عماد الدين موسى - كاتب ضيف
في زمنٍ تتشابك فيه الذاكرة بالخوف، ويصبح السرد وسيلة نجاة من طوفان النسيان، تأتي رواية «خيانات لم يرتكبها أحد» للكاتب السوري محمد ديبو كصرخةٍ مدويّة في وجه الصمت والتواطؤ. تنقّب الرواية في طبقات الهوية والطائفة والسلطة، عبر بُنية سرديّة متشظّية وشخصيات مُحمّلة بإرث الدم والخذلان، لتقدّم شهادة أدبيّة من داخل الجرح السوري، بوصفه أفقاً مسدوداً لوطنٍ مُعلّق بين الأسطورة والانكسار، لا كمأساة فردية.
تفكيك الأسطورة الطائفية
في «خيانات لم يرتكبها أحد»، الصادرة حديثاً عن دار رياض الريس في بيروت (2025)، نحن أمام رواية تتجاوز الشكل التقليدي، يُقدم عبرها محمد ديبو نصه وثيقة مُقاومة في وجه التسطيح، والانتماءات المصنّعة مسبقاً.
الرواية أكثر من مجرّد حكاية تُروى؛ هي سؤال يجرّ تاليه، وهاوية تُطلّ من طرف الصفحة. هكذا يكتب ديبو روايته، إذ يترك بطله يتوزّع داخل أسلاك وطن مكسور. وتشبه الرواية تحقيقاً جنائياً في دماء التاريخ السوري، تحقيقاً ينتهي إلى تشظي الحقيقة ذاتها.
العائلة بوصفها «دولة مصغّرة»
مريم تتجاوز كونها شخصية عابرة، فهي تمثّل استعارة لذلك الجيل السوري العالق بين ركام السرديات الرسمية وسؤال الفردانية. حين تكتشف أنّ أخاها الذي مات شهيداً قد صار في الرواية الرسمية خائناً، تبدأ رحلة مضادة: رحلة للفهم. وهذا الفهم يتطلّب منها أن تواجه التاريخ الشخصي والعائلي والسياسي، وأن تخلع جلد الطائفة كما يُخلع القيد.
تمشي مريم فوق ثلاثة من خطوط النار: نار الوطن، نار الطائفة، ونار الذاكرة. لا يمكنها أن تختار واحدة، إذ لا مفرّ من الجميع. ولهذا تصبح الرواية سيرة تفكك لا سيرة وعي، رحلة نحو تشظّي الهوية لا نحو ترميمها.
ترسم الرواية لوحة شديدة التعقيد تُظهر كيف جُرّت الطائفة نحو التحالف القسري مع السلطة، خوفاً من الآخر
في قلب النص، تتخذ العائلة بنية سردية أشبه بالمؤسسة: الأب بعثي مثقّل بالولاء، عمّ يساري آمن بالثورة وخُذل، عمّ آخر يلبس البزّة الأمنية، وأبناء يمشون في المسافة الهشّة بين الهروب والارتطام. الجميع انعكاسات لمناخ سياسي أنتج التباسات الهوية والانتماء.
العائلة، بوصفها تركيبة معقّدة، تصبح خريطة لفهم التحوّلات في البنية الداخلية للنظام السوري (السابق)، إذ تمثل تقاطعات الولاء والمعارضة، الخوف والتواطؤ، الثورة والترويض. كل فرد في هذه العائلة يلعب دوراً في عرض مسرحي طويل لا يجرؤ أحد على الخروج منه.
الاقتصاد اللغوي وتعرية الخطاب
في «خيانات لم يرتكبها أحد»، يشق محمد ديبو طريقه عبر أسلوب يقوم على الاقتصاد اللغوي والانضباط التعبيري، لتبدو اللغة أشبه بأداة حفر داخل الوعي الجمعي. يكتب بعبارات مقتضبة، حادة، تقترب أحياناً من النبرة التقريرية، لكنها تنزلق في لحظات فجائية نحو شعرية عالية تنبع من صدق الألم.
يمزج ديبو بين السرد والتحليل والتأمل من دون أن يخلّ بتوازن النص. يكسر الإيهام الروائي التقليدي، ليُدخل القارئ في قلب التجربة من خلال رسائل، وشذرات، وذكريات متقطعة، وتحليلات عميقة لواقع الطائفة والسلطة. يتحرّك النص في مسافة رمادية بين الرواية والتوثيق، بين الذات والجماعة، بين الخاص والعام.
