× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

الاختفاء القسري في سوريا: «قابيل.. قابيل أين أخوك؟»

عقل بارد - على الطاولة 18-03-2024

مضت ثلاثة عشر عاماً على آذار السوري. هل علينا أن نأخذ الرقم بعين التشاؤم؟ نحن السوريين والسوريات ليست لدينا ثقافة التشاؤم من الأرقام خلافاً لشعوب أخرى تمحو الرقم 13 من ذاكرتها وحتى من أرقام هواتفها وميلادها (سجّل أبي عيد ميلادي في الثالث عشر من آذار). مع ذلك، إنه أمرٌ يدعو للتشاؤم حتماً أن نعيش يوماً واحداً ونحن لا نعرف مصير أشخاص كانوا في حياتنا واختفوا..

الرسم: (Shaditoon - كارتون موفمينت) 

تقول بعض السرديات إنّ قابيل، الابن الأكبر لآدم، قتل أخاه في مكان ما من هذا العالم، وإنّه لم يدرك كيف يواري جثة أخيه التراب حتى شاهد غراباً يفعل ذلك، ففعل مثله. لم يعرف الرب ما جرى وسأل قايين (اللفظ العبري لقابيل): أين أخوك؟ فرد عليه: «لا أعرفُ، وهل أنا حارسٌ لأخي؟». حتى اليوم، ما زال هذا الجواب الإنكاري واحداً من أكثر الأجوبة تكراراً في تاريخ الإنسانية: إنكار المسؤولية وإنكار الحقيقة. 

أثناء الديكتاتورية الأرجنتينية (1976-1983) أعلن أوغستين فيسيد، وهو رئيس الشرطة، أنّ «المخرب السياسي لا يمكن أن يكون من الأرجنتين؛ [هو] لا ينبغي حتى اعتباره أخاً لنا. هذا الصراع بيننا لا يمكن تشبيهه بما حدث بين قابيل وهابيل».

كذلك، برّر النائب العسكري الأرجنتيني أدولفو تورتولو تصرفات قوات الأمن عام 1977 بالقول: «قُتل هابيل لأنه أعطى الله الأفضل. لم يكن حقد قايين قادراً على احتمال عظمة روح أخيه، وبينما كان هابيل ينام نوم الأبرار بين ذراعي الله، كان قايين يتحمل عبء جريمته ويعيش موته كل لحظة»؛ هو الإنكار مرةً أخرى.

لكن، كيف يختفي شخص دون أن نعرف مصيره؟! المصير الذي نحتاج اليقين منه كي ننصب شاهدةً أو نقيم احتفالاً بعودته إلى الحياة. خلال سنوات الدكتاتورية الأرجنتينية أيضاً، اجتمعت مجموعات متظاهرين مرات عدة أمام سفارة الأرجنتين في واشنطن العاصمة ورُفعت لافتات كتب عليها: «قابيل، قابيل، أين أخوك هابيل؟».

عدد المختفين السوريين الموثقين منذ آذار 2011 حتى آب 2023 قارب 165 ألفاً أي 5% من السكان

أن يختفي الإنسان عن قيد حياته اليومية ويتحوّل إلى غائب غير يقيني يُحتمل أنه في قبر أو سجن أو منفى تحت الأرض أو فوقها ليست مسألة يمكن تناسيها أو تجاهلها، بل هي أوضح دليل على أنّ عقل قابيل الإنكاري لا يزال يعيش بيننا رافضاً الحقيقة، وحق البشر بالمعرفة اليقينية لمصير أحبائهم وأبنائهم وأهليهم، رغم وجود ما بات يسمّى «قانوناً» لدى البشر. لقد تلوثت يدا قابيل بالدم حين ارتكب جريمته، ورغم محاولاته غسلها تحت المطر، بقي الأثر عليها، والرائحة عالقة.

ماذا عن سوريا؟

في سوريا اليوم، تستيقظ أعدادٌ كبيرة من السوريين دون أي خبر عمّن غاب - أو غابت - عنهم في هذه السنوات بفعل فاعل، رغم كثير من المحاولات التي يبتكرها الأهل للوصول إلى شبه اليقين. لا أحد يشعر بلوعة حوّاء وهي تندب قدرها - حظها - وتحمل جثة ابنها على عربة وتسأل عن مصير ابنها الآخر. لا صوت لهابيل في معركته مع أخيه، ولا صوت له في معركته مع العالم كذلك.

تقول الأرقام إنّ عدد المختفين السوريين الموثقين قارب 165 ألفاً لا يزالون قيد الاعتقال/الاحتجاز أو الاختفاء القسري على يد أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سوريا منذ آذار 2011 حتى آب 2023، من بينهم نحو 3700 طفل و8500 سيدة.

لسنا كلّنا من صنع السلة التي يراد وضعنا فيها جميعاً، كي نتحول إلى مشاركين ومرتكبين فيمتنع علينا حق المساءلة

ويذكر التقرير السنوي الثاني عشر عن الاختفاء القسري الذي تصدره «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» أنّ «عمليات الاختفاء القسري التي نفذها أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سوريا شكلت أكثر الانتهاكات تعقيداً ووحشيةً التي عانى منها المجتمع السوري على مدى السنوات الماضية لما يترتب على ظاهرة الاختفاء القسري من سلسلة مترابطة من الانتهاكات التي تندرج ضمن سياق عمليات اعتقال تعسفي واحتجاز غير مشروع للحرية، وتعذيب بمختلف أنماطه وأبعاده النفسية والجسدية والجنسية، ومحاكمات استثنائية بإجراءات موجزة وسرية».

في هذا السياق، يقول فضل عبد الغني، وهو مدير الشبكة إن: «الإخفاء القسري من أبرز أسباب رفض ملايين النازحين واللاجئين العودة إلى منازلهم، لأن نسبة المختفين قسرياً في سوريا إلى عدد السكان الكلي تقارب الخمسة بالمئة من عدد السكان الكلي البالغ تقريباً 24 مليوناً، و5٪ نسبة مرتفعة جداً بل الأسوأ في العالم، إضافةً إلى ما يتعرض له المختفي قسرياً من تعذيب ونهب ممتلكات وأراضٍ وتفكك أسري».

مثلما فعل قايين، تفعل سلطات الأمر الواقع السورية الأمر نفسه: يجري الاعتقال والاحتجاز بعيداً عن الأنظار، «ويفتقد المختفون أشكال الحماية والرقابة الحقوقية والقانونية وتهمل حقوقهم الأساسية داخل مراكز الاحتجاز على نحو متعمد، ويتعرضون لتعذيب شديد وإهمال طبي مترافق»، يزيد التقرير السابق. 

لم يكن الأمر حكراً على جهة دون أخرى، فهل يكفي التأكيد على مسؤولية كل الأطراف عن المختفين قسرياً؟  الأكثر حضوراً ومسؤوليةً في هذه «السيرة القايينية» هم من يمتلكون الأدوات والسلطة الأقوى والمنظومة الأكثر تجذراً في الاعتقال والتعذيب، أي بلغة أوضح وأقل تعرّجاً: من يمتلك «شرعيّة العنف» التي عليها في الوقت المقبل أن تقود هذا الملف في نوع من الاعتراف بالذنب والبحث عن غفران، إن كان هناك غفران. 

علينا أن نتذكر القصة كاملةً، أن نتذكر الضحايا والشهود والفاعلين والسياق، ونخرج من سياق التبرير لنعترف أننا لسنا كلّنا من صنع السلة التي يراد وضعنا فيها جميعاً، كي نتحول إلى مشاركين ومرتكبين فيمتنع علينا حقّ المساءلة، ولا تبقى لنا حيلة سوى أنْ نقول: «عفا اللهُّ عمّا مضى». هذه علامةٌ لن يمحوها الزمن ولا النسيان، تماماً مثل العلامة التي وضعها الرب على جبين قايين «لئلا يقتله كل من يجده» (التكوين 15).


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها