× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

هل هناك فرصة لنزع التصعيد في الشرق الأوسط؟

عقل بارد - على الطاولة 23-05-2025

ما يبعث على الأسى أنّ كثراً من أبناء العالم العربي ينظرون إلى الأمور بعينٍ لا ترى سوى اللونين الأسود والأبيض، كما يتجلّى في الخلافات التي نشهدها اليوم في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، إذ يتنازع المجتمع المدني الليبرالي العلماني مع الثوار الإسلاميين المحافظين. في البلدان الخارجة من النزاعات تحتاج القوى السياسية تعلم قواعد لعبة بريماكوف في مهمة إعادة تشكيل كيان الدولة

ما وراء مثلثات بريماكوف:

هل هناك فرصة لنزع التصعيد في الشرق الأوسط؟

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي (25 كانون الأول/ديسمبر 1991) سعت روسيا جاهدةً لاستعادة هيبتها بوصفها قوةً عظمى، لكنها وجدت نفسها تفتقر إلى الموارد اللازمة والنفوذ الكافي لمقارعة الولايات المتحدة والصين في آن واحد. كان عليها أن تختار. إذ لو سعت للتقارب مع إحداهما في مواجهة الأخرى، لوجدت نفسها تلعب دوراً ثانويًا فقط كدولة من الوزن المتوسط.

لم يكن العالم المتعدد الأقطاب قد رأى النور بعد، بل كان في مرحلة التشكّل على يد دولٍ صاعدةٍ متوسطة الثقل تسعى للعب أدوار إقليمية ودولية كبرى. غير أن الثقة لم تكن كبيرة بين تلك الدول؛ إذ ورثت مرارة التنافس والنزاعات الحدودية من حقبة الحرب الباردة، كما خشي بعضها ألا ينفع الانحياز إلى أحد القطبين في حمايتها من القطب الآخر. وسط هذه الأجواء المشحونة بالارتياب، بات الخروج من أسر القطبية الثنائية وآليات التحالف التقليدية السبيل الأجدى لتعزيز النفوذ والمكانة السياسية.

في هذا المناخ السياسي القلق أطل يفغيني بريماكوف على المشهد، شاغلاً منصبي رئيس الوزراء ووزير الخارجية في روسيا. للوهلة الأولى كان يبدو كرجلٍ يسكن الظلال، بعد أن قضى زمناً في رئاسة جهاز الاستخبارات السوفييتية (كي جي بي) قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، حاملاً معه حرصاً شديداً على صون حياته الخاصة. تعود أصول بريماكوف إلى خلفيةٍ جورجيةٍ غامضة، زادت من غموضها خسارة شخصية مأسوية عندما فقد زوجته وطفله في مطلع ثمانينيات القرن الماضي.

ربما كان الرجل معروفاً لدى بعض دوائر السياسة الخارجية - لا سيما تلك المعنيّة بالشرق الأوسط وآسيا - إلّا أنّ بداية صعوده في مراتب الحزب الشيوعي لم تجلب له سوى مزيد من العزلة. اعتمد عليه ميخائيل غورباتشوف في إطلاق إصلاحات البيريسترويكا، فاحتفى به الجناح الليبرالي والإصلاحي في البرلمان الروسي بعد زوال الإمبراطورية السوفييتية، بينما منحته خلفيّته بصفته رئيساً للاستخبارات السابقة مهابةً في عيون الشيوعيين والقوميين المتطرّفين داخل مجلس «الدوما». رأى فيه الرئيس بوريس يلتسن حلاً وسطاً بين هذين التيّارين، لكنّه سرعان ما ندم على هذا الرهان إذ خرج «رجل الظلّ» من مخبئه إلى دائرة الضوء.

إرث الحرب العالميّة

خلال المدة الوجيزة التي تولّى فيها المنصب إثر تعيينه من قبل يلتسن العام 1998، وقبل أن ينسحب في محاولة للمنافسة على كرسي الرئاسة في روسيا، حاول بريماكوف توظيف علاقاته القديمة في الجوار الآسيوي المحيط بروسيا لإعادة تموضع بلاده على الساحة الدولية. كانت فكرته الأولى مدّ الجسور مع الصين، وبناء تحالفٍ ثنائي يقف في وجه الولايات المتحدة، ويُفشل سنواتٍ من المناورات الأميركية التي دأبت على استغلال الخلاف بين موسكو وبكين. غير أنّ تجاوب بكين وقتها بدا فاتراً.

