الريفي
الصورة: (Esther Addy - فليكر)
لقد حوّلوا كل شيء في هذه البلاد «مقابر جماعية».
كنا نخاف من الاشتباكات والقصف، ندفن جثث أحبتنا في حدائق المنازل، وعندما غادرنا وتركنا قبورهم لتحرس البيوت، جاءت فرق العمل، وأخذت الجثث بعيداً. الآن لا سبب يدفعنا للعودة، فالقبور التي سنعود من أجلها، نُبشت لأنها «مقابر جماعية»، ونقلت الجثامين إلى مكان بعيد ليبحثوا فيها عن أسماء لآخرين، أليس هذا معقداً؟؟
ما تقدّم، ملخص بسيط لإحدى حكايات عائلات المفقودين في شمال شرقي سوريا، بعد أن بدأت بعض المنظمات عملاً حثيثاً لنبش المقابر الجماعية هناك.
يثير هذا النبش - على أهميته - الكثير من التساؤلات، إذ يبدو أنه يخلط الحابل بالنابل، ويخلط الأدلة إلى درجة تشتيتها، ليضيع القاتل بين «داعش»، والتحالف الدولي، والجيش، وقسد، وفصائل المعارضة المسلحة.
الأعقد، أننا حين نقرأ قائمة المقابر الجماعية، يسهل أن نجد فيها مقبرة تضم ست جثث فقط، في حديقة منزل. من قال إن هذه مقبرة جماعية يجب نبشها بعد سنين كثيرة، ونقل الجثث لإجراء فحص DNA ومعرفة هويات أصحابها؟ أليس من الممكن أن تكون هذه الجثث لأسرة واحدة؟
في هذه الحالة إذاً، نحن لا نجد جثثاً، بل نضيعها، ونزيد الفقد!
ليس القصد أبداً أن أنادي بعدم الحاجة إلى نبش المقابر الجماعية، لكنني أتحدث عن ضرورة إيجاد آليات مختلفة.
هذه البلاد الغرقى بالمقابر، تحتاج حتماً إلى أناس يعودون إليها يوماً، حتى ولو كان ذلك لزيارة قبر!
أكتب هذا التقديم، في ما يشبه التساؤل التقني البسيط، من دون الغوص في التفاصيل، بغية تحويله مدخلاً للبحث في غايات الأشياء في بلادنا.
هل كانت البلاد ترتدي ثوباً بعينين خضراوين، أم بعيون حمر قبل المجزرة والمقابر الجماعية؟! هل ينفع إيجاد الجثة في شيء
لقد سجلت عمليات النبش في الجزيرة مشهداً لم تبتدعه مخيلة أمهر السينمائيين في العالم: أسرتان تلتقيان على حدود مقبرة جماعية، بدأ النبش فيها بواسطة الفرق «المختصة» - تقصدت وضع مختصة بين علامتي تنصيص لأن النبش حسب علمي لا يتم بحرفية المختص إطلاقاً - الأسرتان تبحثان عن جثماني ابنيهما.
الاعتماد في مثل هذه الظروف يكون كبيراً على الملابس والإكسسوارات لمعرفة هويات الجثامين. كانت الأسرتان ترقبان الحدث، وكلّ منهما تبحث عن جثة تقضي على الإنكار الذي يكبل أفرادها، وتفتح قبراً يصير مقصداً للغار والأعياد.
في لحظة ما، جحظت أعين أفراد العائلتين عندما ظهرت ألوان الثياب التي كانت تغطي جثثاً متفسخة بلا معالم.
للمصادفة كان المفقودان يرتديان ثياباً لها الألوان نفسها! نعم، لقد حدث ذلك: نشب خلاف شديد بين الأسرتين على عائدية الجثة، أفراد كلّ منهما يقولون إنها تعود لابنهم!! كلهم ركضوا، كلهم قالوا هذا هو، كلهم قالوا إنها جثتنا. (كعادتها اللغة توقعنا في الفخ، نستخدم «نا» لنشير إلى ملكيتنا للجثة، لنكتشف أن الجثة هي من تملكنا، فجثتنا هي الجثة التي نملكها، وهي كذلك الجسد الميت الذي نحن فيه، أتكون حقاً هذه البلاد جثتنا؟).
