بديع الزمان مسعود
كان أول دستور للدولة السورية بصيغتها «ما بعد العثمانية» (بلاد الشام التاريخية) مشروعاً قام على نقاش بنيوي تفاعلي، انخرطت فيه نخب تطورت رؤيتها للعالم عبر عقود من التجارب الحية بعلاقتها مع العالم الحديث ومع التجربة العثمانية الأخيرة في الإصلاحات (من 1895 حتى سقوط السلطنة)، ولم يكن مشروعاً فُرض من «الأعلى»، ولذلك تُخلف قراءته حتى اليوم شعوراً بالإعجاب والحسرة في آن واحد.
الإعجاب لأن ذلك الدستور الذي اكتملت صياغته النهائية في 19 تموز 1920 (بعد نحو عام من النقاشات بين أعضاء المؤتمر السوري الأول) يعكس في كثير من مواده محاولة صياغة عقد اجتماعي جديد يجمع بين الحداثة والأصالة في بنيان واحد، فلم يكن نسخة مشوّهة من دساتير دول أخرى ولو أنه تأثر بالدستور العثماني، كما لم يكن ابتكاراً منقطع الجذور عن تاريخ البلاد. أما الحسرة، فلأن الاستعمار عطّله بعد أربعة أيام من إقراره وفوّت بذلك وخرّب احتمال تجربة ديمقراطية عمادها التوافق النخبوي والشعبي معاً.
كان جميع أعضاء «المؤتمر السوري الأول» من الذكور، ولم تحضر بينهم امرأة واحدة (ربما كان طبيعياً تبعاً للمرحلة التاريخية)، ولم ترد أي تفصيلات خاصة بالمرأة في ذلك الدستور، ولم يُشر إلى حقوق يجب أن تنالها المرأة ومنها حق التصويت. لكن هذا لا يعني أن النقاش حول هذا الموضوع المهم لم يحضر في النقاش.
أصل الحكاية
نصت المادة 78 من الدستور السوري للعام 1920 على أن «لكل سوري أتمّ العشرين من سنّه ولم يكن ساقطاً من حقوقه المدنية حقٌّ في أن يكون ناخباً أول، ويكون للحائز شهادة المدارس العالية منهم رأيان، وكل سوري أتم الخامسة والعشرين من سنه ولم يكن فاقداً حقوقه المدنية ولا محكوماً علية بسجن شهر فأكثر يجوز أن يكون ناخباً ثانياً، ويشترط أن يكون الناخب الثاني ممن يحسنون الكتابة والقراءة وألا يكون موظفاً ولا ضابطاً ولا خادماً خاصاً».
قبل إقرار الدستور، كانت هذه المادة مثار نقاش طويل يتعلق بحق النساء في التصويت. في 25 نيسان 1920 اقترح إبراهيم الخطيب، (نائب عن جبل لبنان)، أن يُسمح للمرأة المتعلمة بالتصويت. كان أوّل المؤيدين لرأي الخطيب النائب عن غزّة الشيخ سعيد مراد، الأستاذ في معهد الحقوق في دمشق (كلية الحقوق)، مشيراً إلى أنّ الشريعة «ضمنت للمرأة حقوقاً متساوية مع الرجل ولذلك نطالب بحقها في التصويت». (تطور الحركة النسائية في لبنان، د. حنيفة الخطيب، بيروت، ص 41، 1984).
جاء وقع الاقتراح على الحاضرين مفاجئاً وصاعقاً، ضجّت القاعة، وبدأت الاحتجاجات الذكورية. كان رد الفعل طبيعياً قياساً بأجواء تلك الأزمنة التي غصّت بحضور الذكور في الحياة العامة دون النساء اللواتي بقين في حدود الصورة العامة للمجتمعات المحافظة في المشرق. مع هذا الاقتراح الجريء كادت أن تنشب معركة، وبسبب عدم قدرته على ضبط الجلسة أجّل رئيس المؤتمر (هاشم الأتاسي) النقاش إلى اليوم التالي. (حسن الحكيم صفحات من تاريخ سورية الحديث 1920 - 1958، دار الكتاب الجديد، 1965).
