زياد قطرميز
الرسم مولّد بالذكاء الاصطناعي
أريدُ بلاداً أقل أيديولوجيا، بلاداً لا تُغطّي مَساحة مُقدّساتها مَساحة شبه القارة الهنديّة، ولا يَتجاوز عدد كُتبها المقدّسة عدد ما جاء في الموسوعة البريطانية من حروف، أريد بلاداً مُتشابهة وكأنها خارجة من معملٍ صيني!
من أين جاءت أساساً كل هذه الأيديولوجيا؟ كيف عرّشت على سطح البلاد وسمائها، وكيف استطاعت كتلة بشرية لا هم لكثير من أفرادها ولا منوال سوى شرب القهوة والمتة والشاي ومُراقبة الجيران أن تنتج كل هذه الأيديولوجيات المتناقضة؟ كيف استطاعت بلاد فعل ذلك، رغم أن كثيراً من مدنها لا تملك ولا حتى ما يُمكن أن يقال عنه شبح دكان لبيع الكتب، عدا القرطاسية والكتب المدرسية؟ متى قرات أصلاً لتجمع كل تلك التأويلات؟
كيف يستطيع بشرٌ متشابهون إلى درجة التطابق من أقصاها إلى أقصاها فعل ذلك؟ يملك واحدهم علاقة واحدة مع كل شيء: علاقته بزوجته شبيهة بعلاقته بدجاجاته، وعلاقته مع ابنه شبيهة بعلاقته بحيوانه الأليف، وكأنه حوّل كل شيء إلى خوارزمية تشفيرٍ واحدة في عقله واختصر الأمر على خلايا تفكيره، من أين جاء بهذا الخلاف الطائفي العميق؟ متى فكر بعضُ من لا همّ لهم أساساً إلا الحصول على نرجيلة «مزايا نحاس» وظرف معسل إماراتي بكل هذه التأويلات؟ لماذا صمت عقل البلاد عن كل مذهب من مذاهب التفكير ولم يَعمل إلا في مَجال اللاهوت؟
بلاد أدخلت لاهوتها حتى في طريقة صناعة المخلل ونقع الشاي وتقليب البابا غنوج وتحميص خبز الفتة، حتى تكاد تخشى صُنع نكتة عن أي شيء مخافة أن يكون ذلك الشيء جزءاً من لاهوت مجهول لا تعلمه (صغت نكتة مرة من اسم غريب سمعته في قرية، فتبين أنه يدخل في لاهوتها، وتكرر الأمر مع شروال في قرية أخرى، ومع اسم مُطرب في قرية ثالثة!)
أعطوني مكنسة عملاقة كي أكنس كل ما تكسّر ولنبدأ على بياض مثلاً.. عطوني فرشاة كبيرة بما يكفي كي أصبغ بها البلاد
لو أن البلاد ستؤلف كتاباً أخضر ككُتيب التعليمات الذي وُضع في الولايات الجنوبية الأميركية لـ«تنظيم حياة السود» لكان أكبر كتاب أخضر في العالم، ولكنه لن يكون مخصصاً لفئة واحدة كما في أميركا بل لكل فئات الشعب بأخضرهم وأحمرهم وأصفرهم!
البلاد جادة وحادة وكأنما صُنعت من كسر الزجاج والدماء تسيل منك في كل مَضرب قدم ، تكسّر زجاج الحضارات المتتالية والإمبراطوريات المتعاقبة والغزاة وغير الغزاة، وتحوّل إلى زجاج يقبع في كل زاوية ولا توجد مكنسة تكنسه وتخلصنا من القصة، أعطوني مكنسة عملاقة كي أكنس كل ما تكسّر ولنبدأ على بياض مثلاً. لا أستطيع أن أعيش في هذه الدراما الأبدية، كل ما في البلاد درامي ومأسوي وكأنما كتبها شكسبير، غير أن أحداثها عبارة عن أكبر أمسية تهريجية في العالم ولا تخطر على بال لا أرستوفانيس ولا موليير ولا تشارلي تشابلن! غير أننا مهرجون ببنادق ودوشكا وأحزمة ناسفة وسيوف تنتمي إلى العصر الهولوسيني!
إذاً كيف ننتهي من كل هذا؟ بالتشابه!
أريد بلاداً شابهها الثلج حتى تطابقت مثل كندا، أو شابهتها الشمس إلى أن تماثلت كما الربع الخالي، أريد بلاداً أقل «فُسيفسائية» فأنا منذ طفولتي أساساً لم أكن مُعجباً بالموزاييك الروماني ولا الكنعاني ولا الفينيقي.
أريد بلاداً أقلّ أيدلوجيا، بلاداً لا تعتبرها ستة آلاف امبراطورية جزءاً لا يتجزأ من أراضيها، ولا يعتبرها ألف دِين مسقط رأسه وحاضنته الأساسية، بلاداً مقطوعة من شجرة وبفأس مسموم أيضاً، فمن غير المنطقي أن كل من حَمل معولاً وكتب حرفاً في تاريخ البشرية سيعتبر سوريا جزءاً لا يتجزأ من حضارته! كيف سنوزع جغرافيتنا على العالم بطريقة ترضي الجميع أساساً؟ أريد بلاداً هامشية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، بلاداً هامشية بمقدار هامشية عبارة «الدين ممنوع» المكتوبة على واجهة كل محال السمانة في سوريا.
أريد بلاداً أقل «رموزية» حيث لا يخضع شُرب فنجان القهوة إلى مئة ألف معنى ومعنى، ولون ثيابك وديكورها إلى ألف تفسير وتقييم وتأويل وكأنك ترتدي أحد نصوص كونفوشيوس.
إن التشابه شكل من أشكال النجاة، فالتنوّع يحتاج إلى تقبّل، أما وأن السماء أعطتنا تنوعها ولكنها لم تعطنا تقبّلها، فهذا عينُ الكارثة! وإذا كان لا بد من التشابه كي تَعيش البلاد بسلام، فأنا مع التشابه، فقط أعطوني فرشاة كبيرة بما يكفي كي أصبغ بها البلاد، فرشاة كبيرة وسطل دهان، ويا حبّذا لو كان أبيض اللون.
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0