حبر سرّي
الصورة: (clarin.com)
تأتي كتابات غييرمو أودونيل وأفكاره من نبع تجربته الحيوية في مسقط رأسه الأرجنتين، حيث عاش حقبة الديكتاتور خوان بيرون العسكرية، وشهد صعودها وسقوطها ثم ما تلاها من عملية تحول ديموقراطي، ما كان له أثر كبير في تشكل أفكاره وتطوير المفاهيم التي أرساها في حياته الأكاديمية والفكرية، بخاصة في ما يخص طبيعة الديكتاتوريات وعمليات التحول السياسي.
يُعدّ كتابه الأول التحديث والبيروقراطية الاستبدادية (1973) نقطة انطلاق مشروعه الفكري الذي أحدث جدلاً واسعاً في أروقة العلوم السياسية.
يقدّم أودونيل في كتابه طرحاً جديداً ومغايراً لما سبقت مناقشته عن طبيعة الديكتاتوريات العسكرية في أميركا الجنوبية التي ظهرت في ستينيات القرن الماضي. ترتكز أطروحته على أن تلك الديكتاتوريات العسكرية قائمة على طبقة جديدة من المتخصصين (التكنوقراط) والمؤسسات العسكرية الاحترافية وليس على ساسة شعبويين وقادة عسكريين أشداء كما كان الأمر في السابق.
أما الفرضية الأكثر إثارة للجدل التي قدمها هذا الكتاب، فهي أن التحول إلى المجتمع الصناعي في الحالة الأميركية الجنوبية لم يولد ديمقراطيات، بل ما سمّاه أودونيل «السلطوية البيروقراطية».
إذاً، يتجاوز تحليله تلك الأنظمة إلى تحليل الظروف التاريخية والاقتصادية والاجتماعية، خصوصاً البعد الاقتصادي المرتبط بالتحول إلى المجتمع الصناعي وظهور طبقة جديدة من البيروقراطيين المتخصصين: التكنوقراط والنخب الاقتصادية، ومعهما تحوّل العسكر من مجرّد مجموعة تحتكر القوة إلى مؤسسة منظمة لديها مصالح اجتماعية واقتصادية.
صراع تفاوضيّ
انتقل أودونيل إلى المرحلة الثانية من مشروعه الفكري، التي كرست سؤال التحول الديمقراطي، أو الانتقال من الحكم السلطوي، وهذا عنوان كتابه المهم الذي شاركه كتابته فيليب شميتر: الانتقال من الحكم السلطوي (1986).
في عرضهما لعملية الانتقال من السلطوية البيروقراطية نحو الديمقراطية، طرح أودونيل وشميتر خياراً استراتيجياً للتعامل مع معضلة التحول الديمقراطي، وهو التفاعل ما بين أربعة لاعبين أساسيين: اليمين المتشدد، واليمين الأقل تشدداً داخل بنية النظام السلطوي من ناحية. ومن ناحية أخرى المعارضة الراديكالية (اليسار الراديكالي الذي قد يكون متمثلاً في حركات شعبية غير منظمة)، والمعارضة المعتدلة (أحزاب قائمة بالفعل ذات توجه ليبرالي أو ديمقراطي اجتماعي).
تُعد مسألة الديمقراطية التوكيلية التي طرحها أودونيل زعزعةً للنظريات الغربية عن الديمقراطية والتحول إليها، خاصة أن النموذج الغربي قائم على الديمقراطية التمثيلية
هذا التفاعل هو صراع تفاوضي يهدف إلى إعادة ترتيب المواقع في نطاق مغلق أو محدود من شأنه ألا يسمح للخط الراديكالي بتحقيق أهدافه في إعادة توزيع الثروة وحقوق الملكية وإعادة تكوين التحالفات الخارجية وتغيير القيادة العسكرية لمؤسسة الجيش.
