× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

جولة في اللاذقية بعد الزلزال: مدينة منكوبة في بلاد منكوبة

حكاياتنا - ملح 09-03-2023

تعلن الحكومة أن منطقتنا منكوبة، فتنقص ساعات تغذيتنا بالكهرباء! لا ماء. لثلاثة أيام تنقطع المياه عن حارتنا التي في الضواحي. يقول محمود درويش: «ثقوا بالماء يا سكّان أغنيتي». لكننا لا نثق إلا بالهباء. هل أتاك حديث البصل؟ تخيل/ي بلداً منكوباً ـ قبل الزلزال بسنوات طويلة ـ ينصب جل اهتمام الشارع فيه وقت الزلزال على البصل!

صباح الخير أيتها البلاد التعيسة في كل شيء. هذه المرة أيضاً لن أكتب لك باسمي الحقيقي.

في رأسي آلاف الأسئلة المتزاحمة: هل سيتسع التاريخ لنا؟ 

خذنا إلى «موتنا المشتهى»، وأفرد لنا هناك أرضاً من البلّور الأزرق في هذا الوقت الصعب. 

ومتى مرّ علينا وقت لم يكن صعباً؟ لا أعرف.

ما الذي ينفع إن كتبت باسمك المستعار، أو اسمك الحقيقي؟ أعرف أنني في ثوبي المستعار لا أدفأ، ولكنني مع اسمي المستعار أستطيع أن أروي ما لا أستطيع فعله، بينما أمشي بين حارات هذه المدينة المنكوبة في كل شيء. 

نحن «جماعة الصحافة» نحب المبالغة بحثاً عن «تريند»، ورواج لأسمائنا ومُنتجاتنا الإعلامية، هذا ما يظنه الجميع، وينطبق على بعض «أهل الكار». 

في سيرة الوجع يبدو كل شيء نافلاً، كل قيمة زائدة، وحده الألم عنوانٌ لنا جميعاً. من يرغب بمراسلتنا فليختر أي ظرف بريدي ويكتب على غلافه: سوريا. ستصل الرسالة إلى أي سوريـ/ـة، وقد يجيب كما لو أنهـ/ـا الشخص المقصود.

نيسان، أقسى الشهور أم أجملها؟

أرشو نفسي بقليل من الأمنيات الطازجة وأنتظر مثل كُثر، شهر نيسان ـ أجمل الشهورـ كي «تنتهي لعنة الزلازل» في هذه المدينة، هكذا يزعم كلام تسرب من منصات التواصل الاجتماعي وعمّ المدينة خلال أقل من ساعة. تقول تلك المزاعم إن «الصفائح التكتونية ستعود إلى هدوئها بانتهاء شهر آذار».

تستطيع شبكة أخبار يديرها فلان الفلاني دفع الناس إلى النوم في الشوارع. ولا يستطيع عالم جيولوجيا أن يقنع الناس باستحالة التنبؤ بالزلازل

متى كان للافتراضي التافه كل هذه القوة على البشر؟ 

المسألة ليست جديدة، فالغريزة غالباً ما تتفوق على العقل. العقل في هذه البلاد كائن ضعيف يجلس دائماً في الصف الثاني.

فعلياً هكذا تعيش اللاذقية هذه الأيام. قلق، وخيام، وسكنى في العراء، وأناس مذهولون عن كل شيء، ومن أي كلام يطلقه مشعوذ، أو أفّاق صاحب «بسطة» على منصات التواصل الاجتماعي.

تستطيع شبكة أخبار يديرها فلان الفلاني أن تدفع الناس إلى النوم في الشوارع. ولا يستطيع عالم جيولوجيا، أنْ يقنع الناس باستحالة التنبؤ بالزلازل.

«حديث البصل»

مع كل هذا القلق، يعيش الناس قلقاً مضاعفاً في شؤون يومهم وحياتهم. توقفت أشغال الكثيرين، الطرق إلى المنطقة الصناعية شبه خالية من البشر، سوق الشيخ ضاهر كذلك.

في المقابل، كل يوم يحمل معه ارتفاعاً جديداً لأسعار كل شيء، وهذه المرة الذريعة هي الزلزال.

الحكومة تدعم التجار في رفع الأسعار. أمس رفعت سعر طرد المياه المسماة زوراً معدنية (السن، والفيجة) بمقدار الثلث. يحدث ذلك في سوريا المنكوبة. يختفي الخبز كثيراً. يختفي كل شيء. نختفي نحن. في الأصل وجوهنا كالحة منذ عقود، مثل ليالينا وأيامنا، مثل أفراحنا المتخيلة، مثل انتصاراتنا، مثل كل أمر في حياتنا، مثل حياتنا. 

