آماليا حسن
بملامح يشوبها الحزن وعينين دامعين تستذكر جميلة كاكو (35 عاماً) من سكان قرية تل جزيرة واقعة خطفها قبل سنوات على يد عناصر تنظيم «داعش» المتطرف، خلال هجماته على القرى الآشورية في حوض الخابور بين مدينتي تل تمر والحسكة في شباط/فبراير 2015.
وقتذاك؛ اختطف عناصر التنظيم 235 آشوريّاً وآشوريّة: 220 من قريتي تل شاميرام وتل جزيرة، و15 آخرين من قريتي قبر شامية وتل طالة، ثم نقولهم إلى مدينتي الشدادي والرقة حيث احتُجزوا وفق ما ترويه كاكو.
شباط الأسود
تروي جميلة بعض وقائع تلك الليلة من «شباط الأسود» قائلة: «خلال ساعات الليل، وفجر الثالث والعشرين من شباط كنا نسمع أصوات الاشتباكات بين وحدات حماية الشعب ومقاتلين آشوريين من جهة، وبين عناصر التنظيم من جهة أخرى».
تضيف: «مع ساعات الصباح الاولى تمكن عناصر التنظيم من دخول قريتي تل شاميران وتل جزيرة، وأسروني مع كل من كان موجوداً من سكان القريتين، وعدد من سكان قريتي قبر شامية وتل فيضة، ثم نقلونا في شاحنات كبيرة نحو جهة كانت مجهولة لنا».
احتُجزت جميلة رفقةَ عشرات النسوة والأطفال في الشّدادي أشهراً عديدة. تقول: «كان الأمر مرعباً، مسلحون بلحى طويلة ولغات ولهجات مختلفة، فرضوا علينا لباساً وأغطية للرأس، فُصلنا مجموعتين: النساء ومعهنّ الأطفال دون العشرة أعوام، فيما الأطفال فوق العاشرة مع الشبان وكبار السن».
في تشرين الأول/أكتوبر 2015 عمد التنظيم المتطرف إلى نشر شريط فيديو يوثق جريمة قتل ثلاثة من الآشوريين المحتجزين وهم يرتدون الزي البرتقالي الذي اعتمده التنظيم للتنكيل بأسراه وقتلهم، وهم: عبد المسيح نويا، وآشور إبراهام من بلدة تل جزيرة، وبسام ميشائيل من بلدة تل شاميرام، بحسب ما نشرته وسائل إعلامية آنذاك نقلاً عن مسؤولين آشوريين.
لاحقاً أطلق التنظيم المتطرف سراح المحتجزين على دفعات «بعد حصول التنظيم على مبالغ مالية من الكنيسة» وفق جميلة. فيما ظلّ مصير فتاة آشورية واحدة مجهولاً، وقيل إن «أحد قادة التنظيم تزوجها».
قرى خاوية
أدت الهجمات الوحشية إلى نزوح آلاف الآشوريين من قراهم التي «كان أجدادهم قد بنوها وسكنوها عقب فرارهم من المجازر العثمانية التي طاولت الآشوريين في العراق وتركيا ثلاثينيات القرن الماضي»، بحسب مسؤول في «الحزب الآشوري الديمقراطي» فضّل عدم الكشف عن اسمه.
بعد شهور، نجحت «وحدات حماية الشعب» ومعها بعض المجموعات المحليّة (قبل تشكيل قوات سوريا الديمقراطية) في طرد التنظيم المتطرف من قرى الخابور، وإثر ذلك عاد بعض الآشوريين إلى قراهم، قبل أن تقرر النسبة الأكبر منهم البحث عن طرق للهجرة خارج سوريا، وخاصة نحو ألمانيا والسويد وكندا وأستراليا.
تزايدت حركة الهجرة بعد الهجمات التركية التي سُميت «عملية نبع السلام» في تشرين الأول 2019 وأفضت إلى السيطرة على على مدينة رأس العين (سري كانيه) وقرى على أطراف تل تمر وزركان في ريف الحسكة الشمالي، علاوة على مدينة تل أبيض في ريف الرقة الشمالي.