يتحول هذا الصراع التفاوضي إلى تكوين ما يسميه الكاتبان «الأحلاف» (pacts)، المكونة من أوليغارشيات تهدف إلى الحد من المنافسة والصراع في آن، وبذلك تتحكم وتسيطر على وضع السياسات ورسمها. هذا النوع من التحول الديمقراطي معني بشكل أساسي بالشكل، إذ يُعاد ترتيب السلطوية البيروقراطية في إطار ديمقراطية إجرائية غير معنية بإدماج المواطنين.
نافذة على السلطوية الشمولية
اهتمّ أودونيل، بالإضافة إلى تشخيص أمراض الاستبداد، بتحديات ترسيخ الديمقراطية. ركّز في أعماله اللاحقة على مفهوم «الديمقراطية التوكيلية»، الذي طرحه في عدد من أعماله في التسعينيات مثل مقاله: «الديمقراطية التوكيلية» (1994). وهو مصطلح صاغه لوصف شكل النظام الديمقراطي الذي يتميز بتركيز السلطة في أيدي السلطة التنفيذية وضعف نظام الضوابط والتوازنات.
جادل أودونيل بأن الديمقراطية التوكيلية كانت نمطاً شائعاً في عدد من الدول التي شهدت تحولاً ديمقراطياً حديثاً، بما في ذلك دول أميركا اللاتينية. شكّل هذا المفهوم تحدياً للعقلية السائدة حول الديمقراطية، ودفع الباحثين إلى إعادة النظر في العلاقة بين الانتخابات والتمثيل وفكرة ترسيخ الديمقراطية.
تُعد مسألة الديمقراطية التوكيلية التي طرحها أودونيل زعزعةً للنظريات الغربية عن الديمقراطية والتحول إليها، خاصة أن النموذج الغربي قائم على الديمقراطية التمثيلية، أي الديمقراطية التوكيلية في أميركا الجنوبية من حيث نقل النموذج الغربي في إطاره الهيكلي فقط.
يوضح أودونيل بنية نظام الديمقراطية التوكيلية ومعالمه على النحو الآتي:
- أولاً، تتركز السلطة الفعلية في يد السلطة التنفيذية وعلى رأسها قائد يتمتع غالباً بكاريزما وحضور قويين. يمتلك هذا القائد، رئيس الجمهورية، سلطات ونفوذاً شبه مطلقين وهو نموذج سماه أودونيل «الفرط رئاسية» أو «الرئاسة المفرطة في القوة Hyper-Presidentialism.
- ثانياً، ما يترتب على سالفه بالضرورة: ضعف المؤسسات الأخرى: السلطة التشريعية والقضائية أو السيطرة عليها من جانب السلطة التنفيذية.
- ثالثاً، انعدام المحاسبة والرقابة على السلطة التنفيذية.
- رابعاً، الكاريزما والشعبوية اللتان تعتمد عليهما السلطة التنفيذية لجني شرعيتها واستمرارها. خامساً، نتيجة كل ما سبق، شبه استحالة تحجيم السلطة التنفيذية بسبب ضعف مؤسسات الدولة.
إذاً، لا تختلف الديمقراطية التوكيلية عن كونها ديكتاتورية مقنعة ترتدي عباءة الديمقراطية الشكلية، التي تصل إلى نظام حكم سلطوي تنفيذي يكون الحاكم فيه حاكماً بالوكالة عن الجماهير وعن باقي المؤسسات، أو ديكتاتورية في وضع الانتظار. يؤدي تركيز القوة والسلطة والسيطرة في يد السلطة التنفيذية إلى السلطوية الشمولية لا محالة.
اختار أودونيل نموذَجَي البيرو، والأرجنتين لدراسة التطبيقات والممارسات العملية للديمقراطية التوكيلية، وقد لاقى مفهومه المطور عنها هجوماً وأثار جدلاً واسعاً، نظراً إلى تشابه فكرة التوكيل وفكرة التمثيل أو الديمقراطية التمثيلية Representative Democracy، التي هي الجوهرة على تاج الغرب الجمعي.
يجعل تشييد هذا المفهوم ومناقشته يده تمتد بالضرورة إلى النموذج الديمقراطي الليبرالي الغربي: الديمقراطية التمثيلية.
لعل المفارقة هنا هي أن الشخص المنتخب برلمانياً يسمى في لغتنا العربية «نائب» الشعب، والنيابة هنا لا تبتعد كثيراً عن الوكالة.
حكم القانون الديمقراطي
طوّر أودونيل، في دراسته لمسألة الديمقراطية والتحول إليها وبحثها مع محاولات فهم الفوارق بين أنواعها، باباً جديداً أسماه «جودة الديمقراطية وأهمية حكم القانون». وهو العمل الذي نشره في 2004 طارحاً فيه سؤالاً جديداً عن العلاقة بين حكم القانون والديمقراطية.
يسبر هذا العمل أغوار المفاهيم الثابتة المرسخة في الديمقراطيات الغربية الليبرالية، خاصة في ما يخص مفهوم حكم القانون وأحياناً دولة القانون (مفهوم ألماني الأصل أرساه كارل شميت، وهو بعيد كل البعد عن شكل الحكم الديمقراطي، ثم أصبح مستخدماً بكثافة في ألمانيا بعد الحرب العالمية، خاصة بعد الوحدة).
يجادل أودونيل بأن مفهوم حكم القانون الكلاسيكي المتأصل في الديمقراطيات الغربية غير كافٍ عند تقييم التجربة الديمقراطية لأي بلد، خصوصاً في حالة أميركا الجنوبية، وبأن من ضمن عوامل التحديد لجودة الديمقراطيات أن يكون حكم القانون في ذاته ديمقراطياً.
حكم القانون ليس أداة في يد السلطة التنفيذية لحكم الشعوب، بل هو عملية ديمقراطية متجددة في صلب المجتمع لمصلحة المواطنين
يبدو الأمر بديهياً للوهلة الأولى، إذ لا توجد ديمقراطية بدون حكم واحترام وتطبيق القانون. ولكن هل توجد دول غير ديمقراطية تطبق القانون؟ أو بالعودة إلى الديمقراطية التوكيلية، هناك حكم قانون فعلاً. وإن لم يكن حكم القانون ديمقراطياً، فنحن نتحدث عن ديمقراطيات ملتبسة أو ذات جودة ضعيفة.
ما هو إذاً حكم القانون الديمقراطي؟
هو الذي يكفل الحقوق السياسية والحريات المدنية وآليات الرقابة، ما يؤكد بدوره المساواة السياسية بين جميع المواطنين، ويحد من احتمالات إساءة استخدام السلطة التنفيذية. بهذا المنظور، يعمل حكم القانون بشكل وثيق مع أبعاد أخرى من جودة الديمقراطية، ومن دون حكم القانون القوي الذي يدافع عنه قضاء مستقل، لن تكون الحقوق آمنة وستكون المساواة والكرامة لجميع المواطنين في خطر.
ستخضع المؤسسات المختلفة في حكم القانون الديمقراطي فقط للمساءلة الانتخابية والاجتماعية والمحاسبة الأفقية بشكل فعال، دون عوائق أو ترهيب من الجهات الفاعلة القوية في الدولة: السلطة التنفيذية. لن تتحقق استجابة الحكومات لمصالح أكبر عدد من المواطنين واحتياجاتهم، إلّا عندما تعزز سيادة القانون هذه الأبعاد الديمقراطية للحقوق والمساواة والرقابة. أي إنّ القانون لا يكون مفهوماً مسمطاً محرماً يتسم بالصرامة، بل هو عملية وتكوين متفاعلان مع المجتمع: تكتبه الجماهير والناخبون ويعدّلونه. يحدد حكم القانون الديمقراطي بالنسبة إلى أودونيل جودة الديمقراطية، ولذا جوهر هذا المفهوم هو الحوكمة أكثر من فكرة الحكم، فحكم القانون ليس أداة بيد السلطة التنفيذية لحكم الشعوب، بل هو عملية ديمقراطية متجددة في صلب المجتمع لمصلحة المواطنين.
