سمّ المَحْل. عاطلون عن العمل في الحرس الوطني المشكّل حديثاً. شبانٌ وشاباتٌ يحملون مبادراتهم ليخرجوا من نفق العزلة. طلابُ وطالباتُ الجامعات بلا جامعات. لا احتفالات بالنجاح في الشهادة الثانوية العامة، فكل الذين تقدّموا رسبوا.
مئات الصفحات والمنصات والمشاريع الإعلامية نبتت في فضاء مليء بالكراهية والحقد والابتزاز. منظمات ومعاهد ومراكز لم نسمع بها من قبل تتصدر الواجهة المدنية، لكنها أماكن بلا روح. رجل يصيح في الشارع ليشتري أحدهم معونة الهلال الأحمر التي لا تسد الرمق. البحث عن فرش وأغطية للشتاء مستمر. مهجرون سكنوا في أبنية فارغة.
أمّا ابنتي فما زالت ترتب حقيبة الهروب.
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0