لُجين حمزة - كاتبة ضيفة
الرّسم: Rahma Cartoons - كارتون موفمينت
الثّامن عشر من أيلول 2018، لم يكن يوماً عادياً في مدينة السويداء. صبيحة ذلك اليوم انطلقت خمس رصاصات من بندقية، اخترقت جسداً غضاً، وانسابت دماء حارة على الإسفلت.
الأكثر إيلاماً من الجريمة، أو بعبارة أدق، الأكثر ترويعاً، ما تناقلته بعدها وسائل التواصل الاجتماعي من محاولات لتجميل صورة المجرم، وإثارة التعاطف عند الرأي العام والجموع التي تلقت الخبر، بل ومحاولة لحرف إصبع الاتهام عن المجرم، وتحويله إلى ضحية مثل المرأة التي قتلها، ابنته.
حراك السويداء
خرجن من الكهف المظلم، غنّين بكل ما أوتين من إيمان وشجاعة، للحرية والثورة والتمرد. خرجتُ معهنّ، وقفتُ بينهنّ، ذاب صوتي بأصواتهنّ.
في ظل واقع مروّع يفتقدن فيه إلى أبسط الحقوق وأدنى درجات الشعور بالأمان، نساء عزلاوات، سلاحهنّ قلوبهن الصاخبة وأحلامهن المشرقة، خرجن للمطالبة بالتغيير، بوطنٍ يحتضن ولا ينفي. ولكن ماذا حصل عقب هذه الوقفات البطولية؟ هل تكسّرت أحلامهنّ على صخور الواقع؟
تعرضت نساء السويداء إلى عمليات من القمع المكثف المزدوج، ويمكننا القول إن التصنيف المتعارف عليه بين «معارض ومُوالٍ» تطوّر وتغيّر، انبثق نوع ثالث من الناس" نساء الحراك اللواتي تهاجمهن كل الأطراف!
منذ اليوم الأول للحراك انطلقت حملة عنيفة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، والمواقع الإعلامية والأبواق التابعة للسلطة، تستهدف هؤلاء النسوة. طاولت الحملة كرامة هؤلاء النسوة وشرفهن بالمفهوم الاجتماعي السائد، وصفتهن بأقذع الألفاظ، واختلقت لهن قصصاً مخلّة بالآداب العامة، ونشرت صورهن الشخصية، وحرضت رجال عائلاتهن على اتخاذ تدابير عنيفة بالضرب والحبس في البيوت لأنهن «يمرّغن شرف العائلة»، وقد حصدت تلك الحملات تأييداً عند شريحة من الناس لأنها استندت على الموروث الاجتماعي للمنطقة واستثمرته بذكاء، وبالفعل آتت الحملة أُكُلَها في بعض الحالات، فقد تم فصل ثلاث سيدات من عملهن.
في الجهة المقابلة، كان الموروث الاجتماعي حاضراً بقوة بين أبناء الحراك، فقد تم استبعاد وإقصاء النساء بشكل متعمد أحياناً وغير متعمد في أغلب الأوقات.
كيف حصل ذلك؟
نشأت في ظل الحراك تيارات سياسية عديدة، اتبعت جميعها بروتوكولات متشابهة حد التطابق، جميعها كانت تدعو النساء إلى الانتساب، وجميعها كانت تمنع النساء من الوصول إلى مراكز صنع القرار، أو مجالس الإدارة، إما عبر التآمر والتكتّلات، أو عبر التلاعب بنتائج الانتخابات.
يمكننا القول إن التصنيف المتعارف عليه بين «معارض ومُوالٍ» تطوّر وتغيّر، انبثق نوع ثالث من الناس: نساء الحراك اللواتي تهاجمهن كل الأطراف!
النساء اللواتي غيرن وجه الثورة السورية في العالم، وحرّكن الملف السوري في أروقة الأمم المتحدة بعد سبات دام سنوات، وانتزعن من السلطة الحاكمة أهم أسلحتها وهو ورقة حماية الأقليات، وبانضمامهن إلى صفوف الثوار، الثورة التي ظلت ثلاثة عشر عاماً عرجاء، أصبحت تمشي على ساقين. هؤلاء النساء أنفسهن، تعاملت معهن مكونات الحراك والنسيج الاجتماعي للمدينة بطريقة فوقية مشينة، وكأنهن مزهريّات أو أدوات زينة!
