× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

الأرجنتين و«الحرب القذرة»: من العسكر اليساري إلى «المعسكر الإمبريالي»

عقل بارد - شعوب وحروب 28-11-2024

لم تكن إيزابيل بيرون شخصية قيادية، فشهد عهدها انهيارات متتابعة في الأرجنتين، وصولاً إلى أزمة دستورية مهّدت الطريق لعقد من عدم الاستقرار استمرت فيه حروب العصابات بين اليسار واليمين. كانت تلك الوصفة من المعارك بين رفاق الأمس من الوصفات التي تكررت كثيراً في مختلف الحروب الأهلية حول العالم بدعم من الدول الكبرى

الصورة: خوان بيرون وبجانبه زوجته إيفا -  By Revista Redacción (Argentina)-  Public Domain 

في مطلع تسعينيات القرن الماضي تلقت عائلة أمي المقيمة في الساحل السوري رسالة مكتوبة بلغة أجنبية لم يتمكن أحد في منطقتنا من فك شيفرتها، عرفنا فقط اسم المرسل لأنه كان مكتوباً بحروف عربية على الظرف الخارجي! 

أحلام الثروة التي دغدغت عقول أخوالي بسبب الرسالة الغامضة دفعت أحدهم للبحث عمّن يترجمها، ليكتشف أنّها مكتوبة بالإسبانية، أرسلها أحد أبناء جدّ أمي باحثاً عن معلومات عن أقاربه في منطقتنا لأنه تعب من الحياة في الأرجنتين ويرغب في العودة إلى مسقط رأس أبيه، وإكمال حياته بهدوء فقد بلغ من العمر سبعين عاماً.

كان الجد قد غادر على متن سفينة شحن أيام «سفربرلك» مطلع القرن العشرين إلى «الأرخنتين» كما كانت تسمى عندنا وقتها، مدفوعاً بإشاعات كثيرة، منها أنّ «في تلك البلاد جبالاً من الفضة تنتظر من يغرف منها»، (والفضة هو معنى اسم الأرجنتين باللاتينية). 

لاحقاً، انقطعت أخبار جدنا ولم تصلنا منه رسائل ولا ثروات، وظل أبي إلى أواخر حياته يتندر على أمي بأنّ كارلوس منعم (رئيس الأرجنتين بين 1989-1999) من أحفاد جدها، وأنّ بإمكانه مساعدتنا في الهجرة إلى هناك، ولم يكن كلام أبي بعيداً عن الصحة كثيراً!

وفق تلك الرسالة التي ما زلتُ أحتفظ بها، كان الجد - واسمه سليمان - من الحاشية البعيدة لوزير الشؤون العسكرية خوان بيرون/Juan Perón، الذي سيصبح رئيساً للأرجنتين العام 1946 بعد الحرب العالمية الثانية، وكان سليمان «أمين فرع» في حركة «البيرونية» التي أسسها الرئيس المنتخب، مقيماً في منطقة نائية تطل على المحيط الهندي.

بلازا دي مايو - 1955 / Alfredo Enrique De Lorenzo - فليكر

من بيرون إلى بيرون

في تواصلات لاحقة مع الحفيد عرفنا أن جد أمي عاش زمنه مؤمناً بما قام به خوان بيرون من أعمال اقتصادية أمّم فيها الصناعات الاستراتيجية والخدمات ورفع الأجور ووصل وقتها إلى ما يقارب معدل «صفر بطالة». في العام 1947 مُنحت المرأة حق التصويت في الانتخابات بفضل اشتغال زوجة الرئيس (الثانية) إيفا بيرون التي منعها تدهور حالتها الصحية من الترشح لمنصب نيابة الرئيس، قبل أن تتوفى بالسرطان العام 1952. 

ولكن كالعادة، كانت الولايات المتحدة تراقب ما يجري، وحضر العسكر الخاسرون في التأميم ليكونوا حربةً ضد الرئيس العسكري المنتخب، فبدأ الجيش في رسم مخطط ضد بيرون العام 1955، وقصف ساحة مايو (بلازا دي مايو) مستهدفاً مقر الحكومة في محاولة فاشلة لقتله راح ضحيتها عدة مئات من القتلى. وبعد بضعة أشهر، حصل انقلاب عسكري دفع بالرئيس المنتخب للاستقالة ومغادرة البلاد إلى إسبانيا.

