× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

الإعلام شريكاً في الإبادة الجماعية: دور خطاب الكراهية في رواندا

عقل بارد - شعوب وحروب 17-10-2021

كتب الفيلسوف الفرنسي فولتير في أحد أعماله المسرحية: «نحن مدينون للأحياء بالاحترام، فيما نحن مدينون للموتى بالحقيقة فقط». في حالة الإبادة الجماعية في رواندا العام 1994، لم تنجز وسائل الإعلام ـ الإخبارية وغيرها ـ أيّاً مما أشار إليه فولتير: لا حقائق، ولا احتراماً!

الصورة: مركز كيغالي التذكاري (Adrian Dutch - فليكر)

غضت معظم وسائل الإعلام الغربية النظر عن مجازر الإبادة الجماعية التي ارتُكبت في رواندا العام 1994، فيما لعبت وسائل إعلام رواندية دوراً فعالاً في زيادة الاحتقان الذي مهّد لارتكاب الإبادة الجماعية، ثم شاركت بنشاط في حملة الإبادة! 

إن الغرض من إعادة النظر في دور وسائل الإعلام في أحداث رواندا ليس مجرد تذكّر ما حدث، ففي سوريا التي تعيش حروبها المتعددة، ومن ضمنها الحرب لإعلامية التي تنشط فيها وسائل إعلام (مختلفة التوجهات) لم تقصّر في تغذية خطاب الكراهية، لا يزال هناك الكثير مما يجب أن نتعلمه، ونفعله حول هذا الموضوع، بما في ذلك فحص الطريقة التي يتصرف بها الصحافيون والمؤسسات الإخبارية حتى اﻵن.

ليلة الرعب اﻷقسى

كانت الوثيقة الأبرز التي عرضت ما شهدته رواندا في نيسان 1994 شريط فيديو صوّره الصحافي البريطاني نيك هيوز (Nick Hughes)، وهو واحد من من قلة من المراسلين الأجانب الذين لم يغادروا رواندا، وقد سجّل مقطع الفيديو من أعلى أحد المباني بشكل سرّي، حين كان مختبئاً في «تلك الليلة الفاصلة».

في المقطع (نمتنع عن إدراج أي رابط يقود إليه) تظهر سيدتان وسط جثث أعداد كبيرة من القتلى، وتتضرعان إلى شخصين يحمل كلّ منهما ساطوراً، تشبك أولاهما يديها وكأنها تصلي، فيما الثانية تبكي بحرقة. كما يمكن تبين رجل وسط الحشد يمسك شيئًا ما في يده اليسرى، يبدو أنه راديو. 

تمر دقائق والمرأتان تواصلان التضرع، ثم ينتهي المشهد حين يقترب الرجلان معاً من المرأتين، وفي اللحظة ذاتها يفصلان رأسيهما عن جسديهما، ثم ينكّلان بالجثتين بطريقة وحشية.

في العام 2003 أكدت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا (ICTR)، في قضية إذاعة RTLM وصحيفة Kangura «الدور الذي لا شك فيه لوسائل الإعلام الرواندية في القتل، فالصحيفة والإذاعة استهدفتا بشكل صريح ومتكرر سكان التوتسي تحريضاً على إفنائهم»

كان تاريخ تصوير الفيديو هو 18 نيسان 1994، أي بعد أسبوعين تقريباً من حادث استهداف الطائرة الذي أودى بحياة الرئيس الرواندي جوفينال هابياريمانا وأودى بحياة 12 شخصاً في 6 نيسان. 

ينتمي هابياريمانا إلى الهوتو (الأغلبية)، وقد أصيبت طائرته بصاروخ واحد على الأقل لدى اقترابها من الهبوط في العاصمة الرواندية كيغالي، ما أدى أيضاً إلى مقتل رئيس بوروندي سيبريين نتارياميرا، وهو ينتمي كذلك إلى الهوتو.

كان الرئيسان في طريق عودتهما من اجتماع لقادة شرق ووسط إفريقيا في تنزانيا، نوقشت فيه طرق إنهاء العنف العرقي في دولتيهما. شكّلت الواقعة شرارة لانطلاق أحداث الإبادة الجماعية التي استهدفت أقلية التوتسي، ومعتدلين من الهوتو.  وخلال أقل من 100 يوم أبيد 800 ألف شخص على الأقل.

