كمال شاهين
الصورة: (فوج إطفاء اللاذقية - فايسبوك)
لم تنطفئ النيران بعد، لا في الواقع، ولا في قلوبنا. نحن في اليوم الثالث لاندلاع حرائق في ما لا يقل عن ثمانين موقعاً حراجياً وغابيّاً في الساحل السوري وريف حمص الغربي وحماة، والخسارات لا حصر لها. سيارات الإطفاء والبلدوزرات وعمال الإطفاء والأهالي يقفون معاً، ثم انضّمت مروحيات الجيش في مواجهة حرائق ممتدة على مساحة لا تقل عن ربع سوريا.
شاركت الرياح في تحدي البشر والشجر، فزادت سرعتها حتى شعرنا بالهواء الساخن المحمّل برائحة الشجر المحروق في مدن اللاذقية وجبلة وطرطوس وبانياس. كان عدد منّا قادراً على مشاهدة النيران، أو لهيبها بأم العين، فيما تتدفق الصور ومقاطع الفيديو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتتدفق معها مئات الذكريات والحسرات.
يبذل رجال الإطفاء جهداً لا يقدّر بثمن ولا مكافأة على مساحات هذه الحرائق. يسقط من بينهم شهداء (الكلمة محفورة في محلّها فعلياً) ويصاب بعضهم بالاختناق، تحترق سيارات لهم وهم ينافحون بإمكانات بسيطة تقليدية في زمن الثورة التكنولوجية. فرق الإطفاء السورية تشارك كلها في العمليات. يحاول المجتمع المحلي الدعم ما أمكن، يقدّم الطعام لرجال الإطفاء، خاصة أن الحكومة وسائر الجهات التي تدور في فلكها لم تفطن إلى أن هؤلاء «فرطوا» من التعب والدخان والحرارة، فقدمت لكل واحد منهم سندويشة بطاطا!
احترقت قرى المزيرعة وياسنس والبدروسية والمشيرفة ووطى الضاهر وتشالما والحفة والعسيلية وزاما وبشيلي وبيت جبرو والستانية وكيمين والرويسة ومزرعة القاموع والمزينة ومعربو وبخضرمو وشين وجبل الحلو (اسمه الحلو) والقصير وحب نمرة ومرمريتا، والقائمة للأسف طويلة، وطويلة إلى درجة مهولة، وبذلك «أنجزنا المهمة» وسلّمنا الأجيال الجديدة جبالاً جرداء.
بعض الخسارات لا تُحسب بالذهب ولا المال ولا حتى بالبشر! لا، هذه ليست مبالغة، فما يحدث في سوريا نكبةٌ ستمتد آثارها لأجيال، هذه حقيقة مرّة. نحن كائنات أنانية إلى درجة تجعلنا «نأكل لحم أخينا ميتاً»، فهل يتوقف الأمر عند «شجرة لا نفع لها» مثل شجرة بلوط عمرها خمسمئة عام قطعها أحدهم لأنها تصلح لتكون «طقم كنبايات» لمكتبه الوزاري؟ أتحدث عن واقعة حقيقية.
«أشعة ليزر من الفضاء»!
هل نحن السبب؟ أم التغيرات المناخية؟ أم المؤامرة؟ أم «أشعة ليزر من الفضاء» ركّزتها «إسرائيل» على غاباتنا «انتقاماً من موقفنا تجاه ما يجري في غزة ولبنان»؟ هناك حقّاً من يقول هذا! يقترح آخرون نظرية مؤامرة بطريقة أكثر «واقعية» يربطونها بالفساد المستشري والمستشرس في سوريا: سيارات ترمي كتل نار مشتعلة في مختلف المناطق، وتنتقل بيسر وسلاسة. هناك من يتكلم عن شبهة جنائية بشكل رسمي.
يُستعاد هنا ما جرى في حرائق العام 2020 حين غطت الحرائق المحافظات ذاتها التي غطتها الحرائق الحالية وأعلنت دمشق أنّ «وراء الحرائق شبكة مخربين محليين مدفوعين من جهات خارجية». قيل لاحقاً إن أولئك الأشخاص أُعدموا، ولم يرشح شيء عن المحاكمات التي جرت.
بالطبع يمكن أن يلعب التغير المناخي (الناتج عن الفعل البشري تحديداً) دوراً مباشراً في حرائق الغابات، لكن لو كان هو السبب أكانت آثاره لتقتصر على سوريا وحدها دون غابات دول الجوار؟
ثمة تفصيل هنا ربما لعب دوراً لم يدرس في منطقتنا بعد (على ما نعرف) هي ظاهرة «تأيّن الجو»، وحدوث حالات تكهرب لدى ملامسة الأشياء في الساحل السوري. هذه الظاهرة حقيقية ومؤثرة على البيئة والناس.
نتذكر هنا فيضانات ليبيا الكارثية (أيلول/سبتمبر 2023) التي لم تشهدها هذه البقعة في تاريخها المسجل، وقد قدّمت دراسة علمية أكاديمية نشرت الشهر الماضي أسباباً مرتبطة بالأشعة الكونية التي قد تسبب تأيّن الجو، ورجّحت أن يكون أكثر من 60% من أسباب فيضانات اليونان وليبيا هي تلك الأشعة.
هل يكون لـ«تأيّن الجو» دور في الحرائق؟ هل تلعب الأنشطة العسكرية التي شهدتها البلاد سنوات طويلة، فضلاً عن آثار عن الحرب في فلسطين ولبنان في شرق المتوسط دوراً في هذا «التأيُّن»؟ لا يمكن افتراض جواب بدون دراسات وأبحاث حتماً، ولا يبدو أن هناك من يشغل باله بممارسات كهذه في «سوريا السعيدة».
ثمة اتهام بات متكرراً مع تجدد الحرائق في الغابات السورية لتجار الفحم، مفترضاً ضلوعهم في هذه الجريمة، بالطبع ليس بالإمكان التسليم بصحة هذا الاتهام بدون تحقيقات جديّة ونزيهة، لكن هل يمكننا انتظار تحقيقات كهذه في ظل وجود أسماء عملاقة تحتكر تجارة الفحم في الساحل السوري ولديها سلطة تتشابك مصالحها مع جهات ذات نفوذ أمني وسياسي كبير؟ علينا أن نكون «أعقل من هذا»، علينا أيضاً أن نشير إلى أن تجارة الفحم الطبيعي في الساحل السوري تنتج يومياً عشرات آلاف الدولارات لا الليرات، هذه ليست مبالغة على الإطلاق.
حماية.. وقاية؟
بعيداً عن كل هذه الاحتمالات التي تحتاج خبراء للبحث فيها (وهم بالمناسبة متوافرون في سوريا لكن لم يفكر أحد في الاستعانة بهم)، فلنذهب إلى منطق الحماية والوقاية والمسؤولية والوعي، وهذه المصطلحات الأربعة لا تتعلق بالأسباب المباشرة للحرائق (نسبة تفوق 90% من أسباب الحرائق مرتبطة بالجنس البشري) بل تتعلّق بالسبل الواجبة لحماية ورعاية الرئات السورية الباقية المليئة بدخان قذائف الحرب. هل فعلنا شيئاً للتقدم خطوة واحدة في مسألة وجودية كهذه؟
ينص قانون الحراج السوري على أن: «الجهة صاحبة الولاية على مواردها في حراج الدولة تتحمل مسؤولية تنظيف محيط مواردها». هذا يعني أنّ مديريات الزراعة ليست وحدها المسؤولة عن تنظيف الغابات من البقايا الشجرية، بل تشاركها المسؤولية جهات عديدة: مؤسسات الكهرباء مسؤولة عن تنظيف محيط محولاتها المزروعة في الغابات وغسيل الكبال المارة فوق الغابات سنوياً بالماء المالح دفعاً لحدوث تأّينات. تنظيف محيط الطرقات مسؤولية وزارة النقل. منع التحريق الزراعي والحماية عبر شرطة البلدية في هذه الظروف مسؤولية مدراء النواحي ورؤساء البلديات. مخافر الحراج التي سُمح لها بالتسلح في القانون الأخير مسؤولة أيضاً. والمواطن أيضاً مسؤول عن الإبلاغ عن أي حالة تعدي على الغابات والحِراج من قطع أو سرقة أو إشعال نار أو تفحيم. لكن حتى اليوم ليست لدينا آليات تبليغ بهذا الشأن سوى الاتصال باﻹطفاء!
هل يكون لـ«تأيّن الجو» دور في الحرائق؟ هل تلعب الأنشطة العسكرية التي شهدتها البلاد سنوات طويلة، فضلاً عن آثار عن الحرب في فلسطين ولبنان دوراً في هذا «التأيُّن»؟
في السياق ذاته، هناك توجيه من رئاسة مجلس الوزراء السوري ينص على «شق خطوط نار وطرق في المناطق الوعرة»، يبدو أنه ظل حبراً على ورق، أما الخطط الوزارية لجهة تنظيف خطوط النار فهي متواضعة حسب مصادر في كلية الزراعة بجامعة تشرين (اللاذقية)، وعدم توافر المحروقات هو الذريعة الدائمة.
هذا التكامل المطلوب من كل مؤسسات الدولة لم نشاهده على أرض الواقع منذ سنوات على الأقل (والنتائج هي البرهان الأصدق دائماً)، وغيابه يتضافر مع التقصير في باقي القطاعات ومع الفساد الذي يغمرها جميعاً، ومع عدم توافر الوقود اللازم للتدفئة واتجاه بعض السوريين إلى التحطيب مضطرين، ونشوء مافيات على مستوى عالٍ أكلت الأخضر قبل أن يصبح يابساً بفعل الحرائق المستمرة منذ العام 2011.
حقّاً «ما باليد حيلة»؟
هل نحلم بتحديث آليات الإطفاء العتيقة التي قدّمت جهداً يعجز عنه الكلام؟ يتطلب الأمر ببساطة إعادة تحديث خرائط الغابات والأحراش والمساحات الخضراء، وسؤال الذكاء الاصطناعي عن العدد المطلوب للوصول إلى تغطية هذه المناطق بسرعة قياسية!
ليست لدينا أموال لدفعها على هذه السيارات؟ فلنطلب سيارات «شحاذة» من بكين! (موسكو ليست كريمة). يراوح ثمن سيارة إطفاء جديدة بين خمسين و ثلاثمئة ألف دولار، لكن هناك سيارات إطفاء مستعملة يبلغ ثمن واحدتها (بدون مزاح) خمسة آلاف دولار أميركي! وكي لا نتذرع بالعقوبات الأميركية فإن سوق الإمارات ممتلئة بهذه السيارات.
أسهمت الحوّامات العسكرية في إطفاء الحرائق الأخيرة، ولكن هذه الحوّامات ليست مخصصة للإطفاء. هناك نماذج روسية شهيرة مخصصة للإطفاء مثل «بيريف بي إي -200/ Beriev Be-200» وهي طائرة برمائية لمكافحة الحرائق متعددة المهام تستعمل لأغراض مدنية تستطيع الإقلاع والهبوط من البر ومن على سطح الماء، ومجهزة للعمل ليلاً ونهاراً، (أرسلت موسكو واحدة منها للمساعدة في إطفاء حرائق تركيا العام الماضي)، وقد اقتنتها الجزائر قبل عامين، واستخدمتها، لكن لا يقل ثمن الطائرة الواحدة عن أربعين مليون دولار. هل من الممكن أن «نعمل لمّة» من أي مجموعة من حيتان المستوردين ورجال الأعمال المستفيدين جداً من الوطن؟
قبل قليل علمنا أن الحرائق توقفت، وأنها دخلت مرحلة التبريد. نرجو ألا ننتظر حدوث حرائق جديدة قبل أن نبادر جميعاً لفعل أي شيء، بل – وهذا أضعف الإيمان أمام ظروف كهذه – لفعل كل شيء.
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0