شهد العقد التالي ـ الستينيات ـ عشرات الانقلابات العسكرية في الأرجنتين، مع حظر الحزب البيروني ومنعه من الترشح في الانتخابات العامة، وبقيت الحال هكذا حتى مطلع السبعينيات حين تم تعيين أليخاندرو أغوستين لانوس رئيساً من قبل المجلس العسكري تحت الضغط السياسي المتزايد من أجل عودة الديمقراطية، ولهذه الغاية دعا لانوس إلى إجراء انتخابات العام 1973.

مُنع بيرون من الترشح دون سبب قانوني ولكن سُمح لحزبه بالمشاركة وحقق الفوز بالرئاسة مرشحه اليساري البديل هيكتور كامبورا، وحين تولى منصبه في 25 أيار 1973 سمح لبيرون بالعودة لبلاده، وتبعت ذلك مراسيم رئاسية بالعفو عن أعضاء منظمات يسارية نفذت اغتيالات سياسية وهجمات «ثورية» في الستينيات، كما منح الرئيس عفواً لأولئك الذين حوكموا وحكم عليهم بالسجن من قبل القضاة في العقدين الماضيين، لكن كل هذه اﻹجراءات لم تكن كافية. 

باب يؤدي إلى قبر إيفا بيرون في إحدى مقابر بوينس أيريس

في رئاسة كامبورا القصيرة الأمد، حدث أكثر من ستمئة إضراب واحتلال للمصانع، بعد ازدياد التضخم النقدي في البلاد والتراجع عن السياسيات البيرونية في المصانع والمعامل، رغم أن المنظمات البيرونية اليسارية علّقت نضالها المسلح، وانضمت لعملية الديمقراطية التشاركية.

في تموز 1973 استقال كامبورا ونائبه ودُعي إلى انتخابات مبكرة، مع السماح لبيرون بالمشاركة فيها مرشحاً عن حزب العدالة. وفي انتخابات شهدت مشاركة كبرى فاز بيرون ونائبته بولاية جديدة، لكن لم ينجح الرئيس التاريخي للبلاد بإيقاف الصراع بين الجماعات اليسارية واليمينية داخل الحزب البيروني، فضلاً عن انتشار حرب العصابات في البلاد مع إنشاء جيش الشعب الثوري، والجيش البيروني اليساري، وجماعة (Triple A) اليمينية المتطرفة المدعومة من الدولة (ميلشيا مسلحة). 

في الأول من تموز 1974 توفي بيرون عن عمر ناهز الثامنة والسبعين، وبعد وفاته خلفته زوجته (الثالثة) ونائبته إيزابيل بيرون في المنصب. وحتى العام 1976 عندما أطاح بها الجيش سيطر المجلس العسكري مع الفصيل اليميني للحزب البيروني على البلاد. 

لم تكن إيزابيل شخصية قيادية، ما أدى إلى انهيار متتابع في الأرجنتين، وقاد إلى أزمة دستورية مهّدت الطريق لعقد من عدم الاستقرار استمرت فيه حروب العصابات بين اليسار واليمين، وكانت تلك الوصفة من المعارك بين رفاق الأمس من الوصفات التي تكررت كثيراً في مختلف الحروب الأهلية حول العالم بدعم من الدول الكبرى ومنها وقتها الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة.

الدكتاتورية تتمدد في البلاد

في العام 1974 الذي أصبحت فيه إيزابيل بيرون رئيسة للأرجنتين، كان وزير الرعاية الاجتماعية خوسيه لوبيز ريجا، قد نظم بالفعل فرقة الموت اليمينية المتطرفة المعروفة باسم «التحالف الأرجنتيني المناهض للشيوعية» (AAA، أو Triple A). في العام 1975 وقعت إيزابيل بيرون ولاحقاً بديلها إيتالو لودر أربعة مراسيم تمنح الجيش والشرطة سلطة «إبادة العناصر التخريبية» اليسارية.

مع استيلائها على السلطة السياسية في انقلاب آذار/مارس 1976 عملت القوات المسلحة الأرجنتينية على تأسيس دكتاتورية عسكرية استمرت حتى العام 1983، وبدعم مباشر من الولايات المتحدة والدول الغربية ومعها الكيان الصهيوني. وتعرف هذه المرحلة باسم (الدكتاتورية الأخيرة) لأنها كانت آخر ديكتاتورية حكمت البلاد لكن آثارها مستمرة حتى بعد مضي نصف قرن.