انتهى النزاع على الجثة وانتصر أحد الفريقين، بعلامة فارقة وحاسمة، فيما ظل الفريق الآخر يعيش انتظار اللون المماثل. أغلب الظن أن التمييز كان بترتيب الألوان وليس باختلافها، شيء يشبه تلك الراية التي يختلف حولها السوريون، في مثال يتقاطع مع حكايات الجثث، ويحيلنا إلى معناها، فهل كانت البلاد ترتدي ثوباً بعينين خضراوين، أم بعيون حمر، قبل المجزرة والمقابر الجماعية؟!! وهل إيجاد الجثة ينفع في شيء؟ وهل ثمة بكاؤون على رأس المقبرة الكبرى؟؟
نشب خلاف شديد بين الأسرتين على عائدية الجثة، أفراد كلّ منهما يقولون إنها تعود لابنهم!
كيف يمكن أن يتقاطع معنى ضياع الأدلة في نبش القبور، مع معناها في اتفاق الدول على نهش القبر الكبير؟؟
في تجربة نبش القبور في الشمال الشرقي أسئلة كثيرة، يزيدها صعوبة السعي إلى إيجاد توازن بين حاجة الأسر إلى العثور على جثث أحبتها، وحاجة التاريخ إلى الأدلة.
وفي تجربة البلاد أسئلة أكثر، يزيدها صعوبة السعي إلى إيجاد التوازن بين الحاجة إلى تحقيق العدالة للمظلومين، وحاجة البلاد وأبنائها إلى السلام.
كم مقبرة جماعية سنتمنى لو أننا ما فتحنا؟ وكم حكاية سنلعن حينَ نتذكرُها؟ وكم معركة ستنشب عند كل ذاكرة؟
في الحقيقة، إن نقصاً سيصيب هذا المقال، لأنني أعترف بعدم قدرتي على متابعة حكاية الأسرة التي خسرت معركة الجثة. أنا لا أعرف هل وجدت جثة ابنها أم لا، لكنني أعرف أن الفِرق ما زالت تنبش، وأن الأسر ما زالت تقف على نواصي المقابر، تترقب ألوان قطع القماش المتبقية تحت التراب.
وأكرر سؤالي التقني مجدداً: أليس من الممكن أن نخسر أدلة كبيرة في هذه العملية؟؟
وأسأل سؤال ابن البلد المكلوم، لأرد على سؤالي ذاك: ما نفع أن نربح الأدلة في عالم تُثقله سطوة القوي؟ كل ما في الأمر، وكل ما نملك هو الدعاء ألا تلتقي على حدود مقبرة يتم نبشها أسرتان لمفقودَين كانا يرتديان ثياباً بألوان متشابهة لحظة الفقد، وأن نوقف عراكنا فوق رؤوس الجثث!
هامش
شهد شمال شرقي سوريا أكبر قدر من التدخلات الحربية العنيفة. وثقت منظمات وهيئات عدة مقتل عدد كبير من المدنيين جراء قصف التحالف، ووثقت أخرى مقتل عدد كبير جراء قصف الجيش، وإعدامات «داعش» الميدانية، ويتحدث آخرون عن تورط لقسد، وآخرون عن «جبهة النصرة» وبعض فصائل المعارضة المسلحة، في مرحلة ما... إلخ
استمرار النبش غير المنظم، قد يؤدي إلى ضياع أي دليل على جرائم التحالف، في منطقة تكاد تكون الوحيدة التي تورّط فيها بقتل المدنيين.
يقول صديقي: «هذا ما يسمى الاستثمار في مشاعر العائلات»
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0