بنى الخطيب في اليوم التالي مرافعته على مراجعة ما قدّمته النساء خلال الحقبة السابقة للتحرر من العثمانيين، ثم سياق الحرب العالمية الأولى، وما شهده العالم بعدها من تغييرات تتعلق بحق المرأة في التصويت، إذ نالت نساء روسيا حق التصويت بعد الثورة البلشفية، ثم ألمانيا وبولونيا، ومن ثمّ نساء في العالم الإسلامي (ألبانيا وأذربيجان وتركيا) وغيرها، وقبلها كانت أولى الدول التي منحت المرأة حق التصويت في الانتخابات البرلمانية نيوزيلندا 1893.
في ضوء تلك التغيرات طالبت نساء في سوريا (ولبنان) بحق التصويت، وأطلقن في سبيل ذلك حملة قادتها نساء معروفات في الشأن العام آنذاك، منهنَ عنبرة سلام من بيروت، وبعد وصول لجنة كراين ـ كينغ إلى دمشق في كانون الثاني 1920 نظّمت نازك العابد رئيسة الوفد النسائي لمقابلة اللجنة الأميركية حفلاً ترحييباً بالملك فيصل. وعلى غلاف مجلتها «نور الفيحاء» في شباط 1920 طالبت العابد علانية بحقوق المرأة. ثم شاركت مع عنبرة سلام في مناشدة المجلس التأسيسي منح حق التصويت للمرأة. وذهبت مع وفد نسائي إلى قاعة المؤتمر في بناء العابد، لكن لم يسمح لهنّ بدخول جلسات المؤتمر، ولذلك وكّلن إبراهيم الخطيب بعرض قضيتهن (من مذكرات محمد عزة دروزة، دار الغرب الإسلامي، الجزء الأول ص 462 وما بعد).
معركة نيابية ومجتمعية حقيقية
في 26 نيسان أعاد سكرتير المؤتمر محمد عزّة دروزة فتح النقاش حول منح المرأة حق التصويت، مع موافقته عليه. وهنا أعلن سعد الله الجابري (من حلب) موافقته، ووافقه آخرون مثل صبحي الطويل من اللاذقية، ودعاس جرجس من يبرود. لكن نواباً مثل عبد القادر الكيلاني (نائب من حماة)، وعادل زعيتر (نائب من نابلس) وأحمد قضماني (نائب من دمشق)، وغيرهم اعترضوا لأسباب عدة، بعضها مرتبط بفهم الشريعة، وبعضهم احتج بأن قلة قليلة من نساء سوريا متعلمات، وذهب زعيتر إلى أنّ المطلوب التدرّج وليس الاستعجال (مذكرات دروزة).
لم يكن ذلك الاقتراح ليمر بوجود رجال دين محافظين يفهمون الشريعة بمقتضى تفسيرات معينة، وفي نهاية نيسان شنّ هؤلاء هجوماً ضارياً على طارحي الاقتراح، لا سيّما أن المقترح جاء في مرحلة تزايدت فيها المطالبات بتحرر المرأة عموماً.
لكن معارضة منح حقوق سياسية واجتماعية للمرأة لم تقتصر فقط على رجال الدين، بل اشتملت على آخرين مؤثرين، في خضم صراع محتدم حول الهوية، ووصف دعوات التحرر بأنها جزء من «خيانة للثقافة الإسلامية والقومية الأصلية التي تطالب بخصوصية كل شعب وترفض الاستقراء الليبرالي الغربي للعالم».
حاول النائب محمد رفيق التميمي (فلسطيني) التأسيس لموقف وسط، عبر اقتراح تصويت كل من الرجال والنساء في أماكن منفصلة (لتجنب الاختلاط بين الجنسين). هذا الرأي - على علّاته - يمثّل فهماً عملياً لضرورة التدرج في الأحكام بدل صدم المجتمعات بما لم تعتد عليه، خاصة أنّ مسألة الانتخابات بأكملها كانت جديدة نسبيّاً في مختلف أنحاء العالم، لا في المشرق فقط.
