× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

عندما أدركتُ نسويّتي

حكاياتنا - ملح 01-12-2023

من هنا بدأت رحلة المصالحة مع أفكاري المشرذمة التي لم يكن باستطاعتي وضع عناوين لها، أفكار غير واضحة المعالم، وغضب غير مفهوم من أمورٍ كانت تتخّبط داخلي. تلك المصالحة التي ستجعل مني فيما بعد ناشطةً نسويّة أعملُ لأجل حقوق النساء، والأطفال، والمهمّشين، بكل ما لديّ من قوة

دعتني صديقتي ذات يوم خريفي من العام 2003 إلى ورشة عمل بعنوان: «جنسيتي حقٌّ لي ولأسرتي»، أحببت العنوان واستغربته وأنا خريجة كلية الحقوق، فما مشكلة الجنسية والنساء؟

وهل هذه المشكلة تستدعي ورش عمل ولقاءات؟ وهل توجد فرص للتغيير في بلادنا؟ وافقت بشدّة على حضور الورشة، وحصلت على إجازة من عملي مدتها ثلاثة أيام لمتابعتها.

عندما حان الموعد كنت مرتبكة لأسباب كثيرة، بمن سألتقي هناك؟ من هم وهنّ؟ كيف سأبدو؟ وماذا سأفعل؟ وماذا سأرتدي؟ إلخ..

استيقظت في الصباح الباكر، تناولت قميصي المفضّل المطرّز بالدانتيلا الحمراء، واحترت كثيراً: هل أرتدي معه بنطالي الجينز؟ أم الأسود الكتان؟ وهل أضع القرطين المذهّبين؟ أم اللؤلؤيّين الصغيرين لأبدو أكثر رسميّة؟ 

خرجت من منزلي في التاسعة صباحاً نحو صالون كنيسة يوحنا الدمشقي في حي أبو رمانة بدمشق، مكان انعقاد الورشة، لأدخل عالماً لم أكن أعرف عنه شيئاً.

أنحدرُ من أسرةٍ تقليديةٍ تبتعد عن كل ما يتعلق بالسياسة والشأن العام، وضمناً عن أوساط «حزب البعث» و«شبيبة الثورة»، حتى إنني وإخوتي كنا نُمنع من الرحلات المدرسية كي لا نحتكّ بها. 

لم أنتمِ - وبسابق إصرار من والدي الخائف دوماً على بناته - إلى أي مجتمع خارج العائلة، والأصدقاء المحدودين.

دخلتُ القاعة، وإذ بنساءٍ مثل اللواتي كنت أقرأ عنهنّ في روايات ليو تولستوي، ونيكولاي أوستروفسكي، وغسان كنفاني. إنهنّ هنا، حقيقيات من لحمٍ ودم! نساءٍ كخليَة الّنحل تقدن عملية التغيير، وتحاولن المطالبة بحقوق النساء، رأيت المحامية حنان نجمة، ولويزا عيسى، ونوال يازجي، وفردوس البحرة..

رأيت نساء تجاوزن الستين والسبعين، لكن أرواحهنّ الحرّة عكست حيويّةً طغت على الشبان والشابات في ورشة التعريف بالظلم الواقع على النساء جرّاء عدم المساواة في القانون بين الرجال والنساء.

من هناك بدأت رحلة المصالحة مع أفكاري المشرذمة التي لم يكن باستطاعتي وضع عناوين لها، أفكار غير واضحة المعالم، وغضب غير مفهوم من أمورٍ لم يجادل عليها أحد ممن حولي، لكنها كانت تتخّبط داخلي.

تلك المصالحة التي ستجعل مني فيما بعد ناشطةً نسويّة أعملُ لأجل حقوق النساء، والأطفال، والمهمّشين، بكل ما لديّ من قوة.

دخلت القاعة، وإذ بنساءٍ مثل اللواتي كنت أقرأ عنهنّ في روايات ليو تولستوي، ونيكولاي أوستروفسكي، وغسان كنفاني. إنهنّ هنا، حقيقيات من لحمٍ ودم!

تعرّف بعضنا إلى بعض، مِنّا من تعمل في الإعلام، ومِنّا في المحاماة، ومِنّا في كتابة السيناريو، وفي الفن، إلخ.. لأوّل مرّة ألتقي بتشكيلة منوّعة من كل الطوائف والمحافظات، والانتماءات، والميول، وكذلك المهن.

كان عنوان الورشة كما ذكرت  «جنسيتي حقٌّ لي ولأسرتي»، ففي سوريا لا تعطي المرأة الجنسية لأبنائها. فالمادة الثالثة من «قانون الجنسية السورية» تحصر في الفقرة (أ) حق منح الجنسية السورية بـ«من وُلد في القطر أو خارجه من والدٍ عربيّ سوري».

كانت تلك المادة القانونية تمرّ في مقررات دراستي الجامعية مرور الكرام، وكأنها أمٌر طبيعي، كقتل النساء حمايةً للشرفِ، وعدم المساواة في الإرث بين الأبناء والبنات، والأزواج والزوجات، وغيرها من المسلّمات التي كُنا ندرسها ونمضي.

وعيتُ حينها أن عدم منح المرأة جنسيتها لأبنائها انتهاك يجمع معظم الدول العربية المجحفة بحق النساء، أكثر مما تجمعها قضية فلسطين ربّما! وأنّ ناشطات ونشطاء الأردن وتونس والجزائر والمغرب ولبنان ومصر مع سوريا، يتضامنون من خلال حملة إقليمية للضغط من أجل تغيير قوانين الجنسية في بلادهم.

لاحقاً، أحرزت بعض الدول بعد سنوات من النضال أجزاء من هذا الحق، كما في مصر والجزائر، لكنّ «رابطة النساء السوريات» التي قادت الحملة في سوريا لم تحظَ حتى بإجابة من الحكومة على مطالبها، رغم تضامن بعض البرلمانيين معها آنذاك وتوقيعهم على وثيقة رُفعت إلى رئيس مجلس الشعب حينها. فضلاً عن عريضة وقّع عليها الآلاف من المواطنين والمواطنات للمطالبة بتعديل القانون، ورغم توثيق حالات لنساء وأبنائهن أظهرت معاناتهن ومعاناة أبنائهنّ وأزواجهنّ الذين يعيشون في سوريا، ومعدمي الجنسية ممن لم يستطيعوا حتى نيل جنسية والدهم غير السوري، لعدم الوصول إليه.

طرحت إدارة الورشة أفكارها وبدأ النقاش، وزادت حدّة النقاشات وظهرت الاختلافات في وجهات النظر، لكنها اجتمعت كلّها على أن هنالك حقّاً منقوصاً يجب العمل على التعريف به كلّ منا في مجال عمله/ـا، كيف نوصل أفكارنا، كيف نحدّدها كهدفٍ، ونخطط ضمن مقياس زمني ونضع نصب أعيننا التّحديات التي قد نواجهها، وكذلك فرصنا في الوصول إلى غايتنا.

خرجتُ من الورشة ولديّ أمل بالتغيير، وأدركتُ جيداً أن السوريين، والسوريات الذين حُصروا طويلاً ضمن شكلٍ ولونٍ واحدٍ وهدف واحد، هم مختلفون، ومتعددون، ومنوّعون.

كان «المجتمع المدني السوري» قد شهد في العام 2002 كسراً للشكل الوحيد الذي طبع التنظيمات التي تهتم بالمرأة وهو «الاتحاد النسائي» رديف «البعث»، مع «تجمّع سوريات» الذي ضمّ عدد من الجمعيات السورية للعمل على الوصول إلى حقوق النساء والأطفال والمهمّشين: «مرصد نساء سوريا»، و«راهبات الراعي الصالح»، و«المنتدى الإسلامي»، و«مساواة»، و«جمعية تطوير دور المرأة»، و«المبادرة الاجتماعية»، و«رابطة النساء السوريات»، والأخيرة كانت الوحيدة المرخّصة رسمياً.

بدأ العمل التطوعي الحقيقي، مع كل حملات التغيير التي وصلت إلى غاياتها أحياناً مثل تعدّيل سن الحضانة، سن الزواج، التعويض في الطلاق التعسفي، عقوبة المغتصب، إلغاء العذر المخفف والمُحِل للقاتل في ارتكاب جريمة بداعي الشرف.

وإلى يومنا هذا المحاولة مستمرة للوصول إلى المساواة في قانون الجنسية، وفي تجريم الزنا، وتجريم اغتصاب الزوجة، وإلغاء العذر المخفف لفورة الغضب فيما يتعلق بقتل النساء، والحقوق المتساوية في الزواج والطلاق والإرث بغض النظر عن الجنس والدين، والعنف الأسري.

كانت تلك الورشة بدايتي مع الحركة النسوية السورية، لأسمي نفسي فيما بعد «ناشطة في قضايا النساء والأطفال» وأتعرّف على شخصيّات تركت أثراً في حياتي، وتجارب وحكايات لا تنسى من الواقع السوري الأليم، آمُل أنني سأرويها يوماً ما.