× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

أبو هاني.. أُميٌّ على «عرش» المرفأ

عقل بارد - أوراقنا 28-11-2020

كان أبو هاني ممن عملوا في الخمسينيات قـرب المرفأ، متعاملاً مـع البـواخر الأجنبيـة، من مجموعة وسطاء يطلق عليهم اسم الوكلاء، أي أنهم مسؤولون بشكل كامل عن تموين الباخرة بالمواد والحاجيات الاستهلاكية، ومسؤولون عن تأخير البواخر في الحالتين

الصورة: (Syrian History - فليكر)

اسمه أبو هاني، يذكره أبناء مدينة اللاذقية جيداً، سواء من عمل منهم في «البور» المرفأ، أو من كان مجرد شاهد على خمسينيات القرن الماضي. 

شكل الرجل ظاهرة غطّت أخبارها صحائف تلك اﻷيام، وأثيرت بسببه معارك نيابية، لم تنته حتى أوائل الستينيات حين تمكّنت العصبة الحاكمة آنذاك من إنهاء إمبراطوريته، مع ما رافقها إيجاباً وسلباً. 

أطلق عليه سكان اللاذقية لقب «الرجل المعجزة».

كان أمّياً لا يقرأ ولا يكتب، لكنه مع ذلك أدار حسابات مرفأ اللاذقية كاملةً، وكان له «فضل» يحكيه الناس: هو أوّل من أطلق سفينة سورية في مياه المتوسط. (في الأزمنة الحديثة طبعاً).

وبما أننا في هذا الموقع نحاول عادة ألا نحكم على أحد، فسنكتفي بأن نقصّ بعضاً من سيرة الرجل، وما علق بها من آراء خصومه ومؤيديه على حد سواء.

وثائق محروقة!

قليلة هي الوثائق المتاحة عن الرجل، إذ إن الوثائق التي تتناول تلك الحقبة قد احترقت (وقيل أُحرقت) في مطلع السبعينيات، إثر حريق أتى عليها في وزارة الدفاع السورية، حسب حديث أكرم الحوراني، في مذكراته (ص 1722).

لذلك، فإن ما سيلي، مقتطف من مصادر متفرقة، من بينها مذكرات الحوراني نفسه. وأهمها ما أورده المؤرخ عبد الله حنا، في كتابه «المرويات التي جمعها الدارسون السوريون في معهد 16 تشرين الثاني للثقافة العمالية والإعداد النقابي من شرائح متنوعة من المجتمع السوري في السنوات بين 1986-1988»، الصادر عن مركز الشرق الجديد في برلين، ثم عن المركز العربي للدراسات وأبحاث السياسات في بيروت العام 2017، بعنوان مختلف قليلاً «صور من حياة مجتمعات سورية القرن العشرين» (ص 52 وما بعدها).

يروي حنّا نقلاً عن أحد متدربي المعهد من اللاذقية، واسمه صلاح حسن أمّهان: «أبو هاني هو مصـطفى حسن قدسي. مـن مواليـد اللاذقـيـة حـوالى 1880، وتوفي أواخر الخمسينيات وبالتحديد 1958». وفي رواية ثانية لشخص آخر يقول إنه «ولد العام 1876 لعائلـة تعمـل في البحـر»، أما حفيده فيقول إنه من مواليد 1890. كـان والـده يملـك مراكب شراعية وينقل على متنها البضائع إلى الدول المجاورة.

موجز سيرة المرفأ حتى الخمسينيات
تضرر ميناء اللاذقية إثر زلزال ضخم العام 1822، ما تسبب بكارثة طاولت مبانيه البسيطة أصلاً، كما قوّضت منارته الواقعة عند مدخله، وسقطت جميع الردميات في المياه، ما أوقف حركة الملاحة إليه، وحوّلها إلى ميناء بيروت لسنوات طويلة. 

مع الانتداب الفرنسي بدأت محاولات تنظيف وتعزيل وسبر للميناء، بهدف تأمين وصول السفن الفرنسية إليه، لنقل الصادرات السورية إلى فرنسا، إضافة إلى الشؤون العسكرية. 

قليلة هي الوثائق المتاحة عن الرجل، فالوثائق التي تتناول تلك الحقبة احترقت في مطلع السبعينيات، في وزارة الدفاع السورية

في تموز 1928 أعلن عن مناقصة لتعميق حوض الميناء، ورست المناقصة على شركتين: هولندية ولبنانية.

