زينة شهلا - كاتبة ضيفة
الصورة: من أحد لقاءات مجموعة «زنبق اللاذقية للسلم الأهلي» / المعتصم الكيلاني - فايسبوك
«مسؤولية مشتركة»، هي العبارة التي اختار القائمون على مجموعة «السلم الأهلي في حمص» افتتاح أحد بياناتهم الأخير بها، وهم يتحدثون عن «ضرورة تعزيز السلم الأهلي في سوريا، ومحاولة التصدي لأية انقسامات أو انتهاكات تحدث اليوم في البلاد وتقوّض العيش المشترك»، ونحن على أعتاب انقضاء الشهر الأول بعد سقوط نظام بشار الأسد.
هذه المجموعة التي أنشئت قبل «السقوط» بيومين، أي مع تقدم قوات المعارضة المسلحة باتجاه محافظات سوريا الوسطى، تسعى بأدوات مختلفة وبمشاركة كل الأطراف الفاعلة الممكنة، لاحتواء حالات التوتر الطائفي والعنف التي باتت متزايدة في محافظة حمص على وجه الخصوص، والدفاع عن سلامة ووحدة السوريين. وهي ليست الوحيدة، إذ نرى على امتداد البلاد محاولات منظمة أو غير منظمة، لتعميم أهمية العمل على السلم الأهلي بوصفه أولوية قصوى اليوم.
المئات في مواجهة الخطر
منذ الأيام الأولى لسقوط النظام السابق في الثامن من الشهر الحالي، شهدت العديد من المناطق السورية حوادث اعتداء وانتقام، تضمنت أحياناً تصفيات، بعضها طاول شخصيات كانت متورطة بارتكاب جرائم خلال حكم النظام السابق كالاعتقال والتعذيب والاعتداء على الحقوق والملكيات وغيرها، إلى جانب إغلاق بعض الأحياء أمام دخول وخروج السكان. قد يصعب التحقق من خلفية جميع هذه الحوادث وحيثياتها وهويات مرتكبيها مع انتشار الفوضى، لكن المؤكد أن العديد من حالات الانتقام وتصفية الحسابات على اختلافاتها، حدثت وما زالت تحدث، بوتيرة متفاوتة بين يوم وآخر وبين محافظة وأخرى.
مع إدراك خطورة الأمر وأيضاً وجود حيّز متاح لمحاولة التصدي له، أنشأ علي ملحم، وهو طبيب جرّاح وناشط في العمل السياسي من مدينة حمص، مجموعتين للتواصل عبر «فايسبوك» و«واتساب» تحت عنوان «السلم الأهلي في سوريا (حمص)»، وسرعان ما انضم إليها المئات من داخل سوريا وخارجها، ما بين وجهاء وشخصيات مدنية عابرة للطوائف تمثل أطياف المجتمع، وناشطين وناشطات في مختلف المجالات.
«السبب الأساسي لإنشاء المجموعة خوفنا من تأجج صراع طائفي في حمص شبيه لما حدث العام 2011. هي محاولة لتجميع الناس، خاصة ممن يفتقرون إلى وجود طرف يمثلهم، وخلق قناة تواصل وحوار بينهم وبين الإدارات السياسية والعسكرية الجديدة لإزالة حالة الخوف بين الطرفين، ومنع حدوث أي تجاوزات وتصفيات غير مبررة، وتوثيق أي انتهاكات وإيصال شكاوى بشأنها بغرض معالجتها»، يشرح ملحم المقيم في ألمانيا لـ«صوت سوري».
بعد أيام قليلة تنظّم عمل المجموعة نوعاً ما، فانبثق عنها فريق إعلامي وآخر لتوثيق الانتهاكات وثالث لتنفيذ مبادرات مثل تنظيف الشوارع والدعم النفسي وغير ذلك، وفُتحت قنوات تواصل مباشر بين الناس في بعض الأحياء وبينهم وبين والإدارة الجديدة، سواء وجهاً لوجه أو هاتفياً، كما أنشئت مجموعات مشابهة للغرض ذاته في محافظات أخرى مثل طرطوس.
