فرات زيزفون
الصورة: (وكالة الأناضول)
منذ العام 2015، دخلت سوريا قائمة «الدول الأكثر هشاشة» في العالم، لتتقاسم مع اليمن والصومال وجنوب السودان، ولاحقاً السودان، صدارة «الدول الفاشلة» في العالم، وما زالت، على وقع انهيار متواصل في مؤسسات الدولة، وسط آمال بنهضة ما للبلاد في مرحلتها الجديدة، ما بعد نظام بشار الأسد.
«جريمة في ملهى ليلي»
يرسم العنوان السابق صورة ذهنية عن جريمة وقعت في مكان يضج عادة بالفوضى، تتداخل فيها عوامل عديدة تحمل «مبرراً» لوقوعها، ليسهل تسخيف الأمر من خلال عبارات مثل «مسرح الحدث سبق أن شهد أحداثاً عديدة مشابهة، ورُوّاد هذا النوع من الأماكن «مؤهلون لارتكاب هذا النوع من الأفعال»، المجرم والضحية موصومان بالعار، عار يبرر الجريمة ويخرجها من إطارها الحقيقي، وحرف التركيز عن أن روحاً أُزهقت هناك.
في الأيام الماضية ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بتبرير هجوم تعرض له مطعم (ملهى) «ليالي الشرق» في العاصمة السورية دمشق يوم السبت الماضي، من قبل مسلحين متشددين اعتدوا بالضرب على روّاده، قبل أن ينتقل الحديث إلى تبرير هجوم دموي تعرض له مطعم (ملهى) «الكروان» وسط دمشق، في اليوم التالي (الأحد)، وراحت ضحيته فتاة وأصيب آخرون.
السلطات الرسمية عبّرت عن موقفها بعد الواقعة الأولى عبر تصريحات من المكتب الإعلامي لوزارة الداخلية نشرته صحيفة «عنب بلدي» جاء فيه: «العناصر المسلحون الذين اعتدوا على الأشخاص في المطعم غير تابعين للأمن العام، وهم عناصر ينتمون لمجموعة عسكرية جرى اعتقالها بعد الحادثة، وحُولوا للقضاء المختص على الفور، لينالوا جزاءهم العادل».
دماء الفتاة التي قتلت في نادٍ ليلي، وسارع البعض إلى التقليل من أهميتها بذريعة أنها «مجرد راقصة»، هي جزء من دماء شعب ما زال ينزف، والدماء وصفة مضمونة للفشل
عقب الحادثة الثانية، أدلى محافظ دمشق ماهر مروان بتصريحات شدّد فيها على أن المحافظة لن تتوانى عن محاسبة العابثين بأمن المدينة مع اتخاد الإجراءات اللازمة. وأضاف «نسعى جاهدين للحافظ على الأمن والسلامة العامة للمواطنين، وضبط المخالفات غير القانونية».
وبعيداً من مسألة «تبرير الجريمة»، يعطي تصريح وزارة الداخلية تأكيداً جديداً عن حقيقة وجود فصائل متنفذة تعمل خارج نطاق الدولة برغم الإعلان عن حل الفصائل واندماجها في هيكلية عسكرية واضحة تحت مظلة وزارة الدفاع، خلال «مؤتمر النصر»، أواخر شهر كانون الثاني/يناير الماضي.
اللافت في حالة الاعتداءين أن نشاط هذه «الفصائل غير المنضبطة» تجاوز فيهما بؤر التوتر الأمني، أو الطائفي (كما في حالات سابقة مثل مجازر الساحل السوري، واشتباكات جرمانا ثم صحنايا وأشرفية صحنايا)، ودخل مباشرة في قلب الحياة اليومية ووسط العاصمة.
الدولة الهشّة
يضع مؤشر «هشاشة الدول» سوريا في المركز الرابع بين «الدول الفاشلة»، وفق أحدث تصنيف (عن العام 2024) وقد نُشر مطلع العام الحالي 2025. يصدر التصنيف عن مجلة «السياسة الخارجية» ومؤسسة «صندوق السلام»، ويعتمد على 12 مؤشراً:
- سلطة الأجهزة الأمنية.
- انقسام النخب في الدولة.
- الشكوى الجماعية (طائفياً وفئوياً).
- الفقر والتدهور الاقتصادي.
- تفاوت معدلات التنمية الاقتصادية.
- هجرة المفكرين والمبدعين.
- فقدان الثقة في شرعية الدولة.
- عدم قدرة مؤسسات الدولة على تقديم الخدمات العامة للمواطنين.
- تقويض حقوق الإنسان وسيادة القانون.
- الضغوط الديموغرافية.
- زيادة حركة اللاجئين والنازحين.
- التدخلات الخارجية في شؤون الدولة.
(لمعاينة أوضح يمكن تحريك الإطار باستخدام الماوس في حال التصفح من الكومبيوتر، وفي حال استخدام الهاتف المحمول يمكن تمرير الإصبع على الإنفوغراف)
الفصائليّة طاغية
تسيطر السلطات الانتقالية السورية حالياً على إدلب وحلب وحمص وحماه واللاذقية وطرطوس ودمشق وريفها، ودرعا وبعض المناطق في دير الزور.
فيما تعيش السويداء، التي شهدت أعمال عنف على خلفية طائفية، حالة خاصة، بعدما أفضى أحدث الاتفاقات فيها إلى تكليف عناصر من المحافظة نفسها بمسؤولية حمايتها، تحت إدارة تبدو إلى حد ما شكلية، من قبل السلطات الانتقالية. وتسيطر قوات سوريا الديمقراطية عبر «الإدارة الذاتية» على الرقة والحسكة ومناطق من دير الزور وحلب، في حين تعيش مناطق واسعة من الجنوب السوري (بينها القنيطرة) تحت سلطة أمر واقع يفرضها الاحتلال الإسرائيلي.
ويُلاحظ بوضوح، في جميع مناطق السيطرة، انتشار الفصائل وتعددها وتعدد مرجعياتها، وإن بنسب مختلفة، الأمر الذي يعقّد عمل السلطات التي تقول إنها تحاول فرض سلطة مؤسساتها التي ثبُت في الشهور الماضية أنها ما زالت هشة.
في البحث عن الأمان
تعيش المنطقة الوسطى في سوريا (حمص وحماه) والساحل السوري (اللاذقية وطرطوس) على وقع جرائم خطف وقتل وتهجير، لا تزال مستمرة منذ مطلع العام الحالي، ولم تهدأ بعد الذروة التي وصلتها في مجازر الساحل في آذار/مارس الماضي، رغم أن السلطات الانتقالية الحالية وعدت بمحاسبة المرتكبين، وشكّلت لذلك «لجنة تحقيق خاصة».
يضع مؤشر «هشاشة الدول» سوريا في المركز الرابع بين «الدول الفاشلة»، وفق أحدث تصنيف
وبرغم الإعلان عن انتهاء العمليات العسكرية في الساحل، والإعلانات المتكررة عن نشر قوات من «الأمن العام» لمنع وقوع هذه التجاوزات، تستمر الجرائم المنفلتة في حمص وريفها، وفي ريف حماه. وبالتزامن، لا يزال سكان الساحل السوري، وبشكل خاص المناطق الريفية، يوجهون نداءات يومية للتدخل ووضع حد لسلوك فصائل متشددة تقتحم القرى والمدن وتروع من تبقى من الأهالي، فضلاً عن عمليات القتل والاغتيال التي ينفذها «مجهولون» مرة يقودون دراجة نارية، وأخرى سيارة دفع رباعي، وغير ذلك.
في حلب، وبرغم انخفاض وتيرة الجرائم مقارنة بالمنطقتين الوسطى والساحلية، تعيش المدينة أيضاً أحداث قتل واغتيال وخطف، وسط انتشار دعوات لـ «محاسبة فلول النظام السابق» من قبل فصائل تملك نفوذاً على الأرض، وتعمل خارج نطاق عمل مؤسسات الدولة، وسط تهليل وترحيب من قبل أصحاب هذه الدعوات لهذه الجرائم.
يبدو منطقياً، وبديهياَ، البحث عن جواب واضح لسؤال: أين أجد الأمان في سوريا؟ ومن يحمي المواطنين على أرض الواقع؟ وكيف يمكن أن تلعب السلطات دورها في هذا السياق وسط هذه الظروف؟
يمثّل الأمان أحد قواعد بناء المجتمعات، وفق هرم «ماسلو». لذلك، يبدو البحث عن الأمان بديهياَ في بلد عانى منذ 15 عاماً واحدة من أقسى مراحل العنف، ويعيش حالياً حالة فوضى أمنية ومجتمعية، واضطراباً في قيم المجتمع ذاته، وميوله، وأفكاره، مع صعود التيارات المتشددة التي ترى في الآخر، أياً كان، موضوعاً لتنفيذ محاكمة عاجلة، مع مبررات جاهزة لإنهاء حياته.
يحدد تصنيف «هشاشة الدول» أربع سمات رئيسة للدول الفاشلة
- ضعف قدرة الدولة الشرعية في اتخاذ قرارات عامة.
- فقدان الدولة ومؤسساتها لشرعية احتكارها استخدام القوة، وبالتالي تكون غير قادرة على حماية مواطنيها وأراضيها.
- عدم القدرة على تلبية احتياجات المواطنين وتوفير الخدمات العامة الأساسية للشعب.
- تلاشي مصداقية الكيان الممثل للدولة خارج حدودها.
الطريق إلى الصومال
قد يُفيد إلقاء نظرة على الصومال، التي تتشارك مع سوريا صدارة «الدول الفاشلة»، لاستقراء مستقبل البلاد التي تسير على طريق الدماء المستمرة، وتعجز فيها مؤسسات الدولة عن أداء مهماتها، بينما تحاول الفصائل والميليشات فرض سلطة أمر واقع، ومشاركة السلطات في استخدام القوة، وإطلاق الأحكام، وتنفيذها.
يحق للمواطن السوري الذي يرزح تحت وطأة ضغوط دوامة العنف وآثارها أن يؤمن بوعود السلطة بالنهوض بالبلاد، وأن يتعلق بآمال «سنغفرة» سوريا، ولكنّ الطريق الذي تسير فيه البلاد، حتى الآن، يتجه بتسارع مطّرد نحو «الصوملة»، ودماء الفتاة التي قتلت في نادٍ ليلي، وسارع البعض إلى التقليل من أهميتها بذريعة أنها «مجرد راقصة»، هي جزء من دماء شعب ما زال ينزف، والدماء وصفة مضمونة للفشل.
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0