المشاركون في المؤتمر السوري العام - صورة تخضع لأحكام الملكية العامة
«تغليب المصلحة» على حقوق النساء
كانت الكلمة الفصل في هذا النقاش لرئيس الحزب التقدمي محمد رشيد رضا (من مواليد القلمون في لبنان) أحد أهم الشيوخ المنادين بالتحرر التدرجي الموافق للشرع الإسلامي بصبغة حداثوية تفصِل الشريعة عن الدولة بمعناها المعاصر.
كان رضا يرى أن نقاش حق المرأة بالتصويت مسألة سياسية لا دينية، ولكن في المقابل «استدعاء النقاش يقتضي المجابهة مع المجتمع» (مع العواّم والتيار العمومي وفق تعبيره)، وضمن تلك المعطيات «فإن مسألة الانتخاب لا تترتب عليها مصلحة» في ظل الظروف السورية التي يهدد فيها العالم الجديد وعصبة الأمم بسحب الاستقلال من السوريين وفرض الانتداب عليهم.
وعليه، فما كان يهمّ في 26 نيسان 1920 «أنّ المؤتمر يجب أن يقود الأمة في لحظة وجودية» كما قال رضا، «وألا يثير المجتمع في قضية واجبة، ولكنها قابلة للتأجيل».
إثر كلام رضا، غيّر بعض الأعضاء مواقفهم. (يذكر رضا ذلك في سلسلة مقالات حملت اسم «الرحلة السورية» في مجلة المنار.
نائب طرابلس سعيد طليع، وافق رضا على طرحه، في حين عارضه رياض الصلح، لكنه اقترح في الوقت نفسه عدم البت في الموضوع.
في النهاية اقترح عثمان سلطان (نائب طرابلس) تأجيل التصويت قائلاً: «سنحتفظ بنسخة من الاقتراح ولكن نترك البند (يقصد المادة 78) كما هو»، وقد أيد هذا الاقتراح خمسة عشر نائباً، جرى تصويت على التأجيل فرفعت الغالبية أيديها مؤيدة.
وفقاً لمراجعة محمد عزة دروزة، سكرتير المؤتمر في مذكراته، كان «ضغط الوضع السياسي العام والجماهير الدمشقية ومتظاهري اللجنة الوطنية العليا هو ما نسف فكرة الموافقة على حق التصويت للمرأة وليس أية أسباب دينية، فقد وافق غالبية الحاضرين في المؤتمر على فكرة مساواة القرآن للمرأة في الحقوق السياسية».
يضيف دروزة أن أعضاء للجنة الدستورية وقتها، قرروا ترك قانون الانتخابات مفتوحاً، ولذلك استخدموا التعبير العام «كل سوري» بحيث يمكن أن يفهم شموله الجنسين. ورغم أن هذا الكلام مردود بالنظر إلى أن مفردة سوري هنا مذكر واضح ولا يمكن تفسيرها بغير النسبة للذكور، خاصة أن الممارسة ثبّتت ذلك، فإن مجرد التفكير بالأمر كان خطوة ثورية.
..ونام المقترح عقوداً
كان من الممكن في الجلسات التالية للمؤتمر أن يعاد النظر بالمقترح، ولكن الأنباء المتدفقة عن نية الفرنسيين وضع البلاد تحت الانتداب دفعت نقاش مسألة حق المرأة في التصويت إلى الخلف.
في 14 تموز 1920 وجّه الجنرال غورو إنذاره الشهير للملك فيصل.
على عجل أُقرت النسخة الأولى من دستور المملكة السورية برئاسة الملك فيصل في 19 تموز 1920، وكانت تلك الجلسة آخر جلسة عقدها المؤتمر التأسيسي، وأُقرّ فيها أن سوريا «حكومة ملكية مدنية».
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0