× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

«أنجبي لي ولداً يا ابنتي»

حكاياتنا - ملح 29-03-2024

ثمة أغنية مصرية أحبها وتؤلمني، تقول جملة فيها: «جميع اللي ماتوا عيالي الصغار»، وأخرى تقول: «بتنقص بلادك أراضي وبيوت، وتنقص ولادك تابوت فوق تابوت»

الرسم: (Yustinus Anang Jatmiko - كارتون موفمينت)

لا أريد أن أكون من أولئك الذين يخسرون بيوتاً وأولاداً في الحروب، فلا تزال لدي القدرة على اتخاذ القرار، لا أريد بيتاً يسهل هدمه، ولا لأحشائي أن تنجب ضحية جديدة لهذه البلاد. لكنّ أمي تقصم ظهري وتُشعرني بوخز في قلبي.

تعود بي الذاكرة إلى مكان يبعُد نحو اثنين وعشرين عاماً.. كنّا صغاراً: ثلاثة صبيان وأنا، نلهو حول أمي، المرأة التقليدية البسيطة التي تحب أن يكون أبناؤها متفوقين في دراستهم، تُجلسنا بجانبها، لننهي معها واجباتنا المدرسية، تنظر في عيوننا جميعاً وتبتسم متفائلة بمستقبل جميل وعائلة متماسكة تضج بكثير من الأحفاد.

أمي ربّت فأجادت ما فعلت، وكما يقال في الأمثال ربّتنا «كل شبر بندر»، لكنها جَنت علينا من دون قصد! أفكر يومياً بمدى حزنها حين ترى نتيجة ما اقترفته من ذنب قرار اتخذته منذ ثلاثة وثلاثين عاماً.

لم تكن تلك المسكينة تعلم أن حرباً ستشتعل هنا لتأخد في طريقها كثراً، وتسرق كثيرَ أمي: أخي الأكبر.

في العام 2013 وتحديداً في 20 آب/أغسطس كانت أمي تهمّ بأن تبارك لأخي الأوسط في عيد ميلاده حين أخبروها أن ابنها البكر قد استشهد. هذا هو المعنى الدقيق لـ«تاريخ لا ينسى» أمّ أنجبت ولداً في 20 آب 1993 لتفقد في التاريخ نفسه ولكن بعد عشرين عاماً ابنها الأكبر!

ربت ولدها ثلاثة وعشرينَ عاماً لتخسره بسبب حربٍ صممت أنّ نصيب أمي منها لن يقف عند ذلك بل تفرّقت بقية أولادها بعيداً: أنا أتممت دراستي، وبقيت في دمشق، ضحيت بحضن أمي لأعوض ما قد ينقصني قربها من تطور ذاتي ومهني.

أخي الأوسط وكمعظم شبان هذه البلاد سافر خارج أسوارها بحثاً عن حظوظ أكثر وفرة ومستقبل أكثر استقراراً وأماناً.

أما آخر عنقودنا فظروف عمله أجبرته على أن يكون في منطقة بعيدة عن دمشق وعن أمي أيضاً، نكاد لا نراه إلا في مناسباتٍ «سعيدة» وأوقات متفرقة.

لا أريد أن أكون من أولئك الذين يخسرون بيوتاً وأولاداً في الحروب، لا أريد بيتاً يسهل هدمه، ولا لأحشائي أن تنجب ضحية جديدة لهذه البلاد

كل ما حل بقلب أمي حل بكثيرات من أمهات سوريا، أمهات فقدن أولادهن إما بموت أو هجرة.

ولأجل كل هذا أُقدر صوت أمي حين تقول لي: أنجبي ولداً، أريد أن أصير «تيتا» (جدة).. تذهب بالطلب بعيداً عن شعور الجدات ليخرج صوتها حزيناً آملاً مني الموافقة: «أنجبي لي ولداً.. أنا أربيه وأنت ابقي في عملك».

هذه الأم التي ما طابت لها الدنيا بأولادها، تأمل أن تطيب لها بحفيد هو ابن لي. وأنا التي تحب الأطفال ويرقص قلبي لضحكاتهم لا أنوي الإقدام على خطوة تحمل من المخاطر أكثر من الاستقرار. كيف لي المجازفة بعدما شهدت ما حل بأمي؟ أود إنجاب ولد وربما أولاداً كثراً كما فعلت أمهات هذه البلاد في زمن بعيد، لكنني أخاف من كل شيء هنا: أخاف الفقد، أخاف أن يظن طفلي أن الحياة تُعاش بانتفاضة فرح عندما تصلنا ساعة وصل التيار الكهربائي بعد خمس ساعات انتظار، أو أن شوارع البلاد رُصفت بالمتسولين منذ نشأتها، أو أن عطلة قصيرة في بيت الجد (الأمر الذي اعتدناه أسبوعياً في طفولتنا) يتطلب ضرب الأخماس بالأسداس أشهراً كي نجمع المال اللازم! 

أفكر في هذه التفاصيل كلها، وأكثر ما أخشاه أن يسألني يوماً: «ماما إيمتة رح تخلص الحرب؟».