من السويداء إلى النازحين السوريين في تركيا، كيف عم خطاب الكراهية على النساء؟
من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، تطال خطابات الكراهية غالباً الجماعات المهمّشة، التي لا تحوز سلطة أو سلاحاً تدافع به عن نفسها، ويتم تفعيلها واستثمارها عند الظروف المفصلية، على سبيل المثال، موجات خطاب الكراهية ضد الحلقة الأضعف: اللاجئين السوريين، التي تتعالى بين الفينة والأخرى في تركيا، التي تستهدف أكثر ما تستهدف الحلقة الأضعف من الحلقة الأضعف: النساء السوريات.
لقد تعرضت السوريات في تركيا إلى انتهاكات رهيبة، عوملن بطريقة أقرب إلى الهمجية، في المستشفيات، وأماكن العمل، والشارع، وما هو الشيء الذي يدلّل عليهن؟ الزي، ولنكن أدق، غطاء الرأس!
تعرضت نساء سوريات إلى محاولات لسحب الحجاب عن رؤوسهن في الشوارع، وطردت بعضهنّ من المستشفيات، وواجهت بعضهن محاولات تحقير وإهانات علنية في وسائل المواصلات العامة، صرخ كثرٌ في وجههن: «اذهبن من هنا، عدن إلى بلادكن، أنتم متخلّفون، ونحن كماليون».
لكن لماذا يُمارس القمع على النساء السوريات المحجبات باسم علمانية أتاتورك؟ لماذا تُنتهك حرية اختيار ملابسهن باسم نظام سياسي متقدم؟ وهل يمنحك الانتماء إلى «الكماليين» الحق في انتهاك حقوق الآخرين والتنمر عليهم؟ هل الحجاب هو حقاً سبب هذه الانتهاكات، أم أنه مجرد شمّاعة؟
خطاب الكراهية وحرية التعبير
ما هو «خطاب الكراهية» وما هي الحدود الفاصلة بينه وبين «حرية التعبير»؟ هل يمكن اعتبار خطاب الكراهية شكلاً من أشكال حرية التعبير؟ ولماذا أصبح محل اهتمام متزايد في الآونة الأخيرة؟ هل يعود ذلك إلى العواقب التي تترتب عليه؟ وهل هذه العواقب بالفعل خطيرة إلى هذا الحد؟ كيف استُخدم خطاب الكراهية ضد النساء؟ وما هو أثره على المرأة بشكل عام، والمرأة السورية بشكل خاص؟
يُعتبر مصطلح «خطاب الكراهية» فضفاضاً وغير محدد، حتى إنه لم يحصل على تعريف دقيق من قبل منظمة الأمم المتحدة. لذا، دعونا نحاول تحليله علّنا نصل إلى فهم أوضح لمحتواه.
الخطاب: هو وسيلة للتواصل، سواء كان لفظياً أو مكتوباً أو مقروءاً أمام جمهور، أو مرئياً عبر الفن أو وسائل الإعلام.
الكراهية: هي شعور بالعداء أو البغض تجاه شخص أو شيء، وفي هذا السياق، ترتكز الكراهية على أسس تمييزية تُوجّه ضد شخص أو مجموعة تُعتبر مختلفة أو مميزة بطريقة ما.
بدمج التعريفين يصبح لدينا الآتي، خطاب الكراهية: «هو استخدام عبارات أو إشارات تحرض على العداوة وإلحاق الأذى بشخص أو مجموعة، بناء على اختلاف في العرق أو الدين أو الجنس أو اللون، أو على الإصابة بإعاقة جسدية أو عقلية، وأحياناً بناء على المستوى المعيشي والفوارق الطبقية».
لا تقضوا على حلمي
في شباط/فبراير 2018، استقبل برنامج «ذا فويس» بنسخته الفرنسية فتاة محجبة في بداية مشوارها الفني. وانتشر كالنار في الهشيم أن السورية منال ابتسام، أبهرت لجنة التحكيم بصوتها وأدائها المرهف. لكن بعد أيام قليلة من ظهورها، أعلنت منال في فيديو مصور انسحابها من البرنامج، موضحة أنها «لم يكن في نيتها أن تؤذي أحداً»، فما الذي دفعها للانسحاب؟
خلال فترة قصيرة من دخولها المسابقة، شُنّت ضد منال حملة شعواء على وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، واتُّهمت بالتطرف الديني وكبت عدائها لفرنسا. السبب وراء ذلك منشور كتبته على موقع «فايسبوك» قبل عامين من مشاركتها في البرنامج، قالت فيه: «لربما تكون الحكومات هي الإرهابي»"، في تعليقها على أحداث نيس الدموية العام 2016.
المثير للاهتمام أن منال قررت تجاوز هذه الحملة، وشاركت من جديد في برنامج «أميركا لديها موهبة/AGT» العام 2019، لكنها لم تتمكن من تجاوز المرحلة الأولى بسبب توترها الشديد، ما جعلها غير قادرة على الغناء. الجمهور الذي كان يدعمها ويشجعها، تحول بالنسبة إليها إلى مصدر للخوف والهجوم بعد حملة التشويه، وكاد يفقدها صوتها!
بعد فترة، قامت منال بخلع حجابها، ما أدى إلى شنّ حملة جديدة ضدّها، تتهمها بالتخلي عن دينها ورفض القيم الإسلامية، لتخرج منال عن صمتها قائلة بانفعال: «هذا يكفي! توقفوا عن الحكم عليّ من خلال مظهري وملبسي. أنا مغنّية وموسيقية، استمعوا إلى فني وقيّموني فنياً».
هل كانت منال مخطئة في منشورها؟ ألم تكن بعض الحكومات فعلاً من أهم الداعمين والممولين للجماعات الإرهابية في العالم؟ هل الحجاب السبب الحقيقي وراء إقصائها، أم مجرد ذريعة، شمّاعة؟
ديانا أ.ح
يحتدم النقاش في الولايات المتحدة عندما يُذكر مصطلح «خطاب الكراهية». تنفي بعض الأصوات أي وجود لشيء مثل «خطاب الكراهية»، وتعُدّ كل الكلام مباحاً في نطاق حرية التعبير، بينما يعتبر آخرون أن خطاب الكراهية يشكل خطراً، وله آثار مدمرة على نفسية الضحايا وقد يهدد حيواتهم.
وفقًا لمنصة «فوق الضجيج» الأميريكة: حرية التعبير محميّة بموجب التعديل الأول للدستور الأميركي، الذي ينص على حرية الفرد في التعبير عن آرائه دون تدخل من الحكومة، إذ تُعدّ حرية التعبير أساساً للديمقراطية وحقوق الإنسان. تقول الناشطة الإعلامية شيرين من المنصة: «من الأفضل أن يبقى خطاب الكراهية مباحًا باسم حرية التعبير، هل نريد أن نمنح الحكومة سلطةً لتقرر ما يمكن قوله ومن يجب اعتقاله بناءً على أقواله؟».
هل تمر مقولات «المرأة بنص عقل» و«إن ماتت أختك انستر عرضك وإن مات أخوك انكسر ظهرك» مرور الكرام؟ أم أنها تؤثر على سلوك المجتمعات تجاه النساء؟
في محاولة لوضع حدود بين خطاب الكراهية وحرية التعبير، جرى الاتفاق على أن جميع الخطابات مسموح بها باستثناء تلك التي تحرض على ارتكاب جرائم مباشرة. فمثلاً، يمكنك إلقاء خطاب مليء بالإهانات تجاه فئة معينة دون أن تتعرض للمساءلة، ولكن إذا أشرت إلى شخص ما في الجمهور وصرخت: «اقبضوا عليه»، فإن ذلك يصبح تحريضاً على العنف ويستوجب إجراءات قانونية.
دعوني أروي لكم حادثةً مؤلمةً:
«ابنتك لم تحضر إلى المدرسة بعد»، قالت المعلمة عبر الهاتف لوالد الطالبة ديانا أ.ح. في الساعة العاشرة صباحاً. حضر الوالد كالمسعور، صرخ في وجه المعلمات: «أين ابنتي؟»، لترد عليه المديرة ومن معها: «نحن لا نعرف، أنت والدها، اكتشف أين ذهبت». بعد دقائق وصلت ديانا، التي تبيّن أنها كانت تشتري المثلّجات مع صديقتها. صعدت إلى السيارة مع والدها المشتعل غضباً، ولم يحاول أحد تهدئته. ولم يمضِ ربع ساعة حتى أطلق النار عليها وأرداها قتيلة.
المجرم الذي وجّه البندقية إلى جسد ديانا، كان هو خطاب الكراهية ذاته.
لكن كيف تشكّل هذا الخطاب؟ كيف امتلك القدرة على إنهاء حياة هذه الطفلة؟ هل استند إلى الموروث الاجتماعي المتأصل في عقل الأب القاتل وفي عقول المعلمات، أم كان منبعه المعتقدات الدينية التي تتضمن عبارات تمييزية بين الجنسين؟ هل تمر مقولات «المرأة بنص عقل» و«إن ماتت أختك انستر عرضك وإن مات أخوك انكسر ظهرك» مرور الكرام؟ أم أنها تؤثر على سلوك المجتمعات تجاه النساء؟ وماذا عن المثل الخطير القائل: «امرأة واحدة خرّبت الفردوس»، المستقى من المرويّة الدينية التي تُلقي اللوم على حواء في إخراج آدم من الجنة وتجعلها culprit (الجاني) في كل ما حدث للبشرية؟
حتى لو سلمنا بأن خطاب الكراهية هو ما يؤدي فقط إلى جرائم فورية، فماذا عن الجرائم الكبرى التي تؤثر على مجتمعات بأكملها ولا تتكشف آثارها إلا بعد عقود، مثل انهيار النظام التعليمي؟ فالفشل هنا لم يقتصر على اختيار الكوادر العاملة في المؤسسات التعليمية، بل شمل المناهج الدراسية، أُفرغها من المحتوى العلمي القائم على البحث والتفكير والتحليل، وحوّلها إلى عمليّات ببغائية تحفظ المعلومات عن ظهر قلب، وتتقيّؤها عند اللزوم.
هذه المناهج أيضاً مليئة بعناصر التمييز القائم على النوع الاجتماعي، وتعزيز الأدوار النمطية للرجال والنساء، بدءاً من الفتاة التي تُعدّ الغداء بينما أخوها يلعب، وتغسل الصحون بينما أخوها ينجز واجباته المدرسية، وصولاً إلى الكتب التعليمية التي تهمش إنجازات النساء على كل الصّعد.
هل الأمر قابل للتصحيح؟
يمثل خطاب الكراهية ضد النساء السوريات في سوريا وتركيا وفي جميع البلدان التي يجري فيها التنمّر على النساء السوريات، يمثل أزمة إنسانية تتطلب اهتماماً عاجلاً وتعاوناً مشتركاً على مختلف الصّعُد. إن السياسات القائمة على التمييز والعنف النفسي والجسدي لا تؤثر فقط على حياة النساء، بل تضعف أيضاً النسيج الاجتماعي في كل البلدان. ينبغي أن نسعى إلى تعزيز قيم التسامح وحقوق الإنسان، وتوفير بيئة آمنة ومساندة للنساء السوريات. تتطلب هذه القضية التزام جميع فئات المجتمع، بما في ذلك الحكومات، والمنظمات غير الحكومية، والمجتمعات المحلية، والمواطنين. في نهاية المطاف، إن تعزيز حقوق النساء هو جزء لا يتجزأ من بناء مجتمع سليم ومستدام قادر على مواجهة التحديات المستقبلية.
في الختام، في ظل القمع المتزايد العابر للحدود، وأصوات الكره والحقد التي تتصاعد من كل صوب، وتمركز السلطة في أيدي رؤوس الأموال حول العالم، وجنوح العامة إلى الحكم على المظهر، وتسطيح العميق وتسخيف المفاهيم الإنسانية، قد نظن في لحظة يأس أن الأمر غير قابل للإصلاح، وأنه لا يهم من أنت، سوف يكرهك شخص ما بدون سبب وسيتمنى موتك، ويحرض على قتلك! ولكنني أرى العكس.
بحسب التقرير الذي نشرته «بي بي سي» البريطانية عن قائمة أكثر مئة امرأة تأثيراً في العالم 2020، هناك من بين هؤلاء المئة ثلاث سيدات سوريات، وأعلنت «بي بي سي» أن التقرير كان استثنائياً، لذلك فضّلت أن تترك اسماً واحداً فارغاً في القائمة، تقديراً لجميع البطلات المجهولات، وفق ما جاء في التقرير.
أعتقد أنه إذا تصاعدت أصوات مضادة للعنف، ومقابل كل حملة تحرض على العنف، تقام حملات تدعو إلى المحبة والتفهم والتعاضد، إذا أقيمت برامج حقيقية تهدف إلى التنوير ورفع الوعي، وتفعيل التفكير المنطقي العقلاني، ونبذ التعصب والتحلّي بالاعتدال والوسطية، إذا ظهرت حركات حول العالم تسلط الضوء على المستضعفين والمهمشين، وتخرج الانتهاكات إلى العلن، وتدعو إلى السلام والعدالة، ستنخفض مع الوقت خطابات الكراهية، ويستعيد الإنسان صفته المقدسة كروح لا تُمَسّ ولا تُنْتَهك، وتستعيد المرأة السورية مكانتها، فهي زنوبيا، وجوليا دومنا، وماري العجمي، ونازك العبد، وأسمهان، وثبات إسلامبولي.
---
-
فاز هذا المقال بواحدة من ثلاث جوائز إضافية في الدورة الرّابعة من مسابقة «100 صوت سوري ضد خطاب الكراهية
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0