× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

القضية الكردية وكونفدرالية الشرق: «قرن سلام» يمكن أن يبدأ من هنا

عقل بارد - على الطاولة 21-04-2025

يعيش عالمنا اليوم تحولاً هائلاً في موازين القوى الدولية، إلى حد يمكن معه تشبيهه بتحرك الصفائح التكتونية القارية. هذا التحول عنوانه الأساسي ارتفاع حظوظ القوى القارية الكبرى في إعادة رسم خطوط التجارة العالمية، واستناداً إلى علاقات سلمية تركز على الداخل والساحل في آن واحد، في قارات العالم القديم الثلاث جميعها

الصورة: (من احتفالات النوروز في شمال شرق سوريا 2023)

برز خلال الشهرين الماضيين حدثان كبيران وثيقا الصلة بالقضية الكردية؛ الأول متعلق بشكلها العام ضمن الدول الأربع التي تضم الأرض التاريخية التي عاش ويعيش عليها الكورد (تركيا، وإيران، والعراق، وسوريا)، والثاني يتعلق بشكلها الخاص ضمن سوريا.

الحدث الأول هو المبادرة التي أطلقها الزعيم التاريخي لحزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان يوم 27 شباط/فبراير الماضي من سجنه في جزيرة إمرالي في بحر مرمرة، الذي يقبع فيه منذ العام 1999، ودعا عبرها إلى إلقاء السلاح وحل حزب العمال والانتقال للعمل السياسي ضمن النطاق الوطني التركي، بعد صراع استمر 47 عاماً متواصلاً.

أما الحدث الثاني فجاء بعد نحو أسبوعين، وهو الاتفاق الذي جرى توقيعه في دمشق يوم 10 آذار/ مارس بين أحمد الشرع رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا، وبين مظلوم عبدي القائد العسكري لقوات سوريا الديمقراطية التي تضم كتلة مهمة من المقاتلين الكورد الذين خاضوا معارك طاحنة ضد تنظيم «داعش» المتطرف خلال السنوات الماضية، بدعم من «قوات التحالف الدولي».

ليس من الصعب ربط الحدثين أحدهما بالآخر؛ فكلاهما يخص القضية الكردية في عموم منطقتنا، وكلاهما يندرج تحت خانة البحث عن الحلول السلمية القائمة على التوافق والتنازلات المتبادلة، بدلاً من القتال والدماء، سواء في تركيا أو في سوريا. ورغم الأهمية الاستثنائية لهذين الحدثين، وما تركاه من آمالٍ لدى مجمل شعوب المنطقة بإنهاء حقبة طويلة كان عنوانها الدم، لا تزال الأمور معقدةً وتحتاج قدراً كبيراً من التبصر والحكمة، للبحث عن حلول حقيقية قابلة للاستدامة، وهو ما يستوجب أخذ جذور القضية الكردية في عين الاعتبار لصياغة حل جذري شامل لها، على مستوى الدول الأربع، وعلى مستوى كل دولة على حدة.

«سايكس-بيكو» والدولة الوطنية

يعود الجذر المعرفي والتاريخي لمفهوم الدولة الوطنية بشكله الحديث، إلى الثورة الفرنسية 1789 والتنظيرات التي سبقتها في عصر الأنوار.

كان للثورة الفرنسية شعاران أساسيان اشتهرت بهما، الأول هو «إخاء، حرية، مساواة»، ويمثل الجانب الحقوقي الثقافي ضمن مفهوم الدولة الحديثة القائمة على المواطنة المتساوية. والثاني، الذي لا يُسلط عليه الضوء بالقدر الكافي في كثير من الأحيان، هو «دعه يعمل، دعه يمر»، الذي يشكل الأساس الاقتصادي لمفهوم الدولة الحديثة. وتتلخص فكرته بأن نشوء الدولة الحديثة في فرنسا جاء استجابة لتطور طبيعي فرض ضرورة التخلص من الحدود الجمركية للإقطاعات التي كان يسيطر عليها النبلاء تحت رعاية الملك، ويعيقون عبر هذه السيطرة التطور الصناعي، ويمنعون تشكل السوق الوطنية الواحدة، التي ينبغي أن تتمتع فيها البضائع ورؤوس الأموال وقوى العمل بحرية التنقل، وهو الأمر الذي يكثفه شعار «دعه يعمل، دعه يمر».