اكتمل تعميق الحوض على مدار عامين، لكن التوسعة والتعميق لم يفيدا السفن ذات الحمولات الكبيرة، وهو ما كان يدفع تلك السفن إلى الرسو خارج الحوض، على بعد ثلاثين إلى خمسين متراً.

في تلك الظروف ظهر أبو هاني، بصفته وسيطاً يتولى تفريغ السفن الراسية على المِخطاف أمام المرفأ بواسطة روافع البواخر، ثم يتكفل نقل بضائعها إلى رصيف الميناء، عبر مواعين خشبية تجرها الزوارق، لتُفرّغ على اﻷرصفة وفي المستودعات، بواسطة العتالين.

بداية مواعين أبو هاني

كان أبو هاني يملك مركباً خشبياً (شختورة) لنقل البضائع، وفي العام 1941 صنع له محمد صبرة أول زورق / لنش، سماه «فاروق»، عمل فيه عدد من البحارة والفنيين قدموا من جزيرة أرواد، كما تعاون مع الحاج نديم زيدان الذي كان يملك ثلاثة مواعين آنذاك. 

استخدمت تلك الزوارق الصغيرة لقطر المواعين الخشبية، بخبرة البحارة القادمين من جزيرة أرواد. سعة كلّ من تلك المواعين لم تكن تتجاوز نصف طن، ومن خلال ممارسة أبو هاني العمل خطرت له فكرة إنشاء مواعين كبيرة من الخشـب. وحسـب مـا رواه بعـض العمال الذين عملوا عنـده، فإن حمولة كل واحد من المواعين التي صنعها وصلت إلى مائة طن، وبلغ عددها أربعين ماعوناً، (في رواية أخرى خمسة وعشرين)، تجرها عشر لنشات تعمل على الديزل إلى داخل المرفأ. 

أدت تلك «الثورة» إلى تحقيق أرباح طائلة، جعلت من الرجل رقماً صعباً في المرفأ. استمر في توسيع أعماله، ليصبح وكيلاً لشركات أجنبية كانت ترسل سفنها إلى مرفأ اللاذقية.

كان العتالون هم القوة الضاربة في المرفأ. يتوزعون على فرق كل واحدة منها مسؤولة عن جزء من العمل، ولكل فرقة مسؤول عن إدارة شؤونها، وعلاقتها مع إدارة المرفأ المسؤولة عن حركة البضائع، وأبو هاني صاحب المواعين الناقلة. كان ذلك الشخص يسمى بالريّس، وهو مسؤول عن إدارة الشؤون المالية، وتقاضي أجور العمال من المرفأ، ثم توزيعها على العمال وفق حصص وأصول وقواعد متعارف عليها، وكذلك عن توزيع العمال على مراكز أعمالهم، سواء في المواعين أو البواخر أو الروافع وفق مقتضيات العمل. 

شكلت تلك الفرق مركز قوة عمالية كبيرة في مواجهة إدارة المرفأ وأبو هاني معاً، إلى أن تمت إعادة تنظيم العمال، وتوظيفهم في شركة المرفأ في الخمسينيات وأصبحوا تابعين إدارياً ومالياً لها.

«نحـن نريـد بـور هـاني»

صار أبو هاني في غضون سنوات مـن أصـحاب الأموال الكبيرة، وبات مرفأ اللاذقية يعرف باسـم مرفأ أبـو هـاني!

يروي عامل سابق أن المشرفين على البواخر اﻷجنبية، كانوا حين تدخل بواخرهم مرفأ اللاذقية، يطلبون على الفور أبو هاني: «نحـن نريـد بـور هـاني»، أي أنهم لا يريدون تفريغ الباخرة إلا عن طريقه.

في ذلـك الوقـت كانت لليرة السورية قيمـة نقدية عالية مقابل الدولار، فكان العامل المياوم يشرب فنجـان قهوة بأربع قروش

كان أبو هاني ممن عملوا في الخمسينيات قـرب المرفأ، متعاملاً مـع البـواخر الأجنبيـة، من مجموعة وسطاء يطلق عليهم اسم الوكلاء، أي أنهم مسؤولون بشكل كامل عن تموين الباخرة بالمواد والحاجيات الاستهلاكية، ومسؤولون عن تأخير البواخر في الحالتين (الشحن والتفريغ). وكانوا كذلك وسـطاء بـين الشـركات المالكة للبـواخر الكبيرة، وشركة المرفأ السورية التي كان يديرها المهنـدس كحّالة. (المحررة: المهندس محمد نـور الـدين كحّالة من حمص يحمل شهادة هندسة مدنية من الولايات المتحدة، عُيّن مديراً للمرفأ عام 1952 بتوصية من خالد العظم، وكان من أعضاء الكتلة الوطنية، وجدير بالذكر أنه وضع أوّل خطة خمسية لسوريا العام 1960، توفي عن عمر خمس وخمسين عاماً).

