مية السلامة
لا تحمل دكاكين العطارة أو «الصيدليات الخضراء»، كما يحب بعض أصحابها تسميتها، طابعاً اقتصادياً واجتماعياً فقط، إذ تشكل هذه المهنة جزءاً حياً من تراث مدينة حلب، فالعطارون كانوا متمركزين في المدينة القديمة ضمن سوق خاص بهم، وكان يبلغ تعداد محاله 82 منها 42 دكانا مختصاً ببيع الأعشاب والتوابل، قبل تدميره كليّاً خلال سنوات الحرب، ما اضطرهم إلى فتح بدائل في المناطق الحديثة والشعبية كصلاح الدين والخالدية والجميلية والإسماعيلية والفرقان وغيرها.
ومع افتتاح بعض أسواق المدينة القديمة كالسقطية والأحمدية؛ عاد العطارون إلى فتح محال آبائهم وأجدادهم حماية لإرث عائلاتهم الذي يمتد لعقود في هذه الحرفة المستمرة في الحفاظ على مكانتها التراثية والطبية والاقتصادية رغم ضعف الاستثمار المجدي لها.
إقبال كبير
يتردد الحلبيّون بشكل كبير على «الصيدليات» الخضراء كما يقول حبيب ملاحفجي، صاحب أقدم محل عطارة في المدينة بمنطقة باب الحديد، والملقب بشيخ العطارين.
يضيف ملاحفجي «قديماً كان عدد الأطباء قليلاً، وبذلك أصبح الطب الشعبي بديلاً، ويعود اليوم إلى مجده بعد ارتفاع أسعار الأدوية والوضع المعيشي الصعب والاقتناع بفوائده حتى من الأطباء، الذين يرسلون إلي أحياناً بعض مرضاهم للتداوي بالأعشاب التي تعتبر مكملاً وليست بديلاً عن الأدوية».
يقصد الحلبيّون دكان «شيخ العطارين» من مناطق مختلفة، لكن الإقبال الأكبر من المناطق الشرقية وأرياف حلب، لأن علاقة أبناء المناطق الريفية بالأعشاب الطبية ظلت وثيقة.
خبرة متوارثة
ورث العطار ملاحفجي مهنة أبيه وجده الذي مارسها منذ العام 1910، وألف كتاباً عن الأعشاب يتضمن فوائدها ومضارها وكيفية استخدامها، واليوم يسعى «شيخ العطارين» إلى طباعته ليكون مرجعاً موثوقاً.
يتحدث ملاحفجي بكثير من الحب عن مهنته التي لم يكتف بخبرة عائلته فيها، بل طور نفسه بالتعمق بدراستها، قائلاً: «في عمر الثامنة كنت آتي إلى محل جدي ووالدي بعد دوام المدرسة، واسألهم عن كل عشبة بغية إتقان المصلحة، واليوم أعلمها لأولادي وأي شخص يرغب بتعلمها، فلا احتكار في العلم وخاصة إذا كان يحقق فائدة للناس، تغمرني السعادة حينما يشعر المريض بالتحسن. أعمل في هذه المهنة منذ خمسين عاماً، ومنذ زمن جدي نجحنا في معالجة أمراض عديدة كالجلدية مثل الصدفية والبهاق، وعدم الإنجاب وتساقط الشعر».
يؤكد «شيخ العطارين» ازدياد عدد أصحاب هذه المهنة في مدينة حلب، بعدما كان سابقاً لا يتجاوز أصابع اليد، ويفوق اليوم المئة عطار، مبيناً أن المشكلة الوحيدة لهذا التراث عدم وجود مرجعية له.
«أساس العلاج»
يتفق مع ملاحفجي العطارُ محمد فتوح، الذي يُعدُّ محل عائلته في سوق السقطية، من أقدم محال العطارة، وقد أعاد افتتاحه بعد ترميمه. يؤكد فتوح تزايد الطلب على الأعشاب لفوائدها الكثيرة، فهي «أساس العلاج، ومنها تركب وتصنع الأدوية» حسب قوله.
يشير فتوح إلى تركيبه العديد من الوصفات الطبية بناء على خبرته المتوارثة أباً عن جد، بالتزامن مع تطوير مهاراته بالاطلاع على كل تفصيل يتعلق بهذه الصنعة التراثية، مبيناً أن أغلب الأعشاب إنتاج الأراضي السورية، باستثناء قلة قليلة تستورد من بعض الدول كمصر