× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

امرأةٌ وحيدةٌ في دمشق

حكاياتنا - ملح 04-12-2023

كيف تعيشُ امرأة وحدها في مدينة كدمشق؟ لماذا يخاف الناس هذه الفكرة؟ فكرة أن تستقل النساء أو أن يكنَّ وحيدات؟ لطالما أرقني هذا السؤال، منذ كنتُ صغيرة وسمعت الجارات يتغامزن حول الأرملة التي تسكن لوحدها بلا رجل، ويهمسن: يا للعيب!

ما يدفعني للحزن، يدفعني للكتابة أيضاً. فالمدينة مجدداً، دمشق التي صنعت مني ما أنا عليه اليوم، هي نفسها المدينة التي أتصارع معها كلَّ يومٍ من أجل البقاء.

ولأن النجاة من هنا صارت الهاجس الدائم، كذلك الكتابة أصبحت المتنفس الوحيد لي كي أستمر.

أتيتُ إلى دمشق هرباً من نفسي، ومن قريتي البعيدة، ومن الماضي الذي يخنقُ النساء اللواتي يغنين بصوتٍ عالٍ. 

ركضت بكل ما فيّ من حماس واندفاع نحو دمشق التي تُشكل المستقبل والأحلام، أو.. هكذا ظننتها! 

لا أُنكر أن دمشق استقبلتني بصخبٍ، كما تستقبلُ يومياً عديدَ القادمين من البعيد نحو المركز، والهاربين من الوحشة نحو الحياة.

في دمشق؛ وبعجائبية ما حدث مع أليس في بلاد العجائب، ذُهلتُ وأنا أكتشفُ المدينة الجميلة يوماً فيوماً، أخذتني المباني العالية، والحشود الغريبة. تماهيتُ مع أصواتها، وروائحها كأنني اكتشفتُ جزيرة الكنز، لكنها سرعانَ ما رمتني كما ترمي الغريبات الوحيدات على الهامش.

تجربة العيش وحدي علّمتني كيف أصير امرأة حرة، لا تخشى الليل ولا الرجال الذين يفرضون وصايتهم على جميع نساء الحي

عشرةُ منازل تقاذفتني منذُ أتيتُ إلى دمشق وحتى الآن، عشرة منازل مختلفة علّمتني كيف أصير امرأة قويةً، امرأة تعرف كيف تصلح صنبور الماء، وتُبدل أقفال الأبواب. عشرة منازل تقع جميعاً على هامش المدينة، في الأحياء الفقيرة والأزقة العشوائية، هناك حيث تعلمت كيف أكتب.

في المنزل الأول، جربتُ أن أمتلك «بينسة»، أو كماشة للمرة الأولى في حياتي، في الواقع هو لم يكن بيتاً، بل غرفة صغيرة على سطح عمارة مغمورة في أحد الشوارع العشوائية من جرمانا. غرفة صغيرة ووحيدة، تشبهني. قررتُ أن أختبر فيها ولأول مرة تجربة العيش لوحدي.

ليس من السهل أن تعيش امرأة وحدها، في حي شعبي مأهول بالعائلات المُحافظة التي يعرف بعضها بعضاً. ثم واجهني السؤال الذي رأيته في وجوه العديد من الأصدقاء والأقارب والغرباء: كيف تعيشُ امرأة وحدها في مدينة كدمشق؟ 

كيف تسكن امرأة في العشرينيات من عمرها لوحدها، في مجتمعٍ يمتهنُ مراقبة النساء من كل الفتحات المُتاحة، وعبر زجاج النوافذ، ومن خلال الجدران؟

لم يكن من السهل إطلاقاً أن يقتنع أهلي برغبتي في استئجارِ غرفةٍ صغيرة خارج السكن الجامعي، ولذلك فعلتُ ذلك في بداية الأمر بدون إخبارهم.  

بالطبع، وفي كل الأماكن التي سكنتها لم يكن من السهل أن أنجو من فضول الجيران ونظراتهم، أو من أسئلتهم المعلقة على شفاههم، يريدون أن ينطقوها بأسرع ما يمكن، قبل أن تنفجر أدمغتهم من الفكرة، فكرة أن جارة عزباء غريبة ووحيدة تسكن وحدها في البناء أو الشارع نفسه أو الحي، أو حتى المدينة! 

لماذا يخاف الناس هذه الفكرة؟ فكرة أن تستقل النساء أو أن يكنَّ وحيدات؟ لطالما أرقني هذا السؤال، منذ كنتُ صغيرة وسمعت الجارات يتغامزن حول الأرملة التي تسكن لوحدها بلا رجل، ويهمسن: يا للعيب!

كيف تسكنُ امرأة عشرينية لوحدها، في مجتمعٍ يمتهنُ مراقبة النساء من كل الفتحات المُتاحة، وعبر زجاج النوافذ، ومن خلال الجدران؟

سأعترف بأنني تجرأت على الكذب، وكذبتُ كي أهرب من مواجهة الجميع. لم أخبر صاحب المنزل حقيقة أنني سأسكن وحدي، لأنني بالطبع لم أكن أثق بالرجال الذين يمكنني اكتشاف نواياهم منذ الوهلة الأولى. حتى تغيير الأقفال لم يكن كافياً، لذا كنت دوماً أقول إنني أسكن مع صديقتي أو أمي أو أختي.. حتى بائع الخضار الذي يراقب حركتي اليومية ومواعيد خروجي وعودتي، اعتدت أن أوهمه بأنني أسكنُ مع أمي المريضة التي لا تخرج من المنزل كثيراً.

تعلمتُ كيف أُصلح الأعطال وحدي: اللمبة، والغاز، والصنبور الذي يستمر في تسريب المياه. كان عليَّ أن أتعلم كلَّ هذه الأشياء، بدلاً من أن أطلب من عامل ما أن يأتي ليصلح لي عطلاً، فأنا أخاف أن يكتشف أنني أسكن لوحدي ويتحول إلى ذئب.

تجربة العيش وحدي علّمتني كيف أصير امرأة حرة، لا تخشى الليل ولا الرجال الذين يفرضون وصايتهم على جميع نساء الحي.

أعي أنني عالقة هنا في دمشق وعلى أطرافها، منذ هربت إليها فسحرتني ثم تخلت عني، وتركتني أخوض وحدي تجربتي الطويلة مع نفسي والمجتمع والحياة والعائلة، مع مقابلات العمل، والانهيار الاقتصادي، وبقايا الحرب، وكوابيس الماضي التي ما زالت تلاحقني حول سلطة العائلة وذكورها والعجائز المخيفات. 

هنا في دمشق قمتُ بتربية نفسي من جديد كأنني ولدت مجدداً.