«خذوا الفانوس»

كانت شـركة المرفأ تحاسب الوكلاء، ومنهم أبو هاني، وحسـب أقـوال بعض العمال فإنه كـان يضـع أمواله في شوال (كيس كبير من الكتّان) يحمله على ظهـره، ويجول به على العمال لمحاسبتهم.

نقتبس من كتاب حنّا: «في ذلـك الوقـت كانت لليرة السورية قيمـة نقدية عالية مقابل الدولار، فكان العامل المياوم يشرب فنجـان قهوة بأربع قروش، أما اليوم فإن سعره أربع ليرات». (المحررة: هذا في العام 1986 زمن إعداد كتاب عبد الله حنا، الذي رفض اتحاد العمال نشره وقتها، حسب ما نقل المؤلّف المقيم حالياً في ألمانيا).

كان إنتاج العامل يكفيه ليعيش عيشة مقبولة، إلا أن عمالاً آخرين قالوا إن أبو هاني كان يستغل العمال، ويجني من ورائهم مئات ألوف الليرات، ويعاملهم بقسوة وتسلّط. يقول أحدهم: «عنـدما يقـول ريـس الماعونـة (غيّمت يـا شباب)، يقصـد أن أبو هاني قـد حضـر، ويكـون ذلك بالنسبة لجميع العمال شيئاً مرعباً، وهنا يتحرك العمال بأقصـى مـا عندهم من قوة، حتى يرضـى الريس أبو هاني، لأنه إذا غضب عليهم قصم ظهرهم، وفصلهم من الشغل، وإذا حدث وتأخر أحد العمال، وعرف أبو هاني باﻷمر فإن مصيره الطرد فوراً».

يُنقل عن أبو هاني قوله عن كل عامل كان يتأخر بأعلى صوته: «خـذوا الفانوس من أخو الشّلكة وأعيدوه إلى البيت». (ص 59 من كتاب حنّا). كان كل عامل يحمل فانوساً للإضاءة، فالعمل يبدأ في الرابعة صباحاً، ولم تكن هناك كهرباء في المرفأ، حتى الستينيات. أما الأجـور فكانت تترواح بـين ليرتين وأربع ليرات، كحد أقصى، مقطوعةً تدفع أسبوعياً من قبل أبو هاني، ولا يتوقف العمل حتى في اﻷعياد والعطلات، حتى الثانية من ظهر كل يوم.

بطل روائي!

حسب روايات بعض أهالي اللاذقية، ممن عاصروا تلك الفترة، (ومنهم حفيد أبو هاني) أنه كان يعطي أجوراً أسبوعيةً، وكان يجلس على كرسيه القش في دكانه في أول حارة العوينة، بالقرب من مدرسة يوسف العظمة حالياً، وأمام الدكان يصطف طابور طويل من البحارة مساء كلّ يوم خميس، ليقبضوا أجرهم الأسبوعي منه، باعتباره رئيس عمال الميناء. 
 (أورد حنّا مينا بعضاً من هذه الوقائع في روايته نهاية رجل شجاع، ووفق حفيد أبو هاني، فإن الروائي لم ينصف جده).

تقول رواية أخرى ﻷحد عمال المرفأ، ترد في كتاب عبد الله حنا، إن «أبو هاني كان يميز بين العمال من ناحية المعاملة، والأجرة. الفئة التي كانت تناصره وتمثل يده اليمنى كانـت تحوز على المعاملة الفضلى، ولكنه في اﻷعياد والمناسبات كان يوزّع على العمال عيدية لا أقل من خمس وعشرين ليرة (أجرة شهر فأكثر)».
 

يتبع

مصادر

«مرويات الدارسين السوريين في معهد 16 تشرين الثاني للثقافة العمالية والإعداد النقابي من شرائح متنوعة من المجتمع السوري في أعوام 1988 – 1987 – 1986». من إعداد مدرّس الحركة النقابية والعمالية العربية في المعهد بدمشق عبد االله حنا.

- منشورات عن أبو هاني في عدد من المواقع السورية، أبرزها حديث اللاذقاني فايز فضول

- مذكرات أكرم الحوراني


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها