زيدون الزعبي - كاتب ضيف
تتسم الإعلانات الدستورية، أو الدساتير المؤقتة، بأربع سمات أساسية:
- السمة الأولى هي الطبيعة التأسيسية للنص، ويُراد منها إرساء وتنظيم السلطة العامة. هذه السمة كانت محققة بشكل صريح في «مقررات مؤتمر النصر» لأن «سلطة ثوريّةً» متمثلة بالفصائل التي تولّت السلطة أعلنت تنصيب أحمد الشرع رئيساً، وفوضته صلاحياتها، وأعلنت إيقاف العمل بدستور العام 2012، وحل مجلس الشعب، فضلاً عن عدد من القرارات، واضعة بذلك أسس مرحلة جديدة تؤسس لقطيعة كاملة مع المرحلة السابقة. يعني هذا أنها فتحت المجال لتأسيس جديد لجمهورية جديدة.
- السمة الثانية هي الوقتية. ويُقصد بها أن يكون النص ساري المفعول لمُدة محدودة، وغالباً إلى أن يصدر إعلان ثان، أو يُسنّ دستور نهائي، أو يُسوّى وضع كيان ما. ينطبق هذا بشكل كامل على قرارات «مؤتمر النصر» التي نصت بشكل صريح على «تكليف الرئيس بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت»، كما حددت الوقتية بتكليف المجلس التشريعي بالتشريع إلى حين وضع دستور دائم للبلاد، ناهيك بتأكيد الصفة الانتقالية للمرحلة التي أعلن عنها «بيان النصر».
- السمة الثالثة هي سيادة النص على القوانين القائمة في البلاد. وقد تحقّق هذا بقرارات الحل، وإيقاف العمل بالدستور، وإلغاء القوانين الاستثنائية.
- السمة الرابعة القطيعة القانونية مع المرحلة السابقة. إذ يحلّ الإعلان محلّ النظام الدستوري القائم، غالباً من خلال الإلغاء الجزئي أو الكامل، ولا تتوافق مع إجراءات التعديل التقليدية، وهذا محقق بالفعل في «إعلان النصر».
لكن ما أهمية كل ما تقدّم؟
يُمكن شرح مفهوم «الهوية الوطنية في الدستور» إيجازاً بأنها: الصورة المتخيلة للمجتمع، وثقافته، وأعرافه، وتاريخه، وقيمه كما يعرضها الدستور.
لا تتطابق الهوية التي ينص عليها الدستور بالضرورة مع الهوية الوطنية التي تمثل الشعور الجمعي للأمة حول تاريخها وقيمها وثقافتها
عليه يجب البحث عن الهوية الوطنية في الإعلانين الدستوريين لفهم ما تريده الطبقة الحاكمة الجديدة من هوية وطنية للبلاد. يمكن قراءة ذلك في خمس محددات أساسية هي: يوم النصر، والإسلام، والعربية، والتنوع، والوطنية السورية.
- أولاً: أي تاريخ للهوية الجديدة؟ من الواضح أن المركزية الأساسية في الهوية الدستورية هي لـ «يوم النصر» وهو يوم سقوط النظام. إذ لا نرى في أي من الإعلانين أي ذكر لانطلاق الثورة السورية إلا عرضاً عبر التذكير بالأربعة عشر عاماً التي سبقت يوم النصر! ربما عنى هذا أن الطبقة الحاكمة اليوم، تريد أن تقول إن التاريخ الجديد لسوريا الجديدة بدأ معها ومع بدايتها الجديدة، تخلصاً من عبء تاريخها هي في الثورة، وتكريساً لفكرة التحرير والقرار! أقول ربما. من الملاحظ أيضاً أن الإعلان الثاني يتحدث عن حدثين إضافيين هما: مؤتمر الحوار ومؤتمر النصر، وكلاهما لاحقٌ ليوم الثامن من كانون الأول/ديسمبر.
- ثانياً: الإسلام، ويظهر هذا بالإشارة إلى دين رئيس الدولة ومصدر التشريع، وقد أعاد الإعلان الدستوري الرسمي «أل التعريف» إلى كلمة «مصدر» ليكون الفقه الإسلامي هو «المصدر الرئيس للتشريع» (بدلاً من «مصدر رئيس للتشريع»)، بعد أن غابت في جميع الدساتير منذ دستور 1950، الذي سنها. علماً أن الإشارة إلى دستور 1950 في ديباجة النص، توحي أيضاً بحضور الدين الإسلامي بوصفه مرتكزاً أساسيّاً للهوية السورية كون هذا الدستور هو الأكثر تكريساً لمكون الدين الإسلامي في الهوية السورية.
- ثالثاً: العربية، وهذا يمكن تعقبه في اسم الجمهورية، وفي لغة البلاد الرسمية.
- رابعاً: التنوع. ينفرد هذا الإعلان الدستوري بأنه الدستور الأول الذي يتحدث عن تعدد عرقي في البلاد، في المادة العاشرة منه، ناهيك بتحدثه عن التنوع وعن دور الدولة في حماية التنوع الثقافي واللغوي، في المادة السابعة. لم يكن هذا النص هو النص الدستوري الأول الذي يتحدث عن التنوع، فقبله أكد دستور 2012 على مسألة التنوع، إلا أنه تقدم على سابقه، بعكس ذلك في الحقوق المترتبة على هذا التنوع، وهي الحقوق الثقافية واللغوية.
- خامساً، الوطنية السورية. يظهر هذا النص بوصفه أول نص دستوري منذ دستور العام 1930، الذي لا يتحدث عن الأمة العربية والوطن العربي. فمنذ أن سن دستور 1950، فكرة أن الشعب السوري جزء من الأمة العربية، وما تلاها من إعلان أن سوريا جزء من الوطن العربي في دستوري 1973، 2012، يبرز الإعلان الدستوري بوصفه هذا أول دستور لا يتحدث عن سوريا خارج حدود سايكس-بيكو، وهذا برأيي تحول كبير في الهوية السورية، وهو يجعل سوريا وطناً نهائياً، لا قطراً في مرحلة مؤقتة، تنتهي بتوحيد البلاد العربية.
إذاً؛ هذه هوية دستورية جديدة بالكامل. ربما حافظ الإسلام على مكانته في دساتير سوريا منذ العام 1950، باستثناءين هما دستور الجمهورية العربية المتحدة، والإعلان الدستوري للعام 1969، غير أن العروبة تراجعت كثيراً في الإعلان الدستوري الحالي، إلى درجة تصبح فيها العربية ركناً من أركان الهوية، لا العروبة، بمعناها الأيديولوجي، ومع تقديم مؤثر لمفهوم التنوع في البلاد. كما تتضح جدة هذه الهوية، عبر تكريس يوم النصر مكوناً أساسياً في الهوية السورية، ما يجعلنا نتساءل إن كنا سنحتفل بأيام أخرى في البلاد، كذكرى انطلاق الثورة.
يبقى الأهم هو كيف سيُكرّس هذا النص في القوانين والتشريعات، وأي رموز سيحتفى بها.
حسناً يبدو يوم الثامن من كانون الأول/ديسمبر محسوماً، لكن هل سيكرس التنوع بالاحتفال رسميّاً بأيام الفصح والميلاد والنوروز؟ هل ستغير المناهج التعليمية لتكون سوريا وطناً نهائيّاً لكل السوريين؟ هل سنعلي من شأن رموز وطنية كصالح العلي وسلطان باشا الأطرش وإبراهيم هنانو وسواهم؟ هل يستمر حضور الدين في حياة السوريين حضوراً طقسياً وثقافياً؟ أم سيصبح سياسياً؟ هل سنبقي يوم السادس من أيار ذكرى لشهداء الاستقلال السوري عن السلطنة العثمانية؟ هل سندرس الكردية والسريانية والآشورية والأرمنية والتركمانية في مدارسنا؟ هل سنكرس لغات أخرى بوصفها لغات وطنية؟ لننتظر ونرَ!
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0