هل أتاك حديث البصل؟ تخيل/ي بلداً منكوباً ـ قبل الزلزال بسنوات طويلة ـ ينصب جل اهتمام الشارع فيه وقت الزلزال على البصل!

هل هو العقل الخبيث يحول انتباهنا عن مسائلنا «التافهة» مثل الزلازل؟

كنا عاجزين عن إنقاذ الطفل بغياب أدوات لرفع الركام الهائل عن جسده الغض - الرسم: (عماد حجاج - كارتون موفمينت)

هنا، ومع زيادة يومية في أعداد الأسر الخارجة من بيوتها إلى الهباء بقرار «قضائي» لم يكن حاضراً يوماً في حياة هؤلاء في الوقت المناسب، تزداد نكباتنا مع كل أنواع الإدارات الفاشلة في كل شيء.

يتابع السوريون في كل مناطقهم ما تفعله تركيا بشأن الكارثة، رغم كل الفساد هناك. يتحسرون كما لو كانوا في عالم مواز.

كثرٌ من السكان اﻷتراك المتضررين باتت لهم سقوف ينامون تحتها، أما هنا، فبعد شهر على الكارثة ما زالت الحكومة «تدرس»، و«تناقش».. 

ومع زيادة أعداد الهاربين من الطوابق العليا إلى الدنيا تختفي البيوت المعروضة للإيجار. تختفي فعلياً. وإن ظهر منها بيت يعرضه صاحبه فبسعر فلكي. 

كم نحن وحدنا هنا. 

وحدنا في كل شيء. تعلن الحكومة أن منطقتنا منكوبة، فتنقص ساعات تغذيتنا بالكهرباء. تقول صديقتي من العاصمة «ليست كل الأحياء هنا دمشق»، ثلاثة أرباع الساعة من الكهرباء مقابل ست ساعات من قطعها حيث تسكن، بينما جيرانها في الحارة الثانية تصلهم ساعتان وأكثر، مقابل أربع. تسكن صديقتي في الضواحي. وأسكن أنا في الضواحي. نحن «السكان الضحايا». 

لا ماء. لثلاثة أيام تنقطع المياه عن حارتنا التي في الضواحي. يقول محمود درويش: «ثقوا بالماء يا سكّان أغنيتي». لكننا لا نثق إلا بالهباء. 

هنا.. «قرب فلسطين»

أقف هنا، قرب نقطة تسربت فيها آخر قطرة ماء بجوار فم طفل لم ننجح في إخراجه حياً من تحت الركام. 

للمفارقة؛ حدثت الواقعة في حي «الرمل الجنوبي»، المعروف بين السكان مجازاً بـ«الرمل الفلسطيني». 

الفلسطيني نسخة السوري الأولى في المحن والمصائب.

هذه المنطقة، الرمل الجنوبي، من المناطق التي يندر أن يزورها أحد، لا يدخلها إلا قاطنوها. أقيمت على عجل منذ زمن النكبة (1948)، ولما تزل تتوسع مع كل نكبة جديدة. ليس لنكباتنا انتهاء. 

كان الطفل ـ في الرابعة أو الخامسة من عمره المهدور ـ يحدّق في الهباء الكوني، في آلهة بعيدة تتفرج على المشهد الأرضي المصغّر عن يوم القيامة المفترض حدوثه في نهاية الزمن. الزلازل «بروفة» مصغّرة عن يوم القيامة، يقول صديقٌ نصف مؤمن.

هنا، كنا جميعاً عاجزين عن إنقاذ الطفل في غياب أدوات تفيد في رفع الركام الهائل عن جسده الغض. كدنا نقترب منه. نقترب... يبتعد.. نقترب.. لا نقترب.

يهبط الطفل أدنى فأدنى إلى حيث لا نعرف. يسقط الطفل في غيابة الجب، بيته الذي كان.

اسمه لم يكن يوسف، وكان كثير من إخوته قد رموه بالسهام، والآبار، ولم يمت. 

بقي حياً بمعجزة. 

ومات بمعجزة.

لا قبر يحويه.

لا وطن.

زلزال_سوريا اللاذقية خبز_وملح ضحايا_الزلزال_في_سوريا

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها

مقالات رائجة

This work by SOT SY is licensed under CC BY-ND 4.0