× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

كيف يعيش الساحل السوري بعد المجزرة؟

حكاياتنا - ملح 10-04-2025

تدور «الحياة» في المجتمعات المنكوبة، ولكنها باهتة. وتكاد العلاقات مع المجتمعات المجاورة أن تكون صفرية، وحدودها التعاملات الضرورية. تضيف مشاعر الخوف والقلق وعدم الأمان أسلاكاً شائكة غير مرئية بين الأماكن والقرى والمدن والحواضر عموماً.

الصورة: (8 آذار/مارس - حفر مقابر جماعية في بانياس / متداول عبر مواقع التواصل الاجتماعي)

ليس أمام أهل الساحل السوري نموذجٌ واضح يمكن استلهامه لتلمّس الحياة بعد المجازر الأخيرة التي ابتلوا بها، شأنهم شأن مناطق سورية أخرى عديدة شهدت مجازر خلال أربعة عشر عاماً من المقتلة السوريّة. 

الواضح أن السوريين عادةً ما اعتمدوا على الارتجال والحلول الفردية والمؤقتة لاختبار «العيش الطبيعي» بعد المجازر، بدلاً من التخطيط الطويل الأمد، وبحضور (شكلي أحياناً) لجمعياتٍ، ومنظماتٍ مدنيّة، وفي الغالب دون اكتراثٍ بتوثيق الذاكرة.

تُظهر مراقبة المجتمعات المحلية السورية عموماً بعد المجازر انتكاسات بنيوية في علاقتها بذاتها، وعلاقتها بالمجتمعات المحلية الأخرى، والأهم علاقتها بمستقبلها.

بطبيعة الحال لم تكن مجازر آذار هي الأولى التي يشهدها الساحل السوري، سبق أن عرفتها في وقت مبكر حين ارتكبت قوات موالية للنظام السابق مجازر في قرية البيضا قرب بانياس العام 2011، وبعدها بثلاثة أعوام ارتكبت فصائل «جهادية» مجازر ريف اللاذقية الشمالي. في المرتين كان الضحايا مدنيون، والفاعلون أطراف الحرب السورية من الميليشيات المتصارعة. لم يحدث أن فكّر أحد بجمع عائلات وأقارب الضحايا على الضفتين في لقاء واحد.

المقارنات تخلق الالتباس دائماً. تمكن المقارنة بين مجزرة وأخرى من زاوية واحدة: هل جرى إحقاق الحق وحوسب الجناة؟ أم لا؟ سواء خلّفت المجزرة ضحية واحدة أو آلافاً، لا فرق.

آذار بنكهة أخرى 

يعيش الساحل السوري اليوم المراحل الأولى من الصدمة الحادة بعد مجازر طاولت عدداً من القرى والمدن، وثّقت جهات مختلفة أعداداً متباينة للضحايا، ولا تزال الوقائع تتكشف تباعاً.

ما اختلف هذه المرة أنّ المجازر شابهت في تفاصيل عديدة «مشروع إبادةٍ مُمنهج» يُحاكي فصولاً من تاريخ المنطقة المنسي. والساحل الذي ظنَّنا أنه نجا من أسوأ ما في الحرب وتبعات ما بعد الأسد، وجد نفسه فجأةً أمام سؤالٍ لم يُجرّب الإجابة عنه من قبل: كيف تُعيد بناء حياتك عندما يصبح كل ما حولك شاهداً على القتل؟ اليوم يجد آلاف البشر أنفسهم يسيرون على طرقات القرى والحارات والوديان وأعينهم تعيد رسم الصور الأخيرة والابتسامات الأخيرة… هذه ليست جغرافيا عادية، بل هي أرشيف من الألم والوجع.

تنعدم فرص إقامة طقوس العزاء العلنيّة بسبب التضييق الأمني، ويجد كثرٌ صعوبة حتى في زيارة المقابر الجماعية

ينطبق الحال على كثير من السوريين في مختلف المناطق السورية بكل تأكيد، لكننا أمام حلقة يجب الانتباه إليها بدقة كي لا تتفتت هذه البلاد إلى نتف أكثر بعد تغيير النظام. هذا التغيير الذي رُوّج له بوصفه «نصراً مبيناً وفتحاً عظيماً وانتقالاً من دولة الديكتاتورية إلى دولة الحرية»، وهي ليست بالضرورة صفات تنطبق على الواقع كما هو حال كل التغييرات المفصلية في التاريخ. لكن هل من الطبيعي أن نجد أنفسنا أمام إعادة إنتاج لسياسات النظام السابق من حيث إعادة هندسة الولاءات بالدم/ لكن هذه المرة لتثبيت سلطة جديدة؟

الدم لم يجفّ.. ولا الدموع

يبدو الناجون اليوم عالقين في مرحلة الإنكار والذهول، مع محاولات متقطعة لممارسة الحياة اليومية كما لو كان الأمر طبيعياً، ولكنه في الحقيقة ليس كذلك. هناك حتى الآن إنكار وصعوبة في استيعاب حجم الخسارة التي ما زالت «طرية». 

هذه المرحلة المبكرة (حسب نموذج جوديث هيرمان للتعافي من الصدمة) تختلف عن نماذج الخروج من المجازر أو الصدمات الكبرى بسبب القرب الزمني من الأحداث وانشغال الناجين والناجيات بالاحتياجات الأساسية (مأوى، غذاء، أمان) في ظل فقر مدقع زاده فصل عدد كبير من الموظفين الحكوميين، وعدم دفع رواتب المتقاعدين من العسكريين الذين يشكلون نسبة معتبرة من سكان الأرياف بالتحديد.

الأهم في تفسير أسباب الاختلاف عن نماذج تعافٍ أخرى هو غياب المسافة الآمنة: الضحايا يعيشون في الجغرافيا نفسها مع الجناة، إذ يستمر وجود القوى المنفذة للمجازر في عدد من المناطق، ما يجعل احتمالات اكرارها واردة كما حدث قبل أيام في منطقة حرف بنمرة قرب بانياس، حيث سقط ستة أفراد ضحايا دون أي سبب.

إلى ما سبق هناك مفقودون حتى الساعة، وهذا يخلق حالة من الغضب الصامت في ظل الخوف من التعبير عن المشاعر بوضوح وعلانية، وعجز عن إثبات الوفاة قانونياً، إلى اليوم لا يمكن تسجيل وقائع الوفيات في مؤسسات الأحوال المدنية السورية.

فضلاً عن كل ما تقدّم تنعدم فرص إقامة طقوس العزاء العلنيّة بسبب التضييق الأمني، ويجد كثرٌ صعوبة حتى في زيارة المقابر الجماعية.

يمكن تلمّس غضب مكبوت: تلميحات غاضبة في الأحاديث الخاصة، وخوف واضح من التعبير الصريح عن المشاعر. المفارقة أن أسباب الصمت لا تقتصر على القمع، بل تشمل كونه آلية لضمان إعادة إنتاج الولاءات عبر الخوف، وحرف الذاكرة الجمعية من الحقائق الملموسة نحو الروايات الرسمية بالإجبار.

ثمة أيضاً من يشعر أن الصمت آلية دفاعيّة، تقي مجتمع الضحايا من احتمالات تكرار المجزرة إذا ما علت أصواته!

هل تختلف هذه السياسات بشيء عن سياسات النظام السابق؟ أم تبدو كأنها مستخرجة من «الكتالوغ» ذاته؟!

التعبير ممنوع

يزيد من تعقيد المشهد تجاهل السلطات (المتعمد على الأرجح) لمقتضيات الإغاثة. كان السؤال المر الذي كرّره كثير من ذوي الضحايا: أين الدولة؟
لم تتحرك أي من «مؤسسات الدولة» لدعم المنكوبين بأي شكل، وتركت للمجتمع المدني وجمعياته المنهكة أصلاً عمليات الإغاثة والدفن، ومنعت - حيث استطاعت - توثيق ما جرى، وطمست أدلة كان يمكن أن تسهم في معرفة الجناة.

ثمة تحديات كثيرة وكبيرة في المرحلة القادمة في الساحل، أولها وأهمها غياب الإطار الجماعي للتعبير عن الألم. يمنع «المنتصرون» الأهالي إقامة العزاء بضحاياهم (هذا الادّعاء موثق في شهادات متوزعة جغرافياً على الساحل السوري)، أو أن الأهالي لا يتجرؤون على فعل ذلك خوفاً من تكرار المصائب بمن تبقى من أبنائهم. هذا يمنع التشافي بالطرق المعتادة المعروفة. الصمت في هذه البقاع يُعيد إنتاج الصدمة والغضب، وربما «الفلول».

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها

This work by SOT SY is licensed under CC BY-ND 4.0