اليوم، وبحسب مشاهدات «صوت سوري» باتت قرى بأكملها خاوية من سكانها تماماً، ومنها: تل هرمز وتل طويل وتل طالة وتل جمعة وتل كفجي وتل بالوعة وأم الكيف وتل جزيرة، في حين بقيت امرأة مسنة واحدة برفقة ابنها في قرية تل شاميرام، وعدد قليل لا يكاد يتجاوز 10 في كل قرية من القرى الآشورية المتبقية.
الوحشة سيدة الموقف في هذه القرى: بقايا كنائس فجّرها التنظيم المتطرف، ومنازل مهجورة، وجدران متصدعة وبعضها مهدم، منازل استوطنتها الأعشاب، وأشجار يابسة بعدما هجرها سكانها.
أما قرى تل نصري وتل رمان وتل مساس وتل سكرة وتل حفيان، فقطنها نازحون من ريف رأس العين وريف أبو راسين (خشم الزركان) منذ نحو أربع سنوات بعدما كان يقطنها نازحون من عفرين، وبناء على «موافقة أبناء القرى الآشوريين» وفق تأكيدات مصادر متقاطعة.
يوضح المسؤول الحزبي أن «أعداد الآشوريين في مدينة تل تمر وقراها الـــ 33 كان يتجاوز 20 ألف نسمة قبل هجمات داعش، اليوم بات أقل من ألف شخص فقط». ويؤكد أن «الحزب والكنيسة يحاولان قدر الإمكان تشجيع من تبقى على البقاء وإعادة الحياة، وحث الشبان على الزواج وإنجاب الأطفال ليتكاثر النسل ويزداد العدد شيئاً فشيئاً».
«حياةٌ بشعة»
يتحسر بريخا شمعون (49 عاماً) من سكان قرية أم غرقان على الهجرة الكبيرة للآشوريين. يقول: «باتت قرى الآشوريين من أم الكيف وتل طويل وصولاً إلى تل هرمز وأم غرقان فارغة بشكل شبه كامل، قرية تل نصري لم يبق فيها سوى نبيل ووالدته من أصل نحو 240 عائلة».
ويضيف: «الأبواب مقفلة والمنازل مهجورة بعدما كانت قرى الخابور جنة الله على الأرض مع توافر مياه الخابور ونجاح زراعة البساتين فيها». ويُعرف آشوريو سوريا بكونهم مزارعين ماهرين، ويشتهرون بزراعة الأشجار المثمرة وخاصة العنب والتفاح.
منذ هروبها من قريتها تل هرمز في شباط 2015 لم تعد سارة شمعون (54 عاماً) إليها حتى بعد طرد التنظيم المتطرف منها. وبعد نزوح دام نحو 18 شهراً، فضلّت السيدة العودة للسكن في قرية أم غرقان التي تقابل قريتها على الضفة الاخرى للنهر. تبرر قرارها بالقول: «أريد أن أحتفظ بالصورة الجميلة التي كانت قريتي عليها، وبصور شوارعها التي كانت تنبض بالحياة، وأصوات الأطفال والفتيات والنساء والرجال، لا أرغب في مشاهدة الدمار وآثار الحرائق في أرجاء القرية».
تضيف بحسرة: «كانت حياتنا جميلة جداً، كنا نحو 130 عائلة في قريتي، ولم يبقَ سوى تسع عائلات باتت متوزعة في الحسكة وتل تمر، ونحن في أم غرقان، بقية العائلات هاجرت».
تعيش سارة مع ابنها وزوجته وحفيدها في منزل لأقاربهم في قرية أم غرقان، معتمدين على الزراعة مصدر رزق. لكنها تصف الحياة بأنها باتت «بشعة جداً بعد سفر كل أقاربي وأحبائي، حتى أولادي الأربعة هاجروا، لم يتبقّ لي حالياً هنا سوى ابني الكبير وزوجته وحفيدي، تشتت شمل أقاربي ولا أعتقد أنه سيلتئم مرةً أخرى».
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0