الدولة الفعالة والدولة المعطوبة
في المحطة الأخيرة من الحياة الفكرية والبحثية لأودونيل، كرّس جهده في البحث والكتابة عن علاقة الدولة والفردية والديمقراطية، وأصدر كتابه الديمقراطية والفعالية والدولة. النظرية بنية مقارنتية (2010). يناقش أودونيل فيه أربعة مفاهيم أساسية ويفرق بينها: البيروقراطي، الشرعي، الهوية الجمعية، والفلترة/التنقيح. ثم يطرح جدليته بأن كل تلك المفاهيم والعوامل تتفاعل معاً منتجة شكل العلاقة وممارساتها بين الفرد والجماعة من ناحية، وبين المؤسسات الحاكمة والدولة من ناحية أخرى.
يهتم أودونيل بفكرة الفعالية Agency في الإطار النظري للكتاب، بدءاً بفعالية الفرد، مروراً بفعالية المواطنين، وصولاً إلى فاعلية الدولة أو قدرتها على تحقيق مطالب المواطنين، وقدرتها على أن تكون فاعلة وقوية عن طريق العملية الديمقراطية، ما يسميه أودونيل «الفلترة» أو «التنقيح»، أي القدرة على نقل مطالب المواطنين ورغباتهم عن طريق من ينتخبهم إلى السلطة التشريعية وتحقيقها عبر السلطة التنفيذية. والتنقيح هنا يعني: ليس كل ما يريده المجتمع يتحقق بالضرورة، نظراً إلى التركيبة الديمقراطية البرلمانية من غالبية وأقلية.
يوضح أودونيل في الجزء المقارن في الكتاب أن الديمقراطيات ذات الجودة الضعيفة تتسع فيها الفجوة بين ما يطالب به المجتمع وما تحققه السلطة، والعكس صحيح. ترتبط فعالية الفرد وفاعلية الدولة إحداهما بالأخرى. يحلل الكتاب دور الدولة في تشكيل الديمقراطية، ويركز على قدرتها على فرض القوانين، وحماية الحقوق، وتقديم المنافع العامة. ويميز بين «الدول الفعالة»، التي يمكنها القيام بهذه الوظائف، و«الدول المعطوبة»، حيث تكون هذه القدرات محدودة. إن فاعلية الدولة أمر حاسم في تحديد جودة الديمقراطية، إذ يمكن أن تقوّض الدولةُ الضعيفةُ سيادةَ القانون وتقلل من قدرة المواطنين على الفعل.
أسهمت أعمال غييرمو أودونيل، التي نشرت عبر ثلاثة عقود، في فتح مجال كبير لإنتاجٍ معرفيّ جنوبيّ في العلوم السياسية، يتفاعل مع الخط المعرفيّ الغربيّ/الشماليّ ولا يتبعه أو يصير امتداداً له، بل ينقضه أحياناً كثيرة.
قدّم أودونيل إنجازات كثيرة أهمها: تفكيك النظريات السياسية والاجتماعية الغربية، في ما يخص مفهوم الديمقراطية وفرضيات التحول إليها.
جادل بأن الديمقراطية ليست حكراً على تلك المتمثلة في الفهم الغربي الليبرالي، بل هناك ديمقراطيات: منها الضعيف، والمتماسك، والإجرائي، والفعال، ومسألة التحول الديمقراطي معقدة ومتباينة، خاصة في الدول المحكومة عسكرياً مثل الأرجنتين وتشيلي وكولومبيا.
عبر قراءة أعمال أودونيل، ربما نستطيع، نحن الناطقين بالعربية، الاستفادة من هذا الإنتاج المعرفي في محاولة لوصل الحالة العربية بالحالة اللاتينية، لتُكتشف المقاربات وتُدرس الاختلافات، سعياً نحو فهم جديد وإنتاج معرفي عربي يتعامل مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمنطقة، فيطور أفكاراً وأشكالاً جديدة للتحول السياسي الديمقراطي.