لم تتشكل الدول في منطقة الشرق الأوسط على أساس تطور طبيعي داخلي، بل جاء في إطار تقسيم الإمبراطورية العثمانية المنهارة

إلى جانب «الإخاء، الحرية، المساواة»، و«دعه يعمل، دعه يمر»، جرت عملية تاريخية لتقديم الدولة الوطنية الحديثة بوصفها دولة الأمة الفرنسية، وبات التنظير للدولة الحديثة مرتبطاً إلى حدٍ بعيد بالفكرة القومية.

على خلاف هذا الشكل من التطور الذي شمل فرنسا ومعظم دول أوروبا الغربية، لم تتشكل الدول في منطقة الشرق الأوسط على أساس تطور طبيعي داخلي، بل جاء في مرحلة الاستعمار الأوروبي، وفي إطار تقسيم الإمبراطورية العثمانية المنهارة، وخاصة عبر اتفاقية سايكس-بيكو (1916) ومعاهدة لوزان (1923)، اللتين رسمتا الحدود الحالية بين الدول الناشئة. ونتحدث هنا بشكلٍ خاص عن (تركيا، إيران، العراق، سوريا)، رغم أن حدود سايكس بيكو شملت مناطق أخرى أوسع.

ضمن عملية رسم الحدود هذه وجد الشعب الكردي نفسه بين ليلة وضحاها موزعاً بين أربع دول، تحكمها من حيث الشكل أنظمة قومية الطابع: في تركيا أحزاب قومية تركية ابتداءً من مصطفى كمال أتاتورك (أبو القومية التركية) العام 1923، وفي إيران ابتداءً من رضا شاه بهلوي (1925-1941)، ومن بعده ابنه محمد رضا شاه بهلوي (1941-1979)، وقد كرّسا طابعاً قومياً فارسياً للدولة لم يتغير بشكلٍ جذري مع انتصار «الثورة الإسلامية الإيرانية» في 1979، وفي سوريا والعراق مع الملك فيصل بن الحسين 1918 تحت مسمى الدولة العربية، الأمر الذي تعزز لاحقاً أيام الوحدة بين سوريا ومصر 1958، ومن ثم مع وصول «البعث» بوصفه حزباً قوميّاً عربيّاً إلى السلطة في سوريا (1963) وفي العراق بدءاً من 1963 قبل أن يستتب له الأمر تماماً في 1968. أحكم البعث قبضته في كل من الدولتين لعقود طويلة، في العراق حتى 2003، وفي سوريا حتى 2024.

البعد الجيوسياسي

إذا حاولنا رسم الأراضي التاريخية التي يسكنها الأكراد ضمن الدول الأربع، نجد أنفسنا أمام لوحة مثيرة حقاً، من وجهة النظر الجيوسياسية.
تشكل هذه الأراضي بمجملها منطقة متصلة، وهي منطقة «حبيسة»، أي لا تطل على بحار أو محيطات، بين أربع دول كل منها تطل على بحر أو أكثر.

هذا الموقع الفريد للأراضي التي عاش فيها الكورد، وضعهم أمام أحد احتمالين في إطار العلاقات الدولية. الاحتمال الأول أن تكون هذه الأراضي نقطة وصلٍ وتعاون اقتصادي بين الدول الأربع، وبالتالي يمكنها أن تكون رافعةً مهمةً للازدهار والتنمية. والثاني أن تكون نقطة خلافٍ وخلافات حدودية وسياسية، ما ينتج فقراً وتهميشاً ودماراً مستمراً بالنسبة للكورد أنفسهم، وبالنسبة للدول الأربع، وللأسف هذا الاحتمال الذي كان سائداً طوال المئة عامٍ الماضية.

لم تكن سيادة هذا الاحتمال أمراً عشوائياً، بل جاءت ترجمة مباشرة لعدد من التناقضات على المستوى الدولي بالدرجة الأولى؛ فمن جهة عملت قوى الاستعمار السابق، التي تعتبر قوى محيطية بطبيعتها (أي قوى بحرية مثل بريطانيا وفرنسا، ومن ثم الولايات المتحدة) على تكريس أنماط إنتاجية وتنموية في المستعمرات السابقة تقوم على تهميش الداخل وتنمية الساحل، بحيث لا يجري ربط بري حقيقي بين هذه الدول، ويكون الربط قائماً بشكلٍ أساسي بين مصادر الثروات والسواحل، وباتجاه التصدير نحو الغرب أو الاستيراد منه. وفي التموضع الجيوسياسي الذي أشرنا إليه، كان نصيب الكورد التهميش لأنهم في قلب الداخل تماماً.

من جانب آخر، عززت الاصطفافات السياسية لأنظمة الحكم في الدول الأربع، عملية تهميش الداخل وتنمية الساحل على حسابه؛ فخلال الحرب الباردة كانت تركيا عضواً ثابتاً ومهماً في حلف «الناتو» وفي المعسكر الغربي، وفي المقابل كانت سوريا عضواً ثابتاً في معسكر الاتحاد السوفياتي، على الأقل من حيث الشعارات والتوجهات السياسية العامة والتسليح. أما إيران والعراق، فقد كانتا تتأرجحان بين المعسكرين وفقاً للمرحلة التاريخية.
هذه الاصطفافات الحادة، جعلت فرص ازدهار الداخل، وتحويله نقطة وصل حضارية واقتصادية بين الدول الأربع أمراً أقرب إلى المستحيل، وهذا فاقم صعوبة حل القضية الكردية على المستوى العام، وعلى مستوى كل دولة على حدة.

ما الجديد؟ وما الحل؟

يعيش عالمنا اليوم تحولاً هائلاً في موازين القوى الدولية، إلى حد يمكن معه تشبيهه بتحرك الصفائح التكتونية القارية. هذا التحول عنوانه الأساسي ارتفاع حظوظ القوى القارية الكبرى في إعادة رسم خطوط التجارة العالمية، واستناداً إلى علاقات سلمية تركز على الداخل والساحل في آن واحد، في قارات العالم القديم الثلاث جميعها.

منطقة الشرق الأوسط هي عقدة الوصل الأساس بين هذه القارات، ما يجعل تحقيق السلام والتعاون والتفاهم بين الدول الأربع (تركيا، إيران، العراق، سوريا)، شرطاً ضرورياً لهذا التحول العالمي الكبير. بهذا المعنى لن يكون من الجنون التفكير في بناء شكلٍ من أشكال الكونفدرالية بين هذه الدول الأربع. وفي سياق كونفدرالية بهذا الحجم، يصبح حل القضية الكردية على أساس «إخاء، حرية، مساواة» وعلى أساس «دعه يعمل، دعه يمر» أمراً منطقياً وقابلاً للتحقيق!

قد يبدو الطرح غريباً بعض الشيء، خاصة إن وضعنا في خلفية التفكير طبيعة العلاقات التاريخية خلال مئة عام بين هذه الدول الأربع، إذ كانت سمتها العامة هي التناقض والصراع. مع ذلك، يبدو أن تبدل الاصطفافات الدولية الجاري على قدم وساق، يسمح بتوقع تقارب إضافي بين هذه الدول، ناهيك بأن ازدهار منطقتنا ارتبط تاريخياً بوجود دول كبرى تجمع - ضمن ما تجمع - هذه الدول الأربع في إطار سياسي/اقتصادي واحد. 
نجاح هذا الأمر مرهون بثلاثة عوامل أساسية: 

  • العامل الأول: وجود إرادة سياسية لدى الأنظمة والسلطات المسيطرة على هذه الدول، وهي موجودة جزئياً بحكم الضغط الذي تتعرض له من الخارج، وفي إطار تحصين مواقعها.
  • العامل الثاني: السير بمبادرة أوجلان حتى نهايتها وصولاً إلى سلام حقيقي ضمن الساحة التركية بداية، ومن ثم ضمن الدول الأربع في المرحلة التالية. 
  • العامل الثالث، وربما الأهم، هو وجود درجة من التنظيم والتعاون على المستوى الشعبي والسياسي بين الدول الأربع، وبما يصب في تكريس موضوع التآخي بين هذه الشعوب ويبين المصلحة الكبرى من سيادة العلاقات السلمية التعاونية، والتكاملية، فيما بينها.

بخلاصة تكثيفية: إذا كانت صناعة الأساس المادي للقضية الكردية عبر سايكس - بيكو قبل مئة عام ونيّف، هي نقطة العلام لقرن من الصراعات والمظالم والآلام في منطقتنا، فإن حل القضية الكردية في إطار تعاوني شامل بين الدول الأربع، يمكنه بالفعل أن يتحول إلى نقطة العلام لقرن سلام وازدهار قادم.

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها

This work by SOT SY is licensed under CC BY-ND 4.0