× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

عن أمومتي و«خزّانات دمشق» التي تفيض رعباً

حكاياتنا - ملح 29-03-2024

هل تظنونه هيّناً؟ يبدو كلاماً خُطّ بلونٍ أسود وبنمط خطّ يناسب الصحف والمواقع؛ لكنه كُتب بدمعٍ سريّ لا يدري به إلّا من أكل من كبد الحرب وبصق المرار مراراً.

الصورة: (Dahnon - فليكر)

حين كان طفلي يُجمع من الأيام تَمَكُّنه أن يحبو إلى عتبة شهره الثالث، اندلعت شرارات الحرب الأولى، أو «الأزمة» أو «الثورة» كما تحلو لأطرافها تسميتها، أما أنا ومثلي كثير من الأمهات، فنقف في وسط الطريق السريع، مُنّصفاً محايداً لكنه يتلقى صدمات الحوادث من الجهتين، نسمي الأشياء بأسمائها، فهي حربٌ لم تبقِ من قلوب الأمومة ولم تذر.

مع قطرات الدم الأولى كانت روزنامة طفلي تخطّ مناسباتها، في الحادي والعشرين من آذار/مارس، أهداني طفلي سِنه الأولى، وقبل أن أسجله في مناسبة عيد الأم، سجلته في خانة الخوف.

حبا ومشى خطواته وتقويم الخوف يزداد حلكة، التزمت المنزلَ أحاول تعويضه عن المناسبات الاجتماعية التي خسرناها قسراً. لكن إلى متى؟ كان هذا السؤال يؤرقني على الدوام. 

بدأ الوعي يتسلل إلى عقله الصغير، أصوات الطائرات تلّون حواسه بالفرح، وسرعان ما ارتبط فرحه بأصوات تثير الذعر! يركض نحوي ويغمرني ويلهث القلق في حنجرته، أطمئنه وأعرف في سري أنه سيتعلم الكلام ويسألني يوماً ما هذا الصوت؟ أحاول تحضير الأجوبة الاستباقية: «صوت خزان الماء، فحين يمتلئ يصدر صوتاً قوياً».. لا لا فخزان المياه خاصتنا من البلاستيك. «لقد وقعت الطائرة لأن وقودها نفد».. سيبدو هذا السبب منطقيّاً، لكنّ تزايد «وقوع الطائرات» سيعكّر أسبابي المنطقية.

كبر طفلي، وحان دخوله روضة الأطفال، وخزانات دمشق كلها تمتلئ ليعمّ صوت الرعب كل أركانها!

بعد سنتين جاءني معاتباً: «ماما قال الآنسة صفاء تبع الروضة ماتت بالقصف!».. دخل في نوبة بكاء حاد، وما زال قميصه رطباً ومالحاً حتى يومه هذا

كان قلبي ينخلع في اليوم عشرات المرات، أهرول لأتلقى خبراً يفيد بأن الانفجار الذي حدث يبعد عن مدرسة طفلي... أفرح وأتنفس الصعداء، وسرعان ما يهزمني دمع الأمومة على أطفال كانوا بقرب الرعب ولم يجتازوه إلا أشلاء، أو يتامى.

شيئاً فشيئاً تحوّلت إلى أمٍ تعجز على توفير البديهيات من تدفئة شتاء وكهرباء تشغل التلفاز، أذكر جيداً أسماء العواصف التي اجتاحت طفولته كما أحفظ اسمه، ندفات الثلج العالقة على قبعته الصوفية ونحن عائدون من مركز التلقيح، نركل أبراجاً من سعال لم تذب ليومي هذا! لا وقوداً ولا غازاً ولا كهرباء لأدفئ أطرافه الباردة، سكبت من دمعي حفنةً بين يديه، مسح بها وجهه ونام.

بحروفه الفاقدة للثويات السليمة يكرر على مسمعي: «ماما أنا بحب الكهربا، ليش هي مابتحبنا؟»، يكررها كلّما حرمه التقنين إكمال برنامجه المُحبب.
ماذا أقول له عن معلمته التي قُتلت تحت القصف؟ أكذب؟ أجل فعلتها... وبعد سنتين جاءني معاتباً: «ماما قال الآنسة صفاء تبع الروضة ماتت بالقصف!»، ثم دخل في نوبة بكاء حاد، وما زال قميصه رطباً ومالحاً حتى يومه هذا.

وبدل أن يسألني عن ألوان الطفولة، يسأل طفلي الذي كبر قبل أوانه عن أسماء الأسلحة، والانتخابات، والحروب وأسبابها، يسأل عن الخيم بديلة البيوت، عن بلاد تتوافر فيها الكهرباء أبداً، يشهق مستغرباً حين أجيبه بنعم: «يعني 24 ساعة بتضل الكهربا جاية ومابتقطع ولا مرة؟!... نيالن!».

عانى طفلي من العنف المدرسي، فالحرب أرضعت جيلها من ثديها المسموم. كما عانى من الفقد الذي كلفني سنوات من الصبر، أطبطب به على خاطره المكسور علّه يُجبر.

مهما حاولنا نحن الأمهات واجتهدنا في تلوين الحياة بأقلام أطفالنا الباستيل، سيبقى مشهد الأمومة منقوصاً، فما تسلبه الحروب، لا تردّه الأعياد، الحرب - ببساطة - تُوصَد باب الفرح، الفرح بكل ألوانه.