تبنت تلك الدكتاتورية ما أسمته (عملية إعادة التنظيم الوطنية) (بالإسبانية: Proceso de Reorganización Nacional)، وغالباً ما تُعرف ببساطة باسم (el Proceso، «العملية») أو عمليات كوندور (وهو اسم طائر أميركي جنوبي يربط مع الأسطورة المحلية كحارس لمدن الذهب الغامضة)، وهدفها الأوحد إلغاء جميع مظاهر السياسة في المجتمع الأرجنتيني وتبني الوصفة الأميركية في الاقتصاد الليبرالي المقاد من قبل الرأسمال العالمي بالتواطؤ مع الرأسمال المحلي.

Nosotros no sabíamos | León Ferrari

لم تقتصر عمليات كوندور على الأرجنتين فحسب بل شملت تقريباً معظم بلدان أميركا اللاتينية عقد السبعينيات والثمانينيات التي كان واضحاً أنها بصدد التحول إلى قارة يسارية، وعليه فقد استهدفت العمليات العسكرية وغير العسكرية الطلاب والمقاتلين والنقابيين والكتاب والصحفيين والفنانين وأي مواطن يُشتبه في كونه ناشطاً يسارياً، كما شملت قوائم المختفين أولئك الذين يُعتقد أنهم يشكلون تهديداً سياسياً أو أيديولوجياً للمجالس العسكرية في القارة الأميركية الجنوبية، حتى ولو بشكل غامض، أو أولئك الذين يُنظر إليهم على أنهم مناوئون للسياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة التي تمليها عملية كوندور.

بالنسبة للأرجنتين، وللمؤسسة العسكرية التي استولت على السلطة في انقلاب مارس/آذار 1976، كان إطلاق مثل هذا المشروع للتحول الشامل يتطلب إعادة إرساء النظام بشكل أولي، وكان عنف الدولة هو الوسيلة المفضلة لإعادة تشكيل العلاقات القائمة بين الدولة والمجتمع، ولأجله، جعلت القوات المسلحة هدفها المركزي هزيمة «التخريب»، وهي تسمية استخدمتها لتصنيف أنشطة جميع من يوصفون بأنهم «أعداء» النظام. 

رفعت السلطة العسكرية نفسها إلى مصاف اعتبارها تجسيداً «للجوهر الوطني»، الذي كانت مهمته «شفاء» مجتمع معرض لخطر التقطيع بنظرها (السلطة). وتحقيقاً لهذه الغاية، استخدمت أجهزةً قمعية معقدة في مهام قتالية حربية حوّلت الجيش الوطني إلى أداة قمعية بوسائل حربية. وهكذا أصبح التدخل العسكري في «الحرب» ضد «التخريب» الهدف الأسمى، وأحد المصادر الأساسية لشرعنة النظام في الوقت نفسه، وهذه الوصفة ثبت أنها صالحة لكثير من دول العالم حتى اليوم.

بالإضافة إلى ذلك، نشرت الدولة العسكرية مجموعة من آليات الضبط الاجتماعي، كان الهدف منها تعديل القيم والممارسات الفردية والجماعية، التي غطّت جميع مجالات العلاقة بين الدولة والمجتمع، بدءاً من التعليم إلى وسائط الإعلام الجماهيرية. ومع ذلك، فإن هذا التنظيم، الذي فرضه النظام العسكري من الأعلى على مجتمع متنوع لم يعتمد على الإرهاب فحسب، بل اعتمد أيضاً على وجود دعم اجتماعي وسياسي للنظام كان واضحاً بشكل خاص في مراحله الأولى وانتماء هؤلاء الداعمين للمجموعات الثرية التي خسرت امتيازاتها في عمليات التأميم.

خلال هذه السنوات عُلّق عملَ الكونغرس والحياة الديمقراطية، كما حُظرت الأحزاب السياسية، وقُيدت الحقوق المدنية، وبالضرورة اعتمدت سياسات السوق الحرة وألغيت القيود التنظيمية المفروضة من الدولة على الاستثمار في الثروات العامة للبلاد، وبدأت حملات اضطهاد هائلة ضد اليساريين والبيرونيين.

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها

This work by SOT SY is licensed under CC BY-ND 4.0