لم تحظ رواندا بأي اهتمام إعلامي دولي تقريباً قبل موجة القتل التي أعقبت مقتل الرئيسين، كما لم يولِ الإعلام اهتماماً كبيراً لاتفاقية السلام المتوتر الموقعة في أروشا / تنزانيا العام 1993، التي حددت تفاصيل تقاسم السلطة بين أغلبية الهوتو، والأقلية التوتسية التي مثلتها في المحادثات الجبهة الوطنية الرواندية (RPF)، وأرسلت إلى البلاد قوة حفظ سلام دولية، بقيادة الجنرال الكندي روميو دالير، للإشراف على تنفيذ الاتفاقية. 

لم يكن دالير وقوات حفظ السلام التابعة له على دراية تامة بالتوترات المتصاعدة، باستثناء ما تناهى إليهم عن تذمر حول «القوة الثالثة» مصدره متطرفون من الهوتو عارضوا ترتيبات تقاسم السلطة. 

..وأعلنت اﻹذاعة الحرب على التوتسي

كانت إذاعة «Hutu Power» محطة إذاعية خاصة أنشأها المتطرفون (عُرفت باسم RTLM)، وفي صفها وسائل إعلام متطرفة أخرى، لا سيما صحيفة كانغورا (Kangura) اليومية. 

بمجرد إسقاط طائرة الرئيس، كانت الإذاعة جاهزة لتعلن أن التوتسي هم من أسقطوها. 

«إنهم أعداء، وكانت رواندا لتكون أفضل بدونهم»، هكذا بثّت اﻹذاعة بشكل متكرر وعلى مدار يوم السادس من نيسان في كل نشرات اﻷخبار. 

في ذلك الوقت كان الراديو هو الوسيلة اﻹعلامية الأكثر انتشاراً في رواندا، ولذلك فقد كان تأثير البث اﻹذاعي لهذه المحطة قاتلاً بالمعنى الفعلي للكلمة.

بدأت عمليات القتل على الفور في العاصمة كيغالي خلال ليلة 6 ـ 7 نيسان / أبريل.

كان المعتدلون من الهوتو، الذين كانوا على استعداد لتقاسم السلطة، من بين المستهدفين أولاً، إلى جانب التوتسي الذين تم وضع علامات على بيوتهم تمهيداً للإبادة في حملة انتشرت في نهاية المطاف في جميع أنحاء البلاد. 

تجمع مئات الآلاف من الروانديين في الكنائس بحثاً عن ملاذ، واستخدمت فرق الموت (التي شكلت على عجل من المتطرفين الهوتو) مختلف أنواع الأسلحة. قتل بعض المعلمين الطلاب من التوتسي، وذبح الجيران الجيران، وساعد المسؤولون المحليون في تنظيم عمليات القتل. 

في العام 2003 أكدت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا (ICTR)، في قضية إذاعة RTLM وصحيفة Kangura «الدور الذي لا شك فيه لوسائل الإعلام الرواندية في القتل، فالصحيفة والإذاعة بشكل صريح ومتكرر، استهدفتا بلا هوادة سكان التوتسي تحريضاً على إفنائهم».

وغياب الإعلام «شريك في الإبادة» أيضاً

أساءت معظم وسائل الإعلام الدولية في البداية فهم طبيعة القتل في رواندا، ووصّفته على أنه نتيجة حرب قبلية، بدلاً من الإبادة الجماعية، وركزت معظم التغطيات الإعلامية على التدافع لإجلاء اﻷجانب عن البلاد. (نتذكر مشهد التدافع في مطار كابول قبل فترة وجيزة).

لأن أداء كثير من وسائل الإعلام مرتبطٌ بمحركات سياسية، يرى بعض الخبراء أن أهم أسباب إقصاء رواندا من دائرة الاهتمام هو تحاشي تشكيل رأي عام ضاغط، بسبب انعدام رغبة الولايات المتحدة في التدخل على الأرض بفعل «إرهاق الصومال»

في منتصف نيسان / أبريل، وبالتزامن مع اشتداد القتل، انخفض حجم التقارير الإخبارية الدولية، فقد غادر معظم الصحافيين مع الأجانب الآخرين. في نهاية المطاف امتلأت تقارير وسائل الإعلام الدولية عن رواندا بصور الجثث المنتفخة، المتناثرة على جانبي الطريق، أو التي تختنق في أنهار رواندا وبحيراتها، أما الإبادة في حد ذاتها، فلم تواكب كما يجب.