كانت السياسات المتوارثة منذ عهد وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر لا تزال حاضرةً بقوة. فقد برع ذلك السياسي الشاب آنذاك، في استراتيجيات «فرِّق تَسُد». وتمحورت رؤيته الآسيوية حول منع تقارب القوى في أكبر قارات العالم، كي لا تُسخَّر مواردها وإمكاناتها الجيواستراتيجية في تكتلٍ موحّد. كان كيسنجر مهندس الانفتاح الأميركي الصيني، لكنه أيضاً كان يُعيد ضبط إيقاع العلاقة بين الصين وروسيا بشكلٍ دوري، لئلا تستغل القوتان انتماءهما الأيديولوجي الشيوعي لبناء جبهةٍ موحّدةٍ ضد الولايات المتحدة.

«مثلّثات بريماكوف» وسيلة للدول المتوسّطة القوّة لتعظيم نفوذها، لكن تبعاتها على مناطق النزاع كارثية. نشهد تجميداً للنزاعات في أفريقيا والشرق الأوسط، لغياب أي حافزٍ لدى الأطراف الإقليمية والدولية لإنهائها

لاحقاً، حاول بريماكوف مرةً أخرى، فاقترح نوعاً جديداً من التحالف: تشكيل تحالفٍ ثلاثيّ يضمّ روسيا والصين والهند، في محاولةٍ لتبديد تردّد الصين. كان الهدف تقليص الحاجة إلى التنافس المباشر على الساحة الأوراسية، وتركيز الموارد على مقاومة النفوذ الأحاديّ للولايات المتحدة. ومع ذلك، فقد أثار مسعاه الجديد - إقامة علاقةٍ ثلاثيّة مع أكبر كيانين جيوسياسيَّين في آسيا - شبهات تتعلق بنية روسيا تبوُّء رأس المثلث. رفضت الصين الفكرة مجدداً، كما رفضت قبلها مسألة تحالف ثنائي صينيّ روسيّ. أمّا الهند فقد ساورها القلق؛ إذ كان بريماكوف يمضي في بناء مثلّثاتٍ أخرى تضمّ باكستان. لم يكن واضحاً بعد أنّ هذه المثلّثات يمكنها أن تتعدّد لتكون أدوات توازنٍ أكثر منها تحالفاتٍ دائمة. كانت ذكرى المثلّثات التي تأسّست إبّان الحرب ضدّ ألمانيا النازية ثمّ انهارت في الحرب الباردة لا تزال حاضرة في أذهان السياسيين، في أعقاب الحرب العالميّة الثانية.

جاءت دعوة بريماكوف في أواخر الحرب الباردة، حين كانت ملامح نظامٍ عالميٍّ جديدٍ في الأفق، ولكنها لم تكن قد أخذت شكلاً واضحاً بعد. فلم تلقَ خطته الطموحة قبولاً فورياً، ولم تحظَ ببعض الرواج لدى الصينيين إلّا بعد عشرين عاماً. بيد أنّ فكرة إدارة العلاقات الدوليّة عبر هندسة علاقات ثلاثيّة بدأت تكتسب رواجاً، ليس على النحو الذي تصوّره بريماكوف، بل على نطاقٍ أصغر، بحيث تكثر البلدان من بناء المثلّثات وتوازن بينها، بما يتيح لها التخفيف من تناقضات إدارة أولوياتها المتعارضة في السياسة الخارجيّة.

«المثلثات» لموازنة العلاقات

سرعان ما انتشرت فكرة نسج العلاقات الثلاثية كأداة بيد الدول المتوسّطة الحجم، لتعظيم مواردها وتقليص حاجتها إلى علاقاتٍ قائمة على الربح والخسارة الصفرية مع الدول الأخرى. قد تشمل الشراكة أكثر من ثلاثة أطراف، لكن يبدو أنّ صيغة الثلاثة هي الأكثر ثباتاً واستدامة. يوفّر الترتيب الثلاثي سبيلاً لتجنّب ترك مصير الشراكات رهناً بالتقلّبات في العلاقات الثنائية. وتركّز كلّ شراكةٍ على موضوعٍ أو مجموعةٍ صغيرةٍ من المصالح المشتركة، مع الاحتفاظ بإمكانية التنافس في قضايا أخرى. ففي كلّ مثلّث، حين ترغب دولتان في تخفيف حدّة خلاف ما - كالنزاعات الأمنية والحدوديّة أو تضارب المصالح مع طرفٍ ثالث - تستعينان بشريكٍ ثالث يُتيح إقامة مصالح جماعيةٍ تحدّ من تصعيد الخلاف الثنائي بينهما. وتوفّر المنفعة المشتركة بين الشركاء الثلاثة حافزاً لتجاوز الإشكالات الثنائية بين أيّ شريكين.

