زينة شهلا - كاتبة ضيفة
الصورة: (بقايا كنيس جوبر - كانون الثاني 2025/صوت سوري)
لا يتطلّب الطريقُ أكثر من عشر دقائق للوصول بالسيارة من وسط دمشق إلى مشارف حي جوبر شمال شرق المدينة، ومعاينة مشهد مهول من الدمار الممتد على مساحات شاسعة.
في الشهور الأولى للاحتجاجات السورية في 2011 كان «جوبر» مسرحاً لحراك سلمي لافت سرعان ما قوبل بالعنف من قبل قوات النظام السابق، وشيئاً فشيئاً تحول الحي ساحة معارك عنيفة امتدّت بين العامين 2012 - 2018، ثم قضى اتفاق بإيقاف العمليات العسكرية وإخلاء المقاتلين نحو الشمال السوري.
تشير تقديرات محلية إلى أن نسبة الدمار في حي جوبر الذي يمتد على مساحة 2.5 كم مربع تقريباً قد تبلغ 90 بالمئة، ما بين مبانٍ مدمرة بالكامل وأخرى مدمرة جزئياً. لا تصعب ملاحظة ذلك عند التجوال في شوارع وأزقة تحولت إلى ما يشبه مدن الأشباح، وضاعت معظم ملامحها نتيجة القصف المكثف على مدار سنوات بمختلف أنواع الأسلحة.
قبل العام 2011 قارب عدد سكان «جوبر» نحو 300 ألف نسمة، كانت تقطن مزيجاً من أبنية حديثة وأخرى قديمة (دور عربية) راحت أعدادها تتناقص عاماً تلو الآخر مع التحديثات العمرانية. اشتُهر الحي بكونه مجالاً حيويّاً لا سيّما مع احتوائه أسواقاً تجاريّة أبرزها «سوق المانطو»، ومحالّ بيع الأدوات المنزلية، فضلاً عن بعض المعالم التاريخية، وعلى رأسها الجامع الكبير والحمام القديم وكنيس إلياهو هانابي.
طال الدمار كل هذه المعالم دون استثناء.
جامع جوبر الكبير
يسمى أيضاً الجامع العمري. من أقدم جوامع الحي وأكبرها، وله أهمية استثنائية لدى سكان الحي خاصة مع موقعه في منطقة حيوية سكنية وتجارية. تشير بعض المراجع إلى أنه «كان معبداً وثنياً ثم ديراً مسيحياً ثم تحول إلى جامع مع بداية عهد الفتح الإسلامي في دمشق».
تصف المراجع جامع جوبر الكبير بأنه «حسن البناء»، مع وجود أعمدة أثرية وأسقف خشبية ومئذنة قديمة وأقواس حجرية سوداء. يُعرف الجامع أيضاً باسم «جامع الأصمعي» لوجوده على مقربة من مقام الأصمعي الذي يعتقد أن العلامة اللغوي الشهير عبد الملك الأصمعي قد دفن فيه، ويُعرف الشارع بأكمله بـ: شارع الأصمعي.
تعرّض الجامع لدمار كبير في السقف والواجهات، وتمتلئ اليوم باحته وأرضياته بالركام، كما دمر الجزء العلوي من المئذنة.
كنيس جوبر (أو كنيس إلياهو هانابي)
على مر العقود عُرف حي جوبر بكونه واحداً من أكبر تجمعات اليهود السوريين، يُقدّر أن تاريخ بناء كنيس جوبر يعود إلى أكثر من 700 عام قبل الميلاد، وهو واحد من أقدم المعابد اليهودية في العالم.
كان الكنيس فخماً للغاية وفيه أثاث وثريات ولوحات وسجاد فاخر، ونسخ قديمة من التوراة ومخطوطات وكتب قيّمة، وقد رُمّم مرات عديدة خلال حقب مختلفة.
يضمّ الكنيس مقام النبي إلياس أو إلياهو، ويُعتقد أنه هرب من الاضطهاد والتجأ إلى مغارة في تلك المنطقة، للمقام مكانتُه لدى المسلمين من مختلف الطوائف أيضاً، استناداً إلى رواية تقول إنه أنه مقام الخضر (مار جرجس)، وبذا ينسحب الأمر على المسيحيين.
حتى اليوم يستذكر أهالي الحي قدوم العشرات من يهود دمشق للصلاة في الكنيس يوم السبت من كل أسبوع، قبل أن تتغير الأحوال قبل نحو أربعين عاماً، مع التناقص التدريجي لأعداد اليهود السوريين. «كانوا يأتون في حافلة كبيرة، يقفون عند بداية الشارع، ويخلعون أحذيتهم فيمشون حفاة نحو الكنيس دلالة على الاحترام والتبجيل»، يحدثنا أبو سليمان وهو رجل ستيني من أهالي جوبر.
دُمر الكنيس من جرّاء القصف المستمر على الحي، ونُهبت كل محتوياته على مراحل، سواء من قبل بعض مقاتلي النظام السابق، وبعض مقاتلي الفصائل المعارضة، وحتى بعض الأهالي.
اليوم يكاد ما بقي من الكنيس يقتصر على حجر رخامي على الواجهة كُتب عليه «كنيس ومقام سيدنا الخضر عليه السلام، 720 قبل الميلاد»، وبقايا بعض الجدران والأسقف. كما دمرت مدرسة «الأونروا» الواقعة بجانبه.
الحمام القديم
يعود تاريخ بناء الحمام القديم في حي جوبر إلى العهد العثماني، وكان يحتل مساحة كبيرة ويحوي جميع أقسام الحمام التقليدية. يستذكر أهالي الحي ارتيادهم الحمام بشكل دوري قبل اندلاع الحرب، لا بقصد الاستحمام فحسب، وإنما لطقوس اجتماعية وتراثية طبعت حياة الحي وسكانه عقوداً طويلة.
دُمّر الحمام بشكل شبه كامل نتيجة القصف، ولم تبقَ سوى أجزاء من واجهته الأمامية.
ترب وزوايا وجوامع
يضم حي جوبر العديد من المعالم المهمة الأخرى التي تعود إلى حقب مختلفة، مثل «التربة» أو المقبرة وهي من أقدم مقابر دمشق، وجوامع السادات والتقوى والتوحيد وحذيفة بن اليمان والعمادية، والزاوية الرفاعية، وقهوة الخرار، وغيرها، علاوة على البساتين والطواحين الأثرية. اليوم، لا نكاد نجد أياً من هذه المعالم على قيد الحياة.
بعد سقوط النظام السابق في 8 كانون الأول/ديسمبر الماضي، نشطت عودة بعض أهالي جوبر لتفقّد منازلهم ومعاينة أحوالها. بعضهم كان مهجّراً نحو الشمال السوري أو خارج البلاد، وآخرون كانوا نازحين داخل سوريا لكنهم ممنوعون من دخول الحي «لاعتبارات أمنية».
نراقب بعض العائدين يتجولون في الحي، تبدو الصدمة جلية على وجوههم، ويملأ الحزن ملامحهم وعيونهم وهم يبحثون عن بقايا ممتلكاتهم، ويستعيدون ذكريات مكان ولدوا وعاشوا وشكّلوا كل ذاكرتهم فيه، وفيه أيضاً فقدوا أحباباً وأقارب طوال سنوات الحرب.
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0