السؤال الذي يطرح نفسه: ترى هل كان رد فعل العالم سيكون مختلفًا فيما لو تمت مواجهته يومياً بصور لأشخاص يُذبحون؟

يرى بعض الخبراء أن «التغطية الأكثر استنارة، والشاملة للإبادة الجماعية في رواندا، لا سيما في الأيام الأولى للمذابح، ربما كانت كفيلة بتخفيف، أو حتى إيقاف القتل عن طريق إثارة غضب دولي. كان بإمكان وسائل الإعلام أن تحدث فارقاً». لكن ما حصل أن وسائل الإعلام الوحيدة التي أحدثت فارقاً هي وسائط الكراهية التي أثبتت فعاليتها في تأجيج المشاعر، وتوريط عشرات الآلاف من الناس العاديين في الإبادة الجماعية.

كان من الممكن أن يُحدث الصحافيون نوعاً من «تأثير هايزنبرغ» لو حصلت مواكبة إعلامية مناسبة. يصف هذا التأثير الذي سمي على اسم الفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ، كيف أن فعل مراقبة الجسيم يغير فعلاً سلوك ذلك الجسيم، سرعته أو اتجاهه. 

بدلاً من ذلك، شجعت قلة الاهتمام وغياب الإعلام مرتكبي الإبادة الجماعية على مواصلة جرائمهم بثبات. 

في خريف العام 1994 كتب الصحافي الفرنسي إدغار روسكيس في صحيفة لوموند مقالاً بعنوان «إبادة جماعية بدون صور / un genocide sans images».

يقول روسكيس «لأن معظم الصحافيين الأجانب غادروا البلاد، فإن جريمة الإبادة الجماعية التي لا جدال فيها تقريباً لم تُوَثق»، ويستشهد بالمصوّر الفرنسي باتريك روبرت، الذي كان يعمل في رواندا في ذلك الوقت لصالح وكالة التصوير Sygma ومقرها باريس، يروي الأخير: «كان هناك ستة مراسلين أميركيين، لكن سرعان ما أصدر محرروهم الأوامر لهم بالعودة إلى ديارهم. في فندق ديل ميل كوينز التقطت مقتطفات من محادثاتهم: خطير جداً، لا يوجد اهتمام كافٍ.. أعماق أفريقيا - كما تعلم - وسط اللامكان». 

وقعت معظم جرائم الإبادة بين 6 نيسان ومنتصف أيار، وظلت رواندا طوال تلك الفترة منبوذة من العناوين الرئيسية، وحتى الصفحات الداخلية لمعظم الصحف العالمية، وكانت الصور المنشورة صغيرة، وقديمة في كثير من الأحيان، مع القليل من الأخبار بين وقت وآخر. 

لم تبدأ وسائل الإعلام الدولية في الانتباه «إلا مع اشتداد تدفق اللاجئين الهوتو من رواندا إلى البلدان المجاورة»، كما يؤكد روسكيس. 
كانت «الميلودراما الإنسانية في منطقة غوما، في زائير (الاسم المعتمد وقتها لدولة الكونغو الديمقراطية) هي التي حظيت أخيراً بالاهتمام الكامل من وسائل الإعلام الدولية».

في المحصلة، لم تحظ الإبادة الجماعية بمرتبة «الحدث الضخم»، الذي يجذب في كثير من الأحيان المئات من المراسلين الدوليين، والكاميرات، ووصلات الأقمار الصناعية. 

لماذا غاب الإعلام الدولي؟

يؤكد الجنرال الكندي دالير أنه من خلال قوة تدخل قوامها 5000 جندي، كان بإمكانه وقف القتل، لكن سماسرة القوة في العالم ـ وعلى رأسهم الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وفرنسا ـ استخدموا مواقعهم في مجلس الأمن لمعارضة التدخل. 