أصبح تحقيق التوازن بين المصالح المتعارضة عنوان اللعبة، وصار إجمالي ثقل «مثلّثات» أيّ دولة يفوق بمجموعه حصيلة شراكاتها الجزئية المنفردة. سعت الدول جاهدةً كي لا تنزلق شرقاً أو غرباً، خوفاً من التحوّل إلى دولٍ تابعة في حربٍ باردةٍ جديدة. كان تأسيس شبكةٍ من العلاقات الثلاثية خطوةً معقولةً من الناحيتين المالية والسياسية.

في واحد من أبرز الأمثلة المعاصرة؛ نجحت تركيا وإيران وروسيا في احتواء خلافاتها بشأن سوريا ضمن ما عُرف بـ«مثلّث أستانا»، فيما أدار الثلاثة تناقضاتهم على ساحاتٍ أخرى عبر مثلّثاتٍ موازية مع دول أخرى. وحتى حين بات هذا المثلّث عديم الجدوى، بعدما أُطيح بقوات الأسد سريعاً على يد ائتلافٍ من الفصائل المعارِضة بزعامة «هيئة تحرير الشام»، ساعدهم المثلّث على الحدّ من خسائرهم وتأمين انسحابٍ نظيفٍ (لروسيا وإيران) من التزاماتهما في دعم الأسد. فالمثلّثات ليست هياكل دائمة، بل أدواتٌ سياسيةٌ ذات منفعةٍ محدودة.

في اتجاه آخر، عقدت روسيا وقطر وإيران شراكةً ثلاثيةً في مجال الغاز، تعويضاً عن تحالف أوبك+ الذي يجمع السعودية وروسيا والإمارات (إلى جانب دول أخرى)، وتتقاطع فيه مصالح تنظيم أسعار النفط. وفي الوقت نفسه، دخلت روسيا والصين لعبة «المثلّثات» مع عددٍ من الدول الآسيوية، مثل ميانمار، وحديثاً في أفغانستان. وعلى هذا المنوال، مضيا في ترسيخ تحالف «البريكس» ومعاهدة شنغهاي تدريجاً. بيد أنّ المنافسة ما زالت محتدمة وسط المصالح الجماعية التي تسعى إليها تلك التحالفات وشركاؤها المحتملون. فما يجري داخل ممر أوراسيا لا يزال يُدار بواسطة مثلّثاتٍ صغيرة، تسعى للحدّ من النزاعات الحدودية المستمرة في كونها تحديات أمام بناء الثقة بشكل مطلق على طول المحور الأوراسي، إذ تسعى كل دولتين منهما إلى إنشاء روابط مع أطرافٍ ثالثةٍ، لتعزيز المنافع المشتركة وتقليل فرص الاحتكاك بين الجيران على امتداد ذلك الممر.

على خُطا كيسنجر، حاولت الولايات المتحدة خوض لعبة «المثلّثات» لكبح نفوذ الصين في بحر الصين الجنوبي. غير أنّ النهج المفضّل لديها ظلّ قائمًا على الاستفادة من قوتها الهائلة بأسلوبٍ ثنائيٍّ داخل تلك التحالفات الثلاثية، سعيًا للاستئثار بالصدارة. ما زالت السياسة الأميركية في هذا المضمار ترتكز على رؤيةٍ قديمةٍ تقوم على اقتسام مناطق النفوذ في إطار تحالفاتٍ صلبةٍ – رغم أن واشنطن لم تعد تقوى على المحافظة عليها - بدلًا من اعتماد توازناتٍ دقيقةٍ ومرنة تتناسب مع تعقيدات الجغرافية السياسية الحديثة. تكمن الإشكالية بالنسبة للولايات المتحدة في أنّ بعض أقرب شركائها باتوا ينجذبون نحو علاقاتٍ ثلاثيةٍ مع روسيا والصين. وتُعدّ المصالحة السعودية-الإيرانية الأخيرة، التي رعتها الصين، خير مثالٍ على ذلك.