يؤكد ملحم أن الهدف الأسمى للمجموعة هو محاولة تعزيز السلم الأهلي، وفتح قنوات حوار بين أطراف المجتمع المحلي في حمص، للانتقال من حالة هويات ما قبل وطنية سواء كانت طائفية أو عرقية، إلى هوية وطنية جامعة تسمح للناس بالعيش معاً وبسلام في وطن واحد، وبلغة الحوار لا السلاح، «لكن حتى الآن وللأسف لم نتمكن من عقد لقاء بين أهالي الأحياء كلها وتقريب وجهات النظر»، يضيف.
حوارات ومبادرات
قبل أيام كتب الصحافي والناشط المجتمعي كمال شاهين المقيم في مدينة اللاذقية على صفحته على فايسبوك: «تعقيباً على ما جرى في بسنادا، حارتي، نجح وعي الناس الرائعين هنا في تجاوز حفلة جنون طائفية كان متوقعاً لها الاندلاع فيما لو تمت عملية قتل الشخص المخطوف من منطقة الصليبة، إضافة إلى تجاوب عناصر الأمن العام مشكورين. الصدفة والحظ والمراقبة ساهمت في منع الاشتعال، وندعو الأهالي جميعاً للمراقبة والحذر على مدار الساعة. الشك والحذر وإعلام الجهات المعنية ضروري لتحقيق أمان الجميع. تحية لكل شباب ورجال بسنادا ولوعيهم العالي المستوى».
أطلقت مؤسسة «موج» في مدينة النبك مشروع «جبر الضرر» لدعم ضحايا الحرب وعائلاتهم من مختلف الأطياف، والبدء بعقد جلسات حوار حول العدالة الانتقالية مع مجموعات من النساء في مدينة مصياف
لعلها حادثة بسيطة، لكنها تظهر مدى اهتمام الناس على مدار الساعة بالتصدي لكثير من الحوادث التي قد تتطور «إلى ما لا تحمد عقباه». وهنا يشير شاهين في حديث مع «صوت سوري»، إلى أن عشرات الشبان والشابات في اللاذقية يعملون اليوم بوصفهم قاعدة مدنية على طرح العديد من المشكلات والحوادث مع القيادة العسكرية والسياسية، لنزع فتيل أي توترات محتملة.
ويضيف: «عقدنا عشرات الاجتماعات مع القيادة الجديدة وبحضور أهالي المدينة، ونعمل على طرح قضايا مطلبية عاجلة قد يسبب غيابها توتراً في الشارع مثل دعم توافر الخبز، وأخرى على المدى الأطول مثل إمكانية تحقيق نوع من العدالة الانتقالية بما يحقق العدل للجميع، باعتبار أن كل أطراف الصراع السوري متهمة بارتكاب انتهاكات متفاوتة».
يرى شاهين أن هذه المبادرات - على أهميتها - ما زالت حتى اليوم محدودة وضعيفة، خاصة مع وجود قوى مختلفة في الشارع، مثل المنخرطين مع أجهزة النظام القديم، وهي تؤثر على العلاقة مع السلطات الجديدة وتسبب توترات مجتمعية متعمدة.
رصدنا مبادرات سلم أهلي أخرى على نطاق محلي، مثل عزاء أقامته مجموعة من النساء في مدينة جبلة للضحايا الذين قُتلوا في سجون النظام، مع إصدار بيان ختم بعبارة تضامن: «نحن كنساء من منطقة جبلة، نمد أيدينا إلى نساء من مختلف المناطق والطوائف، لنؤكد أن صوتنا الواحد أقوى، وأننا معاً نستطيع المطالبة بحقوقنا المشتركة في حياة كريمة وآمنة يسودها السلام المستدام».
فيما أطلقت مؤسسة «موج» في مدينة النبك بالقلمون مشروع «جبر الضرر» بهدف دعم ضحايا الحرب وعائلاتهم من مختلف الأطياف، والبدء بعقد جلسات حوار حول العدالة الانتقالية مع مجموعات من النساء في مدينة مصياف بريف حماه.
هل من أثر ملموس؟
قد يصعب قياس أثر هذه المبادرات بشكل دقيق، لكنّ علي ملحم يشير إلى أن «مجموعة السلم الأهلي في حمص تمكّنت في الأيام الأولى لإنشائها من طمأنة كثير من العائلات التي غادرت حمص مع تقدم قوات المعارضة المسلحة، أو كانت تنوي المغادرة نتيجة الخوف من المستقبل المجهول، وبالفعل عادت إلى منازلا مع معرفتها بأن الوضع على ما يرام».
