× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

«طوشة 1860» و«حقوق الأقليات»

عقل بارد - أوراقنا 15-08-2021

الاستناد إلى «حقوق الأقليات» أساساً للتقسيم السياسي لم يظهر بشكل فعلي إلا مع الاستعمار الأوروبي الذي اتكأ على «حماية الأقليات» لتكون أحد مداخل ابتلاع «الرجل المريض» وهو اللقب الذي عُرفت به السلطنة العثمانية في طور الأفول

الصورة: رسم تخييلي يمثل تدخل الجنود الفرنسيين في «طوشة 1860»

لعل إحدى «إيجابيات» مأساتنا السورية أنها دفعتنا إلى إعادة قراءة تاريخنا غير الرسمي، وتاريخنا غير الرسمي هذا فتح الباب لقراءات متشعبة، وغير رسمية أيضاً، في محاولة لفهم مجمل تاريخ منطقتنا بارتباطها بالعالم الواسع، وصولاً إلى استحداث مقاربات أكثر إقناعاً، أكثر رصانة، وأقل هزلية مما تعرضه القنوات الإعلامية الرسمية (الرسمية تنطبق على كل الأطراف الرسمية)، لما نعيشه من ويلات.

أنهيت قبل أيام قراءة كتاب صادر حديثاً عنوانه «دولة المصارف» للباحث اللبناني د.هشام صفي الدين، وصدر في آذار من هذا العام عن مركز دراسات الوحدة العربية.

يؤرخ صفي الدين تأريخاً موازياً، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً للبنان، الدولة التي ما زالت «النزعة التجارية» مهيمنة عليها، من أيام ميشال شيحا وحتى الآن. يعود الباحث بتاريخ تلك النزعة إلى ما قبل الفصل ما بين سوريا ولبنان، بل وإلى الجذور الأولى لذلك الفصل التي بدأت مع أول اقتراضٍ كبيرٍ قامت به السلطنة العثمانية من مقرضين أوروبيين العام 1854 لتغطية أكلاف حربها الخاسرة مع روسيا (حرب القرم 1853-1856)، تلك الحرب التي كانت من حيث الظاهر حرباً بين مسلمين ومسيحيين. أي أنّ آلة الحرب العثمانية في حينه، وإذ كانت «تدافع عن الإسلام ضد المسيحية»، فقد كانت تستند في دفاعها ذاك إلى «قروض مسيحية» لـ«محاربة المسيحيين»!

في العام 1860 هجمت مجموعات كبيرة من «الزعران» على سوق القيمرية في دمشق، هاتفة بشعارات معادية للمسيحيين، ومدججة بالسكاكين والأسلحة، لترتكب مذبحة ضد التجار والحرفيين والشغيلة المسيحيين

تراكمت الديون وتضخّمت وصولاً إلى تأسيس «المصرف الإمبراطوري العثماني» العام 1863. يوحي الاسم بأنه مصرف للدولة العثمانية، لكنه في الحقيقة كان مصرفاً خاصاً برؤوس أموالٍ فرنسية وبريطانية، وظيفته الأساسية إدارة عملية إقراض السلطنة، وربما «الطريف» أنّ مركزه الرئيس كان في بيروت.

توازت تلك التغيرات الاقتصادية المالية التي بدأت منذ العام 1840 تقريباً مع الدخول البريطاني الاقتصادي على سوق السلطنة، مع أخرى قانونية بين أهمها «تنظيمات» السلطان محمود الثاني، وبعدها «القائمقامية المزدوجة»، ثم «الخط الهمايوني»، وصولاً إلى تزايد الحديث الأوروبي عن «حقوق الأقليات» و«حماية الأقليات» ابتداءً من أحداث 1860.

«طوشة»​ 1860

أثناء قراءة كتاب صفيّ الدين، كانت دراسة للدكتورة ريم منصور الأطرش، حفيدة سلطان باشا الأطرش، حاضرة في خلفية التفكير، لأنّ السياق التاريخي والمكاني واحد، وتعدد جوانب المعالجة - وإنْ زاد المشهد تعقيداً - يظل الباب الأسلم نحو وضوح حقيقي، لا وضوح اختزالي فقير.

