فرات زيزفون
يجلس أبو سامي وحيداً أمام المبنى الذي يعمل حارساً له، ويراقب الفراغ والهدوء في الحي بعد الزلزالين اللذين ضربا سوريا وتركيا في الشهر الماضي، وما تبعهما من هزات ارتدادية. يرتشف بعض الشاي من كأس زجاجية شفافة صغيرة يضعها على طاولة خشبية أمامه، ويقول: «تقريباً الحارة فاضية. كل الطوابق العالية فاضية؛ العالم تركت بيوتا بعد الزلزال ولسة ما رجعت».
يؤكد الرجل الخمسيني أنّ وضع حارته يشبه معظم حارات اللاذقية التي فيها أبنية مرتفعة. يشير بيده اليمنى التي يحمل فيها سيجارة لفها بنفسه: «الطابقان الخامس والسابع معروضان للبيع حالياً بنص سعرهن، وبالبناية التانية في كذا شقة كمان معروضة للبيع... صارت هالبيوت هم على قلوب أصحابها».
خلال السنوات القليلة الماضية، شهدت اللاذقية حركة بناء نشطة إلى حد ما، وشُيدت مئات المباني المرتفعة في المدينة التي كانت حتى وقت قريب معروفة بأبنيتها المنخفضة التي لا يتجاوز عدد طبقاتها ثلاثاً أو أربعاً فقط. بعض هذه المباني بُني داخل المخطط التنظيمي للمدينة بعد الحصول على التراخيص اللازمة، فيما أُنشئ الكثير في تجمعات سكنية ناشئة على أطراف المدينة، وفي بعض القرى القريبة بشكل مخالف.
وفق أحد متعهدي البناء، جاءت الحركة العمرانية الملحوظة في اللاذقية بسبب نزوح مئات آلاف السوريين من مدن أخرى إليها خلال سنوات الحرب، ولأسباب أخرى تتعلق بكونها لم تتعرض للحرب مباشرة، الأمر الذي دفع كثيرين إلى الاستثمار في سوقها العقاري التي كانت تبدو آمنة، مع إقبال ملحوظ على شراء المنازل فيها، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار في بعض الأحياء الراقية بجنون وصل إلى نحو 1500 دولار لكل متر مربع.
غسان (اسم مستعار)، أحد العاملين في سوق العقارات في اللاذقية، الذي توسط خلال العامين الماضيين في عمليات بيع عدد من العقارات في مبانٍ حديثة، شرح أنّ حالة الخوف التي أحدثها الزلزال خلقت عرضاً كبيراً مقابل إقبال ضعيف على الشراء، ما تسبب في انخفاض للأسعار وصل في بعض الحالات إلى ثلث قيمة العقار، مشيراً إلى أنّ ضغط العوامل النفسية مثل الخوف، ورفض أفراد في العائلة السكن في منزل مرتفع، دفع بعض أصحاب العقارات إلى عرضها للبيع بسبب عدم جدوى امتلاكها.
إلى جانب انخفاض أسعار البيوت المرتفعة في المباني، شهدت أسعار الأراضي الزراعية والمزارع الصغيرة والفيلات في بعض القرى القريبة من اللاذقية ارتفاعاً كبيراً
خلال حديثه، يؤكد غسان أنّ بين يديه عروضاً لعشرات المنازل في الوقت الحالي، من بينها عقاران حديثا البناء ولم يمر على شراء مالكيهما لهما إلا نحو عامين، موضحاً أنّ أحد أصحاب المنازل أخبره بأنّه مستعد لبيع منزله الذي اشتراه بنحو 150 ألف دولار بأقل من 50 ألفاً، بعدما رفضت زوجته وابناه العودة والسكن فيه خوفاً من الزلزال الذي شعر به سكان البيوت المرتفعة بأضعاف سكان الطوابق المنخفضة.
إلى جانب انخفاض أسعار البيوت المرتفعة في المباني، شهدت أسعار الأراضي الزراعية والمزارع الصغيرة والفيلات في بعض القرى القريبة من اللاذقية ارتفاعاً كبيراً وصل في بعض المناطق إلى الضعف، خصوصاً القرى التي لم تشهد انهيارات في بيوتها خلال الزلزال.
في هذا السياق، يقول وسيط عقاري: «أصحاب العقارات في الأراضي الزراعية رفعوا أسعار عقاراتهم بعد الزلزال، وبعضهم تخلى عن فكرة بيع أرضه أو المزرعة التي يمتلكها، خصوصاً أن معظم من يملك بيوتاً ريفية لجأ إليها خلال الكارثة».
الوسيط الذي أكد أنّ حركة البيع شبه معدومة حتى في الريف، رأى أنّ السبب في ارتفاع أسعار الزراعية لا ينبع من طلب كبير وإنما ناجم عن شعور أصحاب هذه الأراضي بأهميتها من جهة، ورغبة بعضهم في الاحتفاظ بها إلا في حال بيعها بمبالغ تكون مرضية، وهو ما لا يحدث على أرض الواقع.
وإلى جانب التخبط في أسعار العقارات، شهدت أسعار الإيجارات قفزة كبيرة، خصوصاً في المباني الصغيرة المؤلفة من طبقات محدودة، ولا سيما الطوابق السفلية منها، إذ وصلت الإيجارات في بعض المناطق في اللاذقية إلى نحو مليون ليرة في الشهر، علماً أنّ الإيجارات في المناطق ذاتها لم تكن تتجاوز 500 ألف قبل الزلزال، الأمر الذي رآه الوسيط العقاري «ارتفاعاً طبيعياً ناجماً عن زيادة الطلب، بعدما تخلى كثيرون عن منازلهم في الطوابق العليا وفضلوا الاستئجار والسكن مؤقتاً في طوابق منخفضة ومبانٍ صغيرة».
في المحصلة، يلف أبو سامي سيجارة ثانية ويملأ كأسه التي فرغت بالشاي مرة أخرى. يضيف ملعقتَي سكر ويقول وهو يحركه بملعقة صغيرة: «لو معي مصاري كنت اشتريت كل هالبيوت المعروضة بربع سعرها، ونطرت سنتين تلاتة، العالم رح تنسى، ورح ترجع أسعار البيوت تنط مرة تانية».
ويضيف: «سكان هي البنايات هنن الوحيدين يلي معهن هيك مبالغ وقادرين يشتروا البيوت، وليكن تاركين بيوتن هربانين، ما منعرف يمكن بكرا يجي حوت أكبر منهم ويقش السوق كلو».