الأسلوب في هذه الرواية يتجاوز كونه وسيلة لنقل الحكاية، بل يتجسّد بوصفه بنية فكرية وجمالية تُعبّر عن الفقدان، وتُظهر هشاشة اللغة أمام العنف، وتُجسّد مقاومة الخرس من خلال الكتابة ذاتها.
من الهوية إلى المصيدة
يرسم ديبو لوحة شديدة التعقيد تُظهر كيف جُرّت الطائفة نحو التحالف القسري مع السلطة، خوفاً من الآخر. من خلال الجد المقاوم للاستعمار، ومروراً بالابن البعثي، إلى الحفيد الذي يرتبك بين الانتماءات، تبيّن الرواية كيف جرى «ترويض الطائفة» عبر الإغراء، وكيف اختُزلت في بنية أمنية تُديرها، وتُبرّر باسمها قمع الآخرين.
هذه الرواية تُحرّر الطائفة من الكليشيهات. تُظهر هشاشتها الداخلية، وكيف ابتُلعت أصواتها المعارضة، وجرى تعليبها في سردية الولاء.
يكتب صاحب «خطأ انتخابي» من داخل الكارثة، في حقل زمني مُكسَّر. سرده يتهدّم، يكرر نفسه، ويقفز بين الماضي القريب والبعيد، ما يجعل القارئ في وضع استجواب مستمر. الشخصيات تتقشّر. والتاريخ يتجلّى في دورات متكررة من الخذلان والتدجين والخيانة المصنّعة.
من الثورة على الفرنسيين، إلى انقلاب البعث، إلى سطوة المخابرات، وصولاً إلى الثورة السورية الكبرى ثم انكسارها، كلها طبقات يُراكمها النص ليكشف كيف أن «الحدث السوري» لم يكن سوى سلسلة من التعطيلات البنيوية لأي أفق حرّ.
لا تغري الرواية القارئ بجماليات مفرطة. لغتها محروقة، مقتضبة حيناً، تحريضية حيناً، وتحليلية في معظم الأحيان. تفكك اللغة السياسية نفسها، تجرّدها من رمادها الملوّن، وتضع مفردات مثل «وطن»، و«شهادة»، و«خيانة»، تحت عدسة السؤال. جمال الرواية هنا يكمن في فكرتها الجمالية الكبرى: أن تكتب لتفضح الصمت.
مساحة أخيرة للنجاة
يكتب محمد ديبو عن «ما بعد المعتقل»: الوصم، والشكّ، والعزل، وإعادة تعريف الذات. تجربته بوصفه معتقلاً سابقاً تسكن بين السطور، من دون أن تتحوّل إلى مركز النص، إنما تبقى همساً خفيّاً يوجّه مصائر الشخصيات جميعاً. كأن السجن في هذه الرواية هو مصير غير مرئي، لا يُقاس بالقيود بل بالخذلان الداخلي.
تُسلّط الرواية الضوء على ما لا يُقال؛ إنها شهادة ضد النسيان، وصرخة ضد التغافُل، رواية تضع القارئ في موضع القاضي ليتورّط في الأسئلة؛ «خيانات لم يرتكبها أحد» نصٌّ عن سوريا، وعن بنية القمع الحديثة، وعن الطائفة بوصفها بُنية سياسية، والخيانة بوصفها أداة سردية تُوظّفها السلّطة، أما الكتابة فمساحة أخيرة للنجاة.
نحن أمام رواية تعيد طرح أسئلة الوطن والهوية من عمق التجربة الداخلية الممزّقة، من داخل التصدّع لا من على منصة الخطابة أو من مسافة تنظيرية. هي رواية عن هشاشة الفرد أمام سرديات الطائفة والدولة، وعن خيانات تُنسب لمن لم يرتكبها فعلاً. بهذا المعنى، تُشكّل «خيانات لم يرتكبها أحد» لحظة وعي أدبي وسياسي، تضع القارئ أمام مرايا مُؤجّلة، وتفتح باباً نحو ذاكرة لم تُكتب بعد.
الكتاب: خيانات لم يرتكبها أحد (رواية)
المؤلف: محمد ديبو (سوريا)
الناشر: دار رياض الريّس- بيروت (2025)
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0