بحثُ الأطرش يحمل عنوان: «"طوشتا" سوريا من أجل تدمير اقتصادها: طوشة العام 1860 في سوريا والحرب عليها بدءاً من العام 2011». وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع الباحثة في النتائج التي تصل إليها عبر استذكار الحدث التاريخي، ومحاولة المقارنة بينه وبين الحاضر، فالمؤكد أنّ الرواية التاريخية الموثّقة التي تقدمها لأحداث دمشق 1860 أو «طوشة 1860»، هي رواية على قدر كبير من الأهمية.

ملخص «الطوشة» التي حصلت في العام 1860 أن مجموعات كبيرة من «الزعران» هجمت على سوق القيمرية في دمشق، هاتفة بشعارات معادية للمسيحيين ومدججة بالسكاكين والأسلحة، لترتكب مذبحة ضد التجار والحرفيين والشغيلة المسيحيين المتمركزين في السوق.

تبع الحدث تدخل أوروبي، فرنسي وبريطاني بشكل خاص، بهدف «الدفاع عن المسيحيين»، واشتمل ذلك على وصول جنود فرنسيين بأمر من نابليون الثالث بقي منهم 12 ألف جندي في دمشق لمدة ستة أشهر.

التاريخ غير الرسمي لطوشة 1860
إذا كان الاختزال السابق الذي غطّينا من خلاله أحداث 1860 هو التاريخ الرسمي للحادثة، فإنّ د. ريم تنقلنا إلى إحداثيات أخرى مختلفة تماماً في الرواية الموثّقة التي تقدمها، ودون إطالة على القارئ فإنّ عناصر تلك الرواية هي التالية (وهي لا تغني بالتأكيد عن قراءة البحث كاملاً):
  • دمشق، منذ القرن السابع الميلادي وحتى منتصف القرن التاسع عشر (أي إلى ما قبل طوشة 1860)، كانت أهم مركز عالمي لإنتاج الحرير، وإلى جانبها الصين، وفي وقت متأخر فرنسا وخاصة مدينة ليون.
  • في العام 1845 أصيبت دودة القز في كل من الصين وفرنسا بمرض غير معروف سابقاً هو مرض «الأرجل السوداء»، في حين نجت «دودة القز السورية» من هذا المرض. واستمر المرض بلا علاج حتى العام 1869 حين تمكن العالم الفرنسي لويس باستور من إيجاد طريقةٍ علّمها لمزارعي القز لتجنب المرض وتقليل آثاره.
  • ترافقت أزمة الحرير مع أزمة اقتصادية من الأزمات الدورية التي باتت جزءاً أساسياً من تكوين التشكيلة الرأسمالية، ما جعلها أكثر عمقاً وتأثيراً، وأسهم في ارتفاع هائل لأسعار الحرير الدمشقي، بمختلف صنوفه.
  • رغم استمرار الأزمة حتى 1869، فإنّ شغل الحرير قد ازدهر في فرنسا وخاصة في ليون أواخر العام 1860، وبلغ عدد أنوال الحرير في ليون وحدها مئة ألف نول! فكيف حصل ذلك؟
  • تقول الدراسة إنّ الشركات الفرنسية وبالتعاون مع السلطات الفرنسية قدمت رشوة ضخمة وصلت إلى والي دمشق العثماني في حينها أحمد باشا، الذي أشرف على المذبحة، وأُعدم لاحقاً بعد أن حققت المذبحة أهدافها الاقتصادية والسياسية.
  • نُفذت المذبحة في الظاهر «ضد مسيحيين»، لكن هؤلاء لم يكونوا أي مسيحيين، بل كانوا بالتحديد حرفيي صناعة الحرير، التي كانت في ذلك الوقت صناعة عائلية الطابع، كما معظم صناعات ذلك الزمان.
  • أدت المذبحة إلى تهجير أولئك الحرفيين المهرة، بخبراتهم المتوارثة عبر ما يزيد عن 1200 عام، نحو بيروت والقاهرة والاسكندرية، ووصلت أعداد منهم إلى ليون الفرنسية.
  • دمرت المذبحة مركز صناعة الحرير الأول في العالم (دمشق)، وتحولت ليون الفرنسية إلى المركز الأول عالمياً.