علاوة على ذلك، ومع استمرار جهود أعضاء المجموعة بشكل يومي لتوفيق وجهات النظر، يسعى ملحم إلى «إقامة حوار سلم أهلي فعال وشامل، بحضور عسكريين وإداريين وسياسيين ووجهاء من المجتمع الحمصي، وبوجود جمهور من مختلف الأحياء، للحديث عن المرحلة السابقة والحالية والمستقبلية لشكل سوريا والعيش المشترك بين الناس، لكن حتى الآن لم تحصل الفكرة على موافقة نهائية من السلطات».
تواجه المبادرة تحديات تتمثل بانفجار بعض حالات الاحتقان كما حدث منذ أيام مع نشر مقطع فيديو يعود تاريخه إلى نحو شهر، ويظهر حرقاً لمقام «الشيخ يبرق» في حلب، الذي يحظى بمكانة روحية لدى أبناء الطائفة العلوية، ما قوبل بخروج مظاهرات تستنكر الحدث في العديد من المدن السورية، وتأجيج حالة جديدة من الاحتقان. وهنا يقول ملحم: «أصدرنا بياناً يوضح الحادثة ودعونا للتهدئة وشجب الخطاب الطائفي المسيء، لكن هذه الحادثة عقّدت الوضع أكثر وزعزعت السلم الأهلي الهش أساساً، خاصة مع وجود كثيرين ممن انخرطوا في صفوف النظام السابق وما زالوا يحملون أسلحة يرفضون تسليمها، وقد يكون الأمر مفهوماً لكن أشخاصاً آخرين سيدفعون ثمن ذلك نتيجة ضغوطات أمنية بدأت تُمارس على أحياء بعينها، ونخشى أن تدخل مدينة حمص وريفها في صراع مبني على الطائفة وليس الهوية السياسية».
بدوره يتحدث كمال شاهين عن تحديات مرتبطة بالتواصل مع القيادات الجديدة نتيجة ضعف الحوكمة وعدم وضوح كيفية التعاطي معها وآليات عملها في كثير من الأحيان، «فهي تعمل ضمن المتاح بدون بُعد نظر مستقبلي»، وفق تعبيره، إلى جانب حوادث استفزاز من قبل عناصر «هيئة تحرير الشام» جعلت الناس يتوجسون ويحذرون مما هو قادم. أما التحدي الأكبر برأيه فهو مرتبط بالوضع الاقتصادي المتردي: «في حال تحسن الأحوال الاقتصادية سيخف الاحتقان، فاليوم نرى حوادث سرقة مرتبطة بالبحث عن لقمة العيش، ونحن على حافة جوع حقيقي»، يضيف.
ويرى شاهين أن «كل هذا يظل عملاً آنيّاً بأثر محدود يهدف لتخفيف الاحتقان، لكنه لا ينزع فتائل انفجار محتمل في أي لحظة. المطلوب عملية انتقال سياسي على قاعدة واضحة تضمن مشاركة الجميع في صناعة المستقبل السوري، وليس الاحتفاظ بلون واحد فقط كما هو حال تعيينات الحكومة الحالية التي تدفع الناس للتوجس من القادم. نحن بحاجة عقد اجتماعي جديد على رأس بنوده المحاسبة ومعاقبة كل من كان مساهماً في حصول الشرخ بين السوريين، وإعادة تفعيل الهيئات القضائية والشرطية بشكل عاجل ولو باستخدام الأدوات القديمة، فغياب الشرطة والقضاء يخلق كثيراً من المشكلات، وبعض الناس لا يثق بعد بإجراءات الهيئة».
بدوره يأمل ملحم أن تُعمم تجربة «مجموعة حمص» على كامل سوريا، وأن يجري التشبيك والتواصل مع أشخاص آخرين راغبين بخلق مجموعات مماثلة يمكن أن تجتمع في لقاء موسع لاحقاً، وأن تنشأ قنوات حوار مفتوحة تعزز السلم الأهلي.
يختم بقوله: «حتى بعد المرحلة الانتقالية نحن بحاجة لذلك، كي نعيش في مكان لا نعرّف أنفسنا فيه بهوياتنا الطائفية والعرقية، وإنما بكوننا أهل البلد، سوريين بهوية وطنية جامعة. هذا ما أتمناه، فهل يتحقق؟».
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work by SOT SY is licensed under CC BY-ND 4.0