كانت الصين في السابق تُفضّل نهجاً ثنائيّاً في عقد الشراكات، لكنها اليوم تبدو عازمةً على اختبار فكرة بريماكوف. فهي تمدّ جسور تحالفاتها حول العالم، ثنائيّةً تارة وثلاثيّةً تارة أخرى. وقد أضحى العالم المتعدّد الأقطاب واقعاً ملموساً أخيراً. لكن، كلّما اتسعت رقعة نفوذ دولةٍ وتزايدت سطوتها، ضعفت مقاومتها لإغراء تحويل المثلّثات التي وُضعت لضبط توازناتٍ حسّاسة، إلى علاقات يفرض فيها الطرف الأقوى سطوته عبر تحالفاتٍ غير مرنة ومتسلطة مع الطرفين الآخرين.

LUGARIT · ما وراء مثلثات بريماكوف: هل هناك فرصة لنزع التصعيد في الشرق الأوسط؟

تبعاتٌ كارثيّة

رغم أن «مثلّثات بريماكوف» باتت وسيلةً متاحة للدول المتوسّطة القوّة لتعظيم نفوذها، فإنّ تبعاتها على مناطق النزاع كانت كارثية. إذ نشهد اليوم تجميداً للنزاعات في أفريقيا والشرق الأوسط، نظراً لغياب أي حافزٍ لدى الأطراف الإقليمية والدولية لإنهائها. فالقوى الكبرى والمتوسطة لديها القدرة على إدارة خلافاتها بخوض لعبة «المثلّثات» كي لا تغرق في رمال النزاعات. أمّا الدول المنغمسة في النزاع، فلم يعد لديها دافعٌ حقيقيٌّ لحلّ مشكلاتها. فمهما كانت الانعكاسات الجانبيّة التي قد تؤثّر على جيرانها، يظل في الإمكان الحدّ من مخاطر انتشارها خارج حدودها من خلال إدارة تلك النزاعات من بعيد، عبر إعادة معايرة المثلّثات، أو إنشاء مثلثات بديلة.

بالنسبة للدول الكبرى والمتوسطة فإن تكلفة إنهاء الحروب وإرساء السلام في جوارها القلق تفوق إلى حدٍّ كبيرٍ التكاليف الهامشية لاستمرارها. فالنزاعات يمكن أن تُجَمَّد في الزمن وتُبعد عن دائرة الأنظار. ولكن مثلثات بريماكوف لا تنفع اللاعبين الأصغر. صحيحٌ أنّ هذه المثلثات منحت اللّاعبين المتوسطين والكبار قدراً من الاستقرار، لكنّها في الوقت نفسه كبّلت حركتهم في المسائل التي لا تشكّل تهديداً فوريّاً لتوازن القوى المحيط بهم. مما يحد من التزامهم مع الشركاء الأصغر، وهو ما واجهه بشار الأسد في نهاية المطاف.

في عالمٍ متعدّد الأقطاب، وفي بلدانٍ تخرج من أتون النزاعات، يمثّل البناء المتأنّي لـا«مثلّثات بريماكوف» وضبط توازنها مدخلاً واعداً لتعزيز مسارات السلام والتحوّل الديمقراطي

ليس أمام الدول الصغيرة أو تلك التي ترزح تحت وطأة الحروب أيّ خيارٍ سوى اللعب عند حافة الهاوية. فلتفكيك حالة الجمود التي تفرضها مثلثات بريماكوف، تلجأ هذه الدول في كثيرٍ من الأحيان إلى جرّ مناطقها نحو شفير الهاوية والتلويح بشبح الفوضى. وبذلك تستطيع تجاوز وزنها الحقيقي عبر تصعيد التوترات، فتُجبر جيرانها واللاعبين الدوليين الكبار على التدخّل لإنقاذ الموقف. إنّ هذه المقاربة جذّابةٌ؛ فمخاطر الفوضى وتدفّق اللاجئين وتصاعد التطرّف تبدو كافيةً لحمل الجميع على تركيز جهودهم ووقف نزيف الحروب ذات الأبعاد الإقليمية. لكن في كلّ مرّةٍ يحدث ذلك، يزداد تشجيعُ الأطراف المتحاربة على الاقتراب أكثر من حافة الهاوية. وفي بعض الحالات، عندما تتيقّن تلك الأطراف أنّ كلّ المثلّثات قد استُنزفت في سبيل إنقاذها، تمضي قُدماً لتلقي بنفسها في الهاوية بغية تحصيل مزيدٍ من المكاسب. وهذا بالضبط ما فعله الأسد حين سعى إلى استثمار «مثلّث أستانا» إلى أقصى الحدود، إلى أن تركته روسيا يسقط في الهاوية.

يدرك رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بدوره قيمة اللعب على حافة الهاوية، إذ يظنّ أنّ في وسعه تحريك خيوط العديد من القوى الدولية والإقليمية ليضمن بقاءه في مواجهة أزماته الداخليّة والخارجيّة. وكلّما أجهد اللاعبون الإقليميّون شبكات علاقاتهم الإقليميّة لاحتواء النزاع في غزة، شعر نتنياهو بجاذبية المزيد من تصعيد الحرب جنياً لمكاسب أكبر. اليوم، وصلت مثلّثات التوازن الإقليميّ إلى حدودها القصوى. ولنزع فتيل الصراعات، يسعى الفاعلون الإقليميّون إلى استحداث أساليب جديدةٍ لضبط شبكاتهم، بل وابتكار شبكاتٍ موازيةٍ إن تطلّب الأمر. فمن جهة، تحاول الولايات المتحدة جذبهم إلى تحالفاتٍ ثلاثيّةٍ مع «إسرائيل»، ومن جهةٍ أخرى، يدرك هؤلاء أنّ مصالحهم البعيدة المدى ترتبط بعالمٍ متعدّد الأقطاب يضمن لهم حيّزاً أوسع لإدارة شؤونهم بأنفسهم. معظم اللاعبين الإقليميين يتعلّمون بالطريقة الصعبة ضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، باستثناء نتنياهو ربما. ولا يمكن لأحدٍ الجزم اليوم ما إذا كانت مطالبته بالمزيد من الدعم لمواصلة حربه ستُلبّى، رغم كلّ «العنتريات» التي يبديها فريق الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تأييدهم له. ففي نهاية المطاف، ترامب هو الذي رسّخ عالماً تجري فيه مقايضة المصالح على نحوٍ يقتضي أنّ كلّ منفعةٍ تُقدّم على إحدى حوافّ علاقة ما، تُعوّض بمنفعةٍ مقابلةٍ على حافّةٍ أخرى.

«دروسٌ» من بسمارك

رغم ارتباط اسم بريماكوف بمفهوم المثلّثات، فإنّ لهذه الأداة أصولاً تاريخيّةً ضاربةً في القدم. فالمؤرخون السياسيّون قد يستحضرون مثلاً إرث شبكة المثلّثات التي نسجها أوتو فون بسمارك إبّان عمله على توحيد ألمانيا في القرن التاسع عشر. وُلد بسمارك في أسرة نبيلة تملك مساحةً متواضعة من الأراضي الزراعية، والتزم التزاماً راسخاً بالنظام الملكي حرصاً على تعزيز مكانة الأرستقراطيّة الإقطاعيّة في بروسيا، الولاية الألمانيّة الأكبر آنذاك.

بزغ نجمه خلال ربيع الثورات الأوروبيّة العام 1848، مدافعاً شرساً عن النظام الملكي في وقتٍ أوشك فيه القيصر على التخلّي تماماً والاستجابة لمطالب القوى الليبراليّة والثوريّة المتشدّدة. كان الملك الضعيف قد أقرّ بتشكيل برلمانٍ جديدٍ ووضع دستورٍ جديد. تآمر بسمارك كي يحمل هذا الملك على التنازل لصالح شقيقه، بطريقة أثارت ريبة زوجة الشقيق وجعلها تضمر له عدم الثقة. وقد ظلّت مشاعرها تلك ملازمةً لها حتّى بعد سنوات، حين اعتلى زوجها العرش أخيراً وصار القيصر فيلهلم الأوّل.

