كمال شاهين - كاتب ضيف
الصورة: (أرشيف صفحة وزارة النقل على فايسبوك)
«كلما نظرت إلى البحر، شعرت بأنني سجين اليابسة. كان البحر مصدر رزقي، والآن انتظر إذن موظفي الإدارة الجديدة لإطعام أسرتي»»، يقول محمد (اسم مستعار بناء على رغبته)، وهو بحار سوري يبلغ من العمر 45 عاماً.
رغم خبرته التي تجاوزت عقدين في العمل على سفن الشحن الدولية، لا يستطيع محمد مغادرة ميناء اللاذقية، والسبب إشارة حمراء على شاشة الحاسوب في إدارة الهجرة والجوازات تُظهر أنه «ممنوع من السفر».
هذه الإشارة، وضعتها الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السابق وما زالت سارية المفعول حتى اليوم. فرغم سقوط النظام، لم تُرفع القيود عن محمد وعشرات البحارة الآخرين الذين استقالوا من سلك البحرية العسكرية السورية قبل سنوات.
«نحن لسنا مطلوبين لأي جهة قضائية، ومع ذلك ممنوعون من السفر وهذا يهدّد مستقبلنا»، يؤكد الرجل الذي كان قادراً على «خرق الحظر» في ظل نظام السابق بعد رشوة ضباط في الأمن للحصول على تصاريح سفر مؤقتة تمنح لعدد من السفرات.
وصمةُ الاستقالة
يشرح بحار آخر (طلب أيضاً عدم ذكر اسمه) أنّ المنع علامة رقمية في قاعدة بيانات إدارة الهجرة والجوازات، التي ترتبط بجميع المنافذ البرية والبحرية والجوية، وقد فرضتها الأجهزة الأمنية السابقة بعد استقالة البحارة من البحرية العسكرية ـ وهي جهة تتبع وزارة الدفاع ـ.
استقال هؤلاء البحارة من الجيش السابق في مراحل مختلفة، بعضهم قبل العام 2011 وبعضهم بعده. منهم من كانوا ضباطاً بحريين، ومنهم من شرائح مهنية أخرى، وفضل جميعهم الاستقالة والتحول إلى عمال وفنيين في السفن التجارية. يوضح أحدهم أنّ عمله على سفينة شحن للمواشي كان يعود عليه بنحو 800 دولار أميركي شهريّاً «تعيش من ورائها أربع عائلات».
تتطلب العقود البحرية سرعة الالتحاق بالعمل إذ تواجه الشركات غرامات في حال تأخر وصول الطاقم، عادةً ما تعطي الشركات الفرص لبحّارة جاهزين للسفر لخفض تكاليف المكوث في المرافئ
ومع منع العديد منهم من السفر رسمياً أيام النظام السابق بذرائع «أمنية» غامضة، كانت الرشوة تحل الأمور عبر استصدار تصاريح سفر مؤقتة، مع بقاء حظر السفر مفروضاً. ساهم هذا النظام الغامض بعدم وجود مسار قانوني واضح لرفع الحظر بشكل دائم. يتذكر فارس، أحد أفراد طاقم سفينة ترسو اليوم في مرفأ اللاذقية: «بدون تلك الأوراق، لم أكن لأتمكن من العمل. لكن كل رحلة كانت تبدو وكأنها مقامرة. مع ذلك لم يكن صعباً تجديد الأوراق طالما هناك أخضر (في إِشارة إلى الدولار)».
سقط النظام.. استمرّ المنع
عقب سقوط النظام السابق تقدم البحارة بطلب رسمي إلى إدارة الهجرة والجوازات في دمشق لإلغاء المنع، ورفع حظر السفر بشكل نهائي، لكن التفاؤل الأولي تلاشى. حُوّلت طلباتهم إلى الأمن الداخلي، الذي رد بملاحظة غامضة: «للتريث».
يقول محمد: «لم نتلقَ رفضاً، لكن 'التريث' يعني أننا عالقون في دائرة الانتظار، والوقت ليس في صالحنا. العقود الدولية لا تنتظر، وكل يوم تأخير يُكبدنا خسائر فادحة».
لم توضح السلطات الجديدة للبحارة ما هي المدة الزمنية المتوقعة لـ«التريث» وما هي آلية الاعتراض على استمرار المنع. يقترح البحارة حلولاً مؤقتة مشابهة للحلول السابقة: إعطاء تراخيص مؤقتة للسفر، ولكن هذه المرة «بدون رشوة».
من الناحية القانونية يلاحظ محامٍ من اللاذقية أنّ «قوانين منع السفر في سوريا لم تُلغَ رسمياُ، وما جرى هو رفع منع السفر الصادر عن الفروع الأمنية بما يخص شرائح من السوريين المطلوبين لهذه الفروع، ما يمنح البيروقراطيين سلطة تقديرية».
«الأجهزة الأمنية سقطت، لكن قراراتها ما زالت تُنفذ»، يقول أحد البحارة لـ«صوت سوري».
الاعتباطية سيدة الموقف
قبل أيام من نشر هذا التحقيق، نجح أحد البحارة الممنوعين من السفر في المغادرة عبر أحد المنافذ البرية إلى دولة مجاورة، بموجب موافقة سارية المفعول معطاة له من زمن النظام السابق. وعلى عكس هذه الحالة في مقلب آخر، اختفى بحّار آخر عند محاولته المغادرة عبر معبر نصيب مع الأردن، وانقطع التواصل معه يوماً كاملاً، ثم ظهر أخيراً، وتبيّن توقيفه والتحقيق معه وإعادته من حيث أتى، وبذلك، ضاع عليه عقد العمل الذي دأب ودفع الجهد والمال والوقت ليحصل عليه على متن سفينة تنتظره في ميناء العقبة، ما يعني ضرراً للشركة المالكة السفينة أيضاً، وتشويهاً لسمعة الشاب المهنية.
لم تنشر الإدارة الجديدة بعد إرشادات محدثة تنطبق على كل معابر سوريا الحدودية، الأمر الذي يسمح بتطبيق غير متكافئ كما جرى مع البحارين.
يقول المحامي: إن «التريث ليس مصطلحاً قانونياً بقدر ما هو ناتج عن عدم معرفة لدى القائمين على السلطة الجديدة بالقوانين السورية السابقة».
هذا التناقض يثير تساؤلات حول شرعية استمرار صلاحية قرارات أجهزة أمنية لم تعد موجودة أصلاً، وما هو مدى التزام السلطات الجديدة بمحو تركة النظام السابق. وأخيراً، القدرة الفعلية للسلطات الجديدة على التغلب على سياسات القمع الإداري والأمني.
البحر لا ينتظر أحداً
تتطلب العقود البحرية سرعة الالتحاق بالعمل إذ تواجه الشركات غرامات في حال تأخر وصول الطاقم، كما أن الشركات عادةً ما تُعطي الفرص لأشخاص جاهزين للسفر لخفض تكاليف المكوث في المرافئ، فمثلاً تبلغ تكلفة الرسو في مرفأ بيروت نحو ألفي دولار يومياً.
«قوانين منع السفر في سوريا لم تُلغَ رسميّاً، بل رُفع المنع عن شرائح من السوريين المطلوبين للفروع الأمنية، ما يمنح البيروقراطيين سلطة تقديرية»
يعتمد عمل البحّارة على سمعتهم ونشاطهم بشكل أساسي، وكذلك على نشاط وكلاء السفن نفسها. يشرح محمد قائلاً: «بعد توقيعنا عقد عمل مع سفينة شحن لعدد من الرحلات أو رحلة واحدة حتى، يكلّف القبطان وكيلاً بنقلنا من البر إلى مكان رسو السفينة. لهذا يجب أن تكون أغراضنا وأوراقنا جاهزة دائماً، ووجود مشكلة في أي ورقة (في جواز السفر أو الهوية أو عقد السفر أو غير ذلك) يؤدي إلى تفويتنا موعد إقلاع السفينة، وإلى خسارة مالك السفينة أجور التأمين الصحي أو التأمين على الحياة، لذلك لا يغامر أي من الطرفين قبل التأكد القطعي من قانونية الأوراق وصحتها».
يقول قبطان سوري مقيم في اليونان إن «الطواقم السورية ماهرة، لكن عدم الاستقرار يؤدي في ظل سوق تنافسية إلى خروج السوريين من السوق». يقدّر القبطان عدد السوريين العاملين على سفن شحن دولية بأكثر من خمسة آلاف عامل ومهندس وبحّار وقبطان. في غضون ذلك، يخاطر بعض البحارة باحتمالات الاعتقال إذا أُلقي القبض عليهم وهم يسافرون بدون وثائق محدثة. يشرح أحد البحارة أنه بات يتحاشى النزول إلى البر، ويفضل الانتظار على متن السفينة بين رحلة وتاليتها. «يكلفني هذا عدم رؤية أسرتي ولكن تأمين نفقاتهم أهم لدي من زيارتهم، وفي الأثناء تكبر طفلتي بعيداً عن عيوني».
«نريد حياة طبيعية»
يقترح أحد البحارة رفع منع السفر عن «جميع السوريين بدون استثناء، ما عدا الممنوعين لأسباب قضائية». ويضيف آخر: «حرية التنقل، وحق العمل، من حقوق الإنسان البديهية».
«نحن لا نريد تسييس القضية»، يؤكد محمد. «كل ما نريده حياة طبيعية، بعيداً عن ممارسات المنع والتقييد غير المبررة. البحر كان خلاصنا، واليوم، نعيش على هامش الحياة». ومع استمرار الجمود، يخشى بعض البحارة من الاضطرار إلى الهجرة غير الشرعية، فـ«الخيارات تضيق أمامنا، ونأمل أن تصل أصواتنا إلى المعنيين قبل فوات الأوان»
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0