جورجي بحري
أخيراً، نجح سمير في إيجاد طريقة لإيصال مبلغ صغير إلى أهله.
«لم يكن ينقصنا سوى كورونا كي تُغلق في وجوهنا من كل الجهات»، يقول لي الشاب بأسى.
سمير، لاجئ سوري في إحدى دول الاتحاد الأوروبي، وقد اعتاد أن يرسل مئة يورو شهريّاً إلى أهله المقيمين في سوريا.
«في البداية كنت غشيم»، يقول ضاحكاً، ويضيف «بقيت شهوراً أرسل لهم عبر شركة ويسترن يونيون، رغم معرفتي بأننا نتعرض لسرقة مقوننة». ومن المعروف أن إرسال الحوالات عبر هذه الشركة، هو الوسيلة القانونية التي تتيح للسوريين في بعض دول العالم تحويل أموال إلى سوريا.
لكن القوانين السورية المطبقة، تمنع تسليم الحوالات إلى مستحقيها في الداخل بالقطع الأجنبي. بدلاً من ذلك؛ يتم تسليمها بالليرة السورية، وبسعر صرف بعيد كل البعد عن أسعار السوق.
«أسعارهم هي الوهمية. إنهم يسرقوننا، ولأننا مضطرون، فنحن نقبل أن نتعرض للسرقة. تخيل أنك تذوق الويلات كي توفّر من دخلك البسيط مبلغاً، تقوم بتحويله كي تعين أهلك المعدمين، لكنك تعرف سلفاً أنهم لن يقبضوا سوى نصف هذا المبلغ، إن لم يكن أقل!»، تقول فاتن، السيدة التي وصلت إلى أوروبا قبل أربع سنوات، مصطحبة ولديها بعد أن خسرت زوجها في الحرب.
وحتى وقت قريب ظلّ السعر المعتمد لتسليم الحوالات 430 ليرة للدولار الواحد، قبل أن يتم رفعه إلى 700، في وقت وصل فيه السعر في السوق السوداء إلى 1800، وأكثر. ما يعني ببساطة أن من تصله حوالة قيمتها 100 دولار، سيقبض حوالى 63 ألف ليرة (بعد اقتطاع أجور الحوالة)، وهو مبلغ يعادل وفق سعر السوق السوداء 35 دولاراً فقط!
«بتعرف شو يعني؟»، يسألني سمير، ويجيب بنفسه «يعني ببساطة عم يسرقوا دوا أبي، ولقمة أمي، وعرقي».
ورغم أن بعض الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي قد تداولت أخيراً أنباء عن رفع سعر «دولار الحوالات» إلى قرابة 1500 ليرة، فإنّ هذا الكلام لا يزال في إطار الإشاعات غير المثبتة. وحتى في حال تحوله إلى حقيقة، فإنّ السعر لن يلبث أن يكون أقل من القيمة السوقية بعد فترة وجيزة، حين يحلّق سعر الصرف في السوق السوداء من جديد، وهو أمر حصوله شبه محسوم. أضف إلى كل ما سبق، أن توقف هذه الخدمة بفعل تطبيق قانون قيصر، يظل احتمالاً وارداً!
«الأسود» هو الحل
بعد أن صارت لديه بعض الصداقات في بلد لجوئه، علم سمير بأن معظم السوريين يختارون طريقة أخرى لإرسال حوالاتهم، ويصطلح على تسميتها بـ«الأسود». تطلق هذه التسمية على معظم الحلول التي يلجأ إليها المهاجرون، واللاجئون، للالتفاف على بعض القوانين في بلدان إقامتهم، من العمل من دون عقود نظامية، إلى العيش من دون أوراق إقامة رسمية، إلى إرسال الحوالات.
«أبي ممكن يكون شريك في تمويل الإرهاب إذا انمسك وهو عم يقبض 100 يورو، شو بيختلف الإرهاب عن هيك قوانين؟»
لم يعد العمل في التحويل غير النظامي حكراً على شبكات محترفة، إذ لجأ سوريون كثر إلى امتهان هذا العمل، بفعل ما لمسوه من حاجة السوق. تقوم هذه الطريقة ببساطة على تعاون طرفين (قد يضم كل طرف مجموعة أشخاص)، أحد الطرفين يقيم في الخارج، والطرف الآخر داخل سوريا. يُسلم الراغب في التحويل مبلغ الحوالة إلى الطرف المقيم في الخارج، ليقوم الطرف الداخلي بتسليمها إلى المستفيد، بالقطع الأجنبي، أو بالليرة السورية وفق سعر السوق، مع أجور تحويل أقل من نظيرتها في «ويسترن يونيون».
لا تعد هذه الطريقة آمنة بطبيعة الحال، بفعل أسباب كثيرة.
أهون المخاطر التي تنطوي عليها حوالات «الأسود»، عدم وجود إيصالات رسمية تُثبت عمليتي الاستلام والتسليم، ما يعني احتمال التعرض لعملية نصب، لكن الحالات التي وقعت في هذا السياق تكاد تكون معدومة. «إنهم يخافون على سمعتهم، ويعملون بأمانة لأنها مصدر رزقهم»، تقول لي فاتن في إشارة إلى العاملين في التحويل غير النظامي. تصمت لحظات، ثم تضحك وهي تقول «طبعاً لأن عندهم سمعة يخافون عليها، مو متل اللي بالي بالك».
الخطر الأكبر، يكمن في احتمال تعرّض الطرف المقيم داخل سوريا إلى الاعتقال، في حال ضبطه بـ«الجرم المشهود»، وهو أمر ينطبق على الزبون ومقدم الخدمة في آن. ويواجه المُعتقل في هذه الحال تهماً مختلفة، تبدأ بالتلاعب في سعر الصرف، وتصل إلى «تمويل الإرهاب». يقول سمير «يعني، أبي ممكن يكون شريك في تمويل الإرهاب إذا انمسك وهو عم يقبض 100 يورو، شو بيختلف الإرهاب عن هيك قوانين؟»
«شلل كورونا»
في الشهور الأخيرة، تغير كل شيء. لم يعد في وسع سمير، وكثيرين أمثاله، تحويل الأموال إلى ذويهم بالطرق المعهودة.
«يعني ببساطة رضينا بالهم والهم ما رضي فينا. عم نغامر ونبعت بالأسود مشان أهلنا يستفادوا كم ليرة زيادة، مع إنو خطر عليهم، ومنقول الله الحامي. بس حتى الأسود، وقف».
يرتبط توقف «التحويل الأسود» بإجراءات الحظر التي فرضتها جائحة كوفيد19. إذ بات تنقل المقيمين في كثير من الدول الأوروبية شديد الصعوبة، وفي بعض المراحل كان ممنوعاً تماماً إلا لأسباب محددة. ما أدى بالتالي إلى صعوبة الوصول إلى مقدّمي الخدمة، خاصة أن كثيراً من هؤلاء أفراد، وليسوا شركات بشبكة مكاتب واسعة الانتشار، وكادر بشري كبير.
كانت فاتن، على سبيل المثال، تضطر إلى قطع ساعتين للذهاب من القرية التي تسكنها إلى المدينة التي يقيم فيها من تحوّل الأموال عن طريقه.
يظل احتمال توقف خدمة «ويسترن يونيون» لتحويل الأموال قائماً، بسبب قانون قيصر
ثمة سبب آخر، قد يترك آثاره على هذا الصنف من التحويلات، حتى بعد عودة التنقلات الداخلية إلى حالة شبه طبيعية. ويرتبط هذا السبب بالشلل الذي تعرضت له حركة السفر الدولية، إذ درجت العادة على أن يرسل محوّل الأموال المقيم في أوروبا مبالغ مالية إلى شريكه المقيم في سوريا، بين وقت وآخر، هي ناتج «تصفية الحساب» بينهما. وكانت هذه العملية تتم عبر مسافرين موثوقين كلما سنحت الفرصة وتوافر أحدهم.
بطبيعة الحال لم تكن هذه العملية سهلة، لكنها كانت تتم رغم صعوبتها، إذ يحمل المسافر الموثوق «الأمانة» معه، وفي كثير من الأحوال تكون وجهته النهائية بيروت فحسب، من دون أن يصل إلى سوريا. في هذه الحالة، سيكون عليه إرسال «الأمانة» من بيروت إلى داخل سوريا مع طرف جديد.
«مسابقة شتائم»!
أسأل سمير «طيب، وكيف انحلت قصتك بالنهاية؟»، ويجيبني: «استعنت بصديق يقيم في سوريا. يعني استدنت منه. طلبت منه أن يرسل حوالة داخلية إلى أبي الذي يقيم في مدينة أخرى، بما يعادل مئة يورو».
يصمت لحظات، ثم يضيف «طبعاً هذا الحل لا يمكن أن يكون دائماً. صديقي ليس مليونيراً، وظروفه ليست دائماً مرتاحة، وأنا لا أعرف متى سيمكنني إيجاد طريقة لأسدد إليه ما أستدينه. هناك سبب آخر، أكثر أهمية، وهو أن قيامه بإرسال حوالات داخلية يتطلب منه ذكر سبب التحويل. يعني، تكرار الأمر قد يعرضه للخطر، خاصة أن كنيتنا مشبوهة وموصومة بالإرهاب».
ينهي كلامه بضحكة هستيرية، وأضحك بدوري، قبل أن نتسابق في تأليف شتائم مبتكرة، من العيار الثقيل.