عبد المنعم علي عيسى - كاتب ضيف
الصورة: (أثناء المصادقة على الإعلان الدستوري في 13 آذار الماضي / سانا)
بدأت الحياة السياسية السورية، على وقع العديد من العوامل، بالتبلور منذ أواخر القرن التاسع عشر، وهو أمر يمكن تلمسه عبر ظهور الجمعيات والمنتديات والأحزاب، والفعل من حيث النتيجة كان يعبر عن ميل «المجتمع الأهلي» القائم على تركيبة دينية /عرقية / مذهبية وإثنية، والنزوع نحو «المجتمع المدني» القائم على تراتبية سياسية عابرة لكل أطياف التركيبة السابقة، والشاهد أن الحياة السياسية بين 1918 - 1946 راحت تتخذ طابعاً أكثر وضوحا في هذا السياق.
يصف المؤرخ محمد حرب فرزات في كتابه «دراسة لنشوء الأحزاب السياسية في سوريا وتطورها ما بين 1908 – 1955» تلك المرحلة بـ «المتسارعة نحو إرساء المفاهيم والقيم الكفيلة بالانتقال نحو الدولة الحديثة»، كما يصف الحياة بين 1939 - 1949 بأنها «أصبحت أكثر مسايرة لروح العصر في هذه العشرية، وأكثر تفهماً لحاجات المجتمع، وأكثر صلاحية لحل المشكلات القائمة».
ربما كان دستور العام 1950، (لا يزال جزء وازن من السوريين ينادي بالعودة إليه)، نتاجاً مباشراً لذلك الحراك الذي بدا فيه السطح السياسي للمجتمع كما «خلية نحل»، فيما راحت قيعانه تتحرك على وقع انتماءاتها السياسية والحزبية، وبدا أن التناغم، في العموم، أمرٌ ممكن وفق صيغة العقد الاجتماعي الذي أسس له ذلك الدستور.
الشاهد أيضاً أن البلاد سرعان ما استعادت حالة التناغم رغم سلسلة الانقلابات بين 1949 – 1953 التي مثلت انعكاساً لاضطراب الإقليم بعد نكبة فلسطين 1948، لتشهد البلاد مرحلة من الاستقرار السياسي بين عامي 1954 - 1958، ربما صحّ اعتبارها الأفضل في تاريخها المعاصر.
يشعر كثير من السوريين بنوع من «الحنين» إلى تلك الحقبة «الذهبية»، قياساً باعتبارات عديدة أبرزها التناغم بين السلطتين التشريعية (البرلمان) والتنفيذية (الحكومة)، مع تسجيل حال من الاستقلال اللافت الذي كان يتمتع به قطاع القضاء، ويمكن القول إن الحياة السياسية في البلاد كانت تميل، نوعاً ما، نحو الاستقرار والفاعلية.
كانت محطة 22 شباط/فبراير 1958، التي شهدت إعلان الوحدة مع مصر، افتراقية مع ما سبقها، ولعل من الجائز اعتبارها «ركائزية» للمراحل التالية التي ستشهد إمساك «البعث» بالسلطة منذ 1963، وشيئاً فشيئاً جرى تعطيل الحياة السياسية الحقيقيّة.
يُبرز الحراك السياسي الذي راحت نوياته تتكاثر كما الهيدرا بعيد 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 حقيقة مفادها أن الذات الجمعية السورية قد بدأت تستشعر «الحنين» إلى مرحلة الخمسينيات في ظل حاضر مضطرب ومستقبل مجهول.
كانت مرحلة الوحدة مع مصر، افتراقية مع ما سبقها، ولعل من الجائز اعتبارها «ركائزية» للمراحل التالية التي ستشهد إمساك «البعث» بالسلطة منذ 1963
انتاب كثيراً من المتابعين شيء من الصدمة عقب قرار الإدارة السورية الجديدة، في «مؤتمر النصر»، 29 كانون الثاني الماضي، القاضي بـ«حل أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية»، لا حزناً على تلك الأحزاب في حد ذاتها، بقدر ما يرتبط الأمر بأن المشهد يحفز الذاكرة لاستحضار «الثقوب السوداء» التي تراكمت فيها إلى درجة بدت فيها غالبة على سطوحها وقيعانها في آن.
في أعقاب ذلك القرار أصدر «الحزب القومي السوري الاجتماعي» بياناً جاء فيه أن «أسس إعادة بناء الدولة الوطنية أصبحت في خطر حقيقي، وما جرى ليس إلا مؤشراً إلى مزيد من الانهيار والتفكك غير المقبولين»، فيما أكد فيه طارق الأحمد، القيادي في الحزب المذكور، رفضه القرار لأنه «جائر أولاً، ولأنه ثانياً يتناقض تماما مع تصريحات (الرئيس) أحمد الشرع التي تعهد من خلالها ضمان حرية العمل السياسي».
أما قيادة «حزب الاتحاد الاشتراكي» فقالت بلسان ثناء فخر الدين، عضوة اللجنة المركزية للحزب وأمينة فرع حلب، إن «القرار شكل نكسة حقيقية للمسار الديمقراطي وحرية التعبير، وكذلك لمخالفته تصريحات الإدارة السياسية الجديدة ووعودها بالعمل مع الجميع».
على النحو ذاته جاء موقف «الحزب الشيوعي السوري» الذي قال في بيان إن «الحزب الذي تجاوز عمره مئة عام خاض خلالها معترك النضال في مختلف الظروف لن يخضع لهذا القرار الجائر بحله»،
فيما كان لافتاً البيان الذي أصدره «تجمع سوريا الديمقراطية» لجهة تضمينه عوامل أخرى من قبيل «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» و «الشرعة الدولية» الضامنة لهذا الأخير حين قال إن «هذا الفعل ينتهك حق التنظيم المكفول في الشرعة الدولية بما في ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية».
وحده «البعث» غاب عن أي تعليق أو بيان في مواجهة الحدث، فبعيد إصدار بيانه يوم 11 كانون الأول / ديسمبر 2024، أي بعد ثلاثة أيام من تمزق آخر أشرعته على أبواب دمشق، الذي أعلن فيه «حل نفسه، وتجميد كل نشاطاته في سوريا، وتسليم ممتلكاته للبنك المركزي السوري»، لم يعد هناك من شيء دال على وجود نبض في كيانه، رغم أن سجلاته كانت تقول إن عدد أعضائه تجاوز 3.6 مليون عضو وفقاً لما نشرته جريدته الناطقة باسمه بعد نحو شهر من اندلاع الثورة السورية في 2011، ولعل في الأمر ما يشير إلى أن ذلك «الكائن»، والأحزاب كائنات تنطبق عليها قوانين الموت والحياة، كان في حكم «الميت سريرياً»، وما تبقى فيه من نبض كان مجرد دلالة على حالة احتياج سلطوية تريد لـ«زراكشها» ألا تغيب.
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0