بحلول أواخر 1848، عاد الملكيّون في ألمانيا - كما في معظم أرجاء أوروبا - لاستعادة مواقعهم. فتراجع القيصر عن كثيرٍ من الإصلاحات التي كان قد تبنّاها تحت وطأة الضغوط. لكن بسمارك، ومعه العديد من أفراد الأرستقراطيّة، شعروا بالقلق حيال طموح القيصر الجامح في توحيد السلطة، وإضعافهم بعد تلك الأحداث. فقد اعتادت النخب الإقطاعيّة الحفاظ على نفوذها عبر استثمار مكانتها بوصفها طبقة مالكة للأراضي ضمن النظام السياسي المتشظّي الذي أعقب انهيار الإمبراطوريّة الرومانيّة المقدّسة. في خضمّ ذلك، برز بسمارك بصفته ضابطاً عسكريّاً شاباً وواعداً، يتمتّع بحضورٍ لافتٍ وقدرةٍ فائقةٍ على الخطابة والإقناع؛ فكان مدافعاً شديد الشراسة عن النظام القديم.

بيد أنّ ألمانيا المتفكّكة باتت فريسةً سهلةً للقوى الأوروبيّة الأخرى. ورأى القيصر أنّ توحيد ألمانيا سيجعل منها القوّة المركزيّة في القارّة، إلا أنّه لم يكن قويّاً بما يكفي لمواجهة الأرستقراطيّة والكنيسة الكاثوليكيّة بمفرده، إذ تمسّك كلاهما بالنظام القديم لخدمة مصالحه الخاصة المرتبطة بتوحيد ألمانيا تحت حكمه. لم يكن لدى القيصر من خيارٍ سوى التنازل كثيراً لليبراليين لإضعاف الكنيسة والأرستقراطيين في محاولته توحيد ألمانيا.

وجد المحافظون والأرستقراطيون أنفسهم أمام خياراتٍ محدودة: إمّا الانضمام إلى مشروع الملك وقبول إدارته لمسار الانتقال من ألمانيا المفكّكة إلى الرايخ الموحّد سعياً للحفاظ على ما تبقّى لهم من امتيازات ومكاسب، أو خسارة المواجهة لصالح الليبراليين. في خضمّ ذلك، دفعوا ببسمارك إلى الواجهة ليتصدّر قيادة هذه العمليّة، فأنشأ الرجل أوّل مثلّثٍ من التحالفات، جمعه مع جنرالَين: أحدهما مارشال عسكري، والآخر عنصرٌ رفيعٌ ضمن الهيكل الإداريّ، فكسب بذلك الجانبين الميداني والبيروقراطي. ارتفع نجم بسمارك سريعاً بعد أن عُيّن رئيساً لوزراء بروسيا بفضل ذلك التحالف.

Bismarck. Des eisernen Kanzlers Leben in annähernd 200 seltenen Bildern nebst einer Einführung. Herausgegeben von Walter Stein. Im Jahre des 100. Geburtstags Bismarcks und des großen Krieges 1915. Hermann Montanus Verlagsbuchhandlung, Siegen und Leipzig 1915

مضى بسمارك في تشكيل مثلّثاتٍ سياسيّةٍ داخليّةٍ مختلفة، ترمي إلى ترسيخ نفوذه ضمن نفوذ النظام الملكي الساعي للتوسع في ألمانيا. فتحالف مع حزب الوسط والليبراليين الأقلّ تطرفاً ضدّ الكنيسة الكاثوليكيّة، تلك القوّة النافذة التي كانت وقتذاك تحتفظ بقدرتها على التأثير في صنع القرار، وقد شكلت عائقاً أمام نظام ملكي مستقل عن إرادتها. وفي الوقت نفسه، نسج مثلّثاتٍ أخرى مع الأحزاب الصغيرة لضبط نفوذ الكتل الكبيرة.

اصطفّ إلى جانب الليبراليين الأقلّ تطرفاً بتبنّي فكرة تأسيس دولة الرعاية الاجتماعيّة في مواجهة الليبراليين الأكثر راديكاليّة والاشتراكيين المطالبين بتحديد الملكيات الخاصة، كلّ ذلك مع حرصه الدائم على الحفاظ على توازنٍ دقيقٍ من الدعم يُبقيه في قلب تلك التحالفات. كانت كتلته في البرلمان صغيرةً نسبيّاً، لكنّه استعان بـ«لعبة المثلّثات» لحماية موقعه الهشّ من هجمات الليبراليين والاشتراكيين الأكثر تطرّفاً، ومن المحافظين الأكثر تشدّداً على حدٍّ سواء.

لجأ بسمارك أيضاً إلى «لعبة المثلّثات» في سياساته الخارجية لاحتواء تدخلات فرنسا والنمسا وروسيا، إذ عمد إلى تبديل تحالفاته باستمرار، موازناً بين قوتين لمواجهة الثالثة في كلّ محطةٍ. وهكذا نسج تحالفاتٍ داخليّةٍ وخارجيّةٍ قادت في نهاية المطاف إلى توحيد ألمانيا عبر مسارٍ طويلٍ وشاق. لكنّ فنّ التوازن في «لعبة المثلّثات» اقتضى تقديم تنازلاتٍ لشركائه في كلّ مثلّث، ما أفسح المجال للقوى الاجتماعية الناشئة كي تُعظّم حضورها في الساحة السياسيّة.

في نهاية الأمر لم تنبثق الأنظمة السياسيّة الليبراليّة والديمقراطيّة في أوربا من صُلب ثوراتٍ جياشة كما تفترض كثير من السرديّات الرومانسيّة، بل جاءت نتيجة إعادة معايرة دقيقة لتحالفاتٍ جديدةٍ سعت إلى استقرار الدول بعد أزماتٍ وصراعاتٍ عصفت بها.

فن «الريال بوليتيك»

غالباً ما يُوصَف بسمارك بأنّه المهندس البارع لنهج «السياسة الواقعية» أو «الريال بوليتيك» (Realpolitik)، لكن فضل ابتكار هذا المصطلح يعود في الواقع إلى خصمٍ سياسيٍّ له، هو الثائر السابق أوغست لودفيغ فون راوخو.

أمضى راوخو جزءاً غير يسيرٍ من شبابه هارباً في دولٍ أوروبيّةٍ عدّة إثر مشاركته في هجماتٍ على وحدات الشرطة في فرانكفورت إبّان شبابه. ومع ذلك، عاد في نهاية المطاف إلى ألمانيا للعمل صحافيّاً خلال ثورة 1848. وعندما باءت الثورة بالفشل، نُفي مجدّداً.

في منفاه؛ حظي راوخو بما يكفي من الوقت للتأمّل، فنشر في العام 1851 دراسته الشهيرة «أساسيات السياسة الواقعية». ذهب في دراسته إلى أنّ القيصر والكنيسة والأرستقراطية الإقطاعية شكّلوا مثلّثاً مصيريّاً قضى على الثوّار. لم تكن تلك القوى، في الأحوال الاعتيادية، على وفاقٍ بينها، وحياة بسمارك نفسها دليلٌ على تناقضاتها. لكنّ الهجمات التي شنّها الثوّار ضدّ الثلاثي الملكي-الكنسي-الأرستقراطي أجبرت الثلاثة على التحالف معاً، رغم تضارب مصالحهم.

رأى راوخو أنّ على القوى التقدميّة أن تنسج بدورها تحالفاتٍ مع جهاتٍ لا تتفق معها بالضرورة من الناحية الأيديولوجية، إذا أرادت أن تُحدث أثراً حقيقياً في السياسة الألمانيّة. وقد انضمّ هو وحزبه إلى «لعبة المثلّثات» التي أتقنها بسمارك على مدى العقدين التاليين، تلك اللعبة التي أتاحت للقيصر توحيد ألمانيا، ولـبسمارك تعزيز سلطته، وللقوى الاجتماعية الديمقراطيّة أن تقيم دولةً دستوريةً ليبراليّةً بنظام رعايةٍ اجتماعيّة يحمي الطبقات العاملة.

كان بسمارك سيّداً في فنّ تحقيق التوازن السياسي عبر نسج «المثلّثات»، لكنَّ لقب «عرّاب المثلّثات» رسا في نهاية المطاف على بريماكوف. وكثيراً ما يُنسَب لبسمارك ابتكار مصطلح «الريال بوليتيك»، بينما الحقيقة أنّ وضع هذا المفهوم يعود إلى خصمه الليبرالي أوغست لودفيغ فون راوخو، كما تقدّم.

لقد اختبر بسمارك استخدام المثلّثات في إدارة السياسات الخارجيّة، وأعاد بريماكوف إحياءها، غير أنّ انتشارها اليوم يعود إلى عددٍ كبيرٍ من القوى المتوسّطة التي باتت تتقن هذه اللعبة على نحوٍ يفوق ما تخيّله الثلاثة مجتمعين. 

«المثلثات» ليست خارجيّة فحسب

مع ذلك، حين نتحدّث اليوم عن «مثلّثات بريماكوف»، نميل إلى اعتبارها محض أدواتٍ للسياسة الخارجيّة، وننسى أنّ وظيفتها الرئيسة كانت أساساً في إدارة التوتّرات الداخليّة. فالمتظاهرون الذين خرجوا إلى الشوارع العربيّة مطلع العام 2011، وهم يعتقدون أنّهم سيطيحون بالأنظمة ويشيّدون صروح الديمقراطيّة، لم يدركوا كيف استدرجوا مباشرةً إلى لعبةٍ معقّدةٍ من شبكات المثلّثات الداخليّة والخارجيّة على امتداد الإقليم.

وفي حين استطاعت بعض الدول التي اجتاحها الربيع العربيّ الاتّكاء على تحالفاتٍ قويّة، لم تحظَ دولٌ أخرى بتحالفاتٍ توازيها في الصلابة. ففي بعض الحالات، نفّذ الجيش انقلاباتٍ صامتةً من خلف الستار، وبدّل شراكات بلاده كي تضمن الدولة العميقة بقاءها، ولو جاء ذلك على حساب التضحية برؤوس الأنظمة الحاكمة. وفي دولٍ أخرى، ظلّت المؤسّسة العسكريّة على ولائها للأنظمة، واستخدمت العنف المفرط للدفاع عنها. وقد حفّز هذا الاختلال في المعادلة القوى الدوليّة والإقليميّة على التدخّل؛ سعياً منها لتعظيم موقعها في تلك المناورات الحسّاسة لتوازنات المثلّثات الإقليميّة. ومن أجل تحقيق مكاسبها، لعبت تلك الدول بورقة دعم الثورات باعتبارها ورقةً تفاوضيّةً، ثمّ استغنت عنها عند اللحظة المناسبة، ضمن لعبة الشدّ والجذب التي تحكم حسابات هذه المثلّثات.

ما يبعث على الأسى حقّاً هو أنّ عدداً كبيراً من أبناء العالم العربي ما زالوا ينظرون إلى الأمور بعينٍ لا ترى سوى اللونين الأسود والأبيض، كما يتجلّى في الخلافات التي نشهدها اليوم في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، حيث يتنازع المجتمع المدني الليبرالي العلماني مع الثوار الإسلاميين المحافظين.

في آخر المطاف، وفي البلدان الخارجة من النزاعات، تحتاج القوى السياسية أن تبدأ تعلّم قواعد لعبة بريماكوف في مهمة إعادة تشكيل كيان الدولة.

لقد كان بسمارك، الذي نسج طيفاً واسعاً من المثلّثات الدوليّة لترسيخ أسبقيّة بروسيا وتوحيد ألمانيا، بارعاً أيضاً في توظيف المثلّثات الاجتماعيّة والاقتصاديّة وسط القوى السياسيّة الألمانيّة البارزة. لكنّه ما كان ليتمكّن من بناء تحالفاته الثلاثيّة من دون أن يتعاطى مع أشخاصٍ من طراز راوخو. وفي المحصلة، لم يتحقّق التغيير إلّا عندما استطاعت القوى الاجتماعيّة والسياسيّة، على اختلاف توجّهاتها الأيديولوجيّة، إدارة خلافاتها عبر التفاوض الدقيق في أعقاب الثورات.

في الخلاصة، قد يكون مصطلح «مثلّثات بريماكوف» في غير محلّه، لكنّ تشكيل تحالفاتٍ ثلاثيّةٍ مدروسةٍ يبقى سبيلاً لا مفرّ منه لإدارة الشؤون الدوليّة والداخليّة. ففي عالمٍ متعدّد الأقطاب، وفي بلدانٍ تخرج من أتون النزاعات، يمثّل البناء المتأنّي لهذه المثلّثات وضبط توازنها مدخلاً واعداً لتعزيز مسارات السلام والتحوّل الديمقراطي، شريطة أن تُدرك الأطراف عبثية الدخول في صراعاتٍ صفريّةٍ على حافة الهاوية.

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها

This work by SOT SY is licensed under CC BY-ND 4.0