«التغطية الأكثر استنارة، والشاملة للإبادة الجماعية في رواندا، لا سيما في الأيام الأولى للمذابح، ربما كانت كفيلة بتخفيف، أو حتى إيقاف القتل عن طريق إثارة غضب دولي. كان بإمكان وسائل الإعلام أن تحدث فارقاً»

ولأن أداء كثير من وسائل الإعلام مرتبطٌ بمحركات سياسية، يرى بعض الخبراء أن أهم أسباب إقصاء رواندا من دائرة الاهتمام هو تحاشي تشكيل رأي عام ضاغط، بسبب انعدام رغبة الولايات المتحدة في التدخل على الأرض بفعل «إرهاق الصومال»، في إشارة إلى الانسحاب الأميركي المهين من مقديشو العام 1993 بعد مقتل 18 جندياً أميركياً في مهمة فاشلة.

في وقت لاحق شُوهت جثث بعض الجنود الذين سقطوا قتلى هناك، وسحبها حشدٌ مع السخرية منها في شوارع العاصمة الصومالية، والتقط الصحافي الكندي، بول واتسون، صورة للمشهد حازت على جائزة بوليتزر في العام 1994. 

لعبت تلك الصورة دوراً أساسياً في دفع إدارة بيل كلينتون إلى الانسحاب من الصومال بفعل ما أحدثته من ضغوط، ويُعتقد أن نقص الصور الواردة من رواندا ساعد في تجنب التورط في تدخل دولي في بلد أفريقي آخر. 

من «الندرة» إلى «الإغراق»

وفقاً لمعظم الروايات، لم يكن في رواندا في 6 نيسان 1994، عندما أسقطت طائرة الرئيس هابياريمانا، من الصحافيين الأجانب سوى اثنتين (نعم، أُنثيان فقط) هما: كاترين فان دير شوت، وهي مراسلة مستقلة تعمل في الإذاعة البلجيكية، وليندسي هيلسوم التي كانت في رواندا بعقد مؤقت مع منظمة «يونيسف»، وعملت أيضاً مراسلة مستقلة لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، وصحيفة الغارديان، والأوبزرفر. 

تروي هيلسوم «تمكّن بعض الصحافيين المقيمين في نيروبي من الانتقال جنوباً من أوغندا مع الجبهة الوطنية الرواندية، فيما أقنع آخرون ـ من بينهم مارك دويل مراسل بي بي سي ـ مسؤول برنامج الغذاء العالمي في عنتيبي (مدينة أوغندية) بنقلهم إلى كيغالي على متن طائرة تُستخدم لإجلاء الأجانب». 

لم يكن من السهل على الصحافيين فهم طبيعة الأحداث سريعاً. كتبت هيلسوم: «مع إطلاق النار في الشرق والشمال، والمجازر في معظم أنحاء البلاد، كان الأمر محيراً حقاً في معظم شهر نيسان». 

وبرغم وصول عدد كبير من المراسلين بعد وقت من بدء القتل، فإن معظمهم كانوا هناك مع تعليمات لتغطية محاولات إنقاذ الرعايا الأجانب.

لم تكن هناك تقريباً أي أخبار تلفزيونية حية من رواندا في الأسابيع الأولى من الإبادة الجماعية، وتأخر إنشاء أول وصلة صاعدة للقمر الصناعي في كيغالي إلى أواخر أيار، بعد أن تكفلت الجبهة الوطنية الرواندية بتأمين المطار.

وتلاحظ الصحافية الفرنسية آن تشون، أن «وسائل الإعلام شوشت القصة من حزيران فصاعداً. حين بدأ الجيش الفرنسي "عملية الفيروز" عاد عشرات المراسلين إلى رواندا، وبينما كانوا قادرين في ذلك الوقت على اكتشاف فداحة حملة القتل في هذه المنطقة انشغلوا أكثر بالتدخل الإنساني والعسكري من الخارج، وكانت النتيجة أن حقيقة الإبادة الجماعية غرقت مرة أخرى وسط كثير من المعلومات».

أُنجز هذا المقال باستفادة كبيرة من كتاب «The Media and the Rwanda Genocide» الذي حرره Allan Thompson، وصدر العام 2007 عن «Pluto Press»

 يتبع


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها