صهيب عنجريني - كاتب ضيف
الرسم: (Farhad Foroutanian - كارتون موفمينت)
يتملّكني الخوف، فماذا عنك؟ هل أُبالغ إن افترضتُ أن الأمر ينطبق على جميع السوريين والسوريات، وبلا أي استثناء؟ بكل تأكيد تختلف مسببات الخوف بين فرد وآخر، وبين مجموعة أو فئة أو شريحة وسواها، لكن يظلّ الخوف «قاسماً مشتركاً» بيننا.
تعمّدت وضع هذا التركيب الغريب بين مزدوجتين لأن تفكيكه قد يكون كفيلاً بشرح كثير مما أحاول كتابته: إنه تركيب لغوي بسيط، اسمٌ وصفة. الاسم «قاسم»، هو اسم فاعل للفعل «قسم»، الذي لا يحتاج معناه إلى شرح بالتأكيد. أما الصفة «مُشترك»، فهي اسم مفعول من الفعل «اشترك»، ومعناه لا يحتاج شرحاً أيضاً.
ما أستغربه هو التضادّ المُطلق بين معنى الاسم ومعنى الصفة التي اعتدنا إلصاقها به. يُحيلنا الاسم إلى كل معاني التجزئة والتفرقة، فالقسمة تُسفر عن تحويل كتلة ما إلى جزأين أو أكثر، بينما تأخذنا الصفة إلى التكتل والتجمع، فالأمر المشترك هو أمرٌ يجمع بين اثنين أو أكثر كما نعلم.
لحلّ هذا التناقض لغويّاً، يمكن التفكير بتغيير الصياغة لتصبح: يظل الخوف «رابطاً مشتركاً» بيننا. الأمر بسيط، أليس كذلك؟ بالطبع لا! قد يكون بسيطاً حين يتعلق الأمر بخطابات وجُمل معدة للاستهلاك، تُطرح في البازارات المفتوحة باستمرار على دمنا منذ أربعة عشر عاماً، لكنه على أرض الواقع مُعقّد، وربما بالغ التعقيد في حالتنا السوريّة على وجه الخصوص. بل إن الصياغة الأولى على ما فيها من تناقضات لغوية تظل – بكل أسف – أصدق تعبيراً عن حالنا اليوم، فالخوف قاسمٌ بيننا، وليس رابطاً، رغم امتلاكه كل ما يلزم من مقومات ليربط بعضنا ببعض.
العِلّة هنا أننا اعتدنا - أو عُوّدنا - على توجيه خوفنا في الاتجاهات الخاطئة، من حيث ندري أو لا ندري. يُستخدم الفعل «خاف» في اللغة العربية وفق صياغتين، تُناقض إحداهما الأخرى: «خافَ الشيءَ (أو خاف مِنه)»، و«خاف على». وأنا أعتقدُ أن إحدى أهم مشكلاتنا الجمعيّة في سوريا أننا اعتدنا – أو عُوّدنا – التفكير بمنطق «الخوف مِن»، مع ما يتضمنه هذا من توجيه بوصلة الخوف في اتجاه الآخر – الشريك، أو الذي ينبغي أن يكون شريكاً.
بصياغة أخرى: بدل أن يخاف أحدنا على حياته، نجده يخاف من «الآخر» أن يسلب حياته، وبدل أن تخاف إحدانا على حريّتها، تجد نفسها تخاف من الآخر أن يسلبها إيّاها، وبدل أن تخاف السلطة على نفوذها، نجدها تخاف من المعارضة أن تسلبها السلطة والنفوذ، وإلخ.
الفارق جوهري هنا، ويترك آثاراً عميقة على النتائج. حين أخاف على حياتي، لدي كثير من الإجراءات التي قد تُمكنني من الحفاظ عليها، أما حين أخاف منك أن تقتلني، فقد يكون أول ما يخطر لي فعله أن أتخلص منك للحفاظ على حياتي!
يُفرق اللغويون بين معنى «الخوف»، ومعنى «الخشية»، فيربطون الخوف بالجهل، ويقرنون الخشية بالمعرفة. أي أنني أخاف المجهول، وأخشى المعلوم
حسناً، هل حُلّت المشكلة الآن، وبات ممكناً إيجاد مخارج من مأزقنا الجمعي بمجرد أن نعتاد التفكير بمنطق «الخوف على» بدل «الخوف من»؟ قد لا أُبالغ إن زعمتُ أننا سنقطع شوطاً طويلاً في طريق إيجاد الحلول إن اعتمدنا هذا التغيير بالفعل، لكنّ تغييراً كهذا لا يُمكن تحقيقه من دون إزالة العقبات التي تكفل لي أن أخاف على نفسي بدل أن أخاف منك، وأولى هذه العقبات هي الجهل، بل وبشكل أدق: جهلي بك.
يُفرق كثير من اللغويين بين معنى «الخوف»، ومعنى «الخشية»، فيربطون الخوف بالجهل، ويقرنون الخشية بالمعرفة، أو العلم. أي أنني أخاف المجهول، وأخشى المعلوم. أخاف من شيءٍ أو أحدٍ لا أعرفه، وأخشى شيئاً أو أحداً أعرفه. فلنلاحظ مثلاً أنني أستطيع القول: «أنا أخاف»، فيكون المعنى مكتملاً حتى ولو لم أُكمل العبارة أو أحدد ما الذي أخاف منه، أو ما الذي أخاف عليه. أما إذا قلت: «أنا أخشى»، فالمعنى يظل ناقصاً، وعليّ أن أُحدّد ماذا أخشى. الخوفُ مفتوح على المجهول، والخشية مُحدّدة بالمعلوم. وإلى هذا استند المفسرون في شرح معنى العبارة التي ترِد في إحدى آيات سورة «فاطر» وتقول «إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء».
حسناً، ماذا أعرفُ عنك، وماذا تعرف عني؟ ماذا تعرف المجموعة «س» عن المجموعة «ع»؟ هل تعرف حقيقتها فعلاً أم أن لديها افتراضاتٍ تراكمت بفعل ضخ الإعلام، وخطابات الساسة، والإشاعات، وجهود الذباب الإلكتروني، فأخذت صفةً قطعيّة؟ والأهم من هذا: هل توجد بالفعل حقيقة واحدة مشتركة بين كل أفراد المجموعة «س» وأخرى مشتركة بين كل أفراد المجموعة «ع»؟ كيف يكون الحال بعد أن نوسّع العدسة مع الأخذ في الاعتبار حقيقةَ أننا أكثر من «س» و«ع» بما قد يتجاوز عدد الحروف الأبجدية؟ ثم هل هناك صفةٌ أو بضع صفات يصحّ تعميمها على جميع أفراد إحدى هذه المجموعات؟ ثم على أفراد كل المجموعات في الآن نفسه؟
سأطلب منك أن نبحث عن إجابات صادقة معاً، لكن قبل ذلك سأسمح لنفسي أن ألفت النظر إلى نوعين من الصفات، الأول ثابت أو شبه ثابت، لا يسهل تغييره مثل «فلان كريم»، والآخر ظرفيّ/مؤقت، غالباً ما يتغير بتغير الظرف، مثل قولنا «فلان خائف»، وفي هذه الحالة قد نتشارك جميعاً صفة واحدة بالفعل إن كنا نعيش ظروفاً واحدة، فيصح القول «كلّنا خائفون»، و«كلّنا خائف».
للمفارقة، نعيش في هذه الأيام ذكرى كان يُفترض بها أنها «أسقطت جدار الخوف»، لكنّ الطريق يبدأ من اعتراف لا بدّ منه: سقط جدار واحدٌ للخوف، لكنّ كثيراً من جدرانه ما زالت قائمةً بيننا، وعلينا هدمُها إن كنا نخافُ على مستقبلنا فعلاً.
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0