«حقوق الأقليات»
لم تكن السلطنة العثمانية قطعاً «نظاماً علمانياً»، رغم أنّ «تنظيمات» العام 1839 قد ساوت أمام القانون بين المسلمين والمسيحيين. ولا يمكن بحال من الأحوال الحديث عن «مواطنة متساوية» في ذلك العصر؛ فالبناء الهرمي للسلطنة كان يميل إلى إعلاء القومية التركية والدين الإسلامي ضمن التراتبيات.
ولكن مع ذلك، وبعيداً عن القراءات المستقطبة التي تحشر الماضي رغماً عنه في أطر الصراعات المعاصرة، فإنّ السلطنة العثمانية أسوة بمعظم الدول الكبرى التي سيطرت على الشرق خلال أكثر من 1000 عامٍ مضت، لم تستخدم فكرة «الأقليات» الدينية والقومية أساساً للتقسيم السياسي، رغم أنها استخدمتها - إلى هذا الحد أو ذاك - أساساً للتمييز الاجتماعي.
ما يوصف اليوم بـ«الأقليات» لم يكن يرى نفسه بهذه الطريقة، بل كان يرى نفسه مجتمعاً محلياً بخصوصيات معينة، تتباين وتتوافق مع مجتمعات محلية مجاورة
ليس المجال مجال توسع في هذه المقولة، لكن قد تكفي الإشارة إلى أنّ الفضاء الجغرافي الواحد الذي كانت تفرضه تلك الإمبراطوريات المتعاقبة، كان شديد المرونة تُجاه «خصوصيات المجتمعات المحلية» ما دامت تدفع ما عليها من «مستحقات» إقطاعية بالدرجة الأولى.
الاستناد إلى «حقوق الأقليات» أساساً للتقسيم السياسي لم يظهر بشكل فعلي إلا مع الاستعمار الأوروبي الذي اتكأ على «حماية الأقليات» لتكون أحد مداخل ابتلاع «الرجل المريض» وهو اللقب الذي عُرفت به السلطنة العثمانية في طور الأفول، و«طوشة 1860» مثال بين أمثلة كثيرة على الكيفية التي طبق بها الاستعمار الأوروبي «حمايته» للأقليات؛ أي أنّه ساهم وأحياناً نفذ المذابح والتضييقات ضدها، ليعود ويقدم نفسه مخلّصاً.

هامش حول «الأقليات» و«الأكثريات»
يمكن تناول «الأقلية والأكثرية» من زوايا عديدة ومتنوعة، أما بوصفه اصطلاحاً سياسياً غير مرتبط بالأقلية والأكثرية النيابية، بل مبنياً على أساس «هويّاتي»، فهو مصطلح جرت محاولات فرضه منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر على بلدان منطقتنا، ليكون جزءاً من آلة الاستعمار الأوروبي.
ما ينبغي الانتباه إليه، حتى عند دراسة السلطنة العثمانية، أنّ فكرة الأقلية والأكثرية ترتبط في نهاية المطاف بحدود الفضاء الجغرافي الذي تعيش ضمنه وتدركه فعلياً المجتمعات المحلية، وحدود ذلك الفضاء مرتبطة أشد الارتباط بحجم التطور التقني والمعرفي، وتطور المواصلات بشكل خاص.
بكلام آخر، فإنّ ما يوصف اليوم بالأقليات لم يكن يرى نفسه بهذه الطريقة، بل كان يرى نفسه مجتمعاً محلياً بخصوصيات معينة تتباين وتتوافق مع مجتمعات محلية مجاورة، وهذا الحال طبيعي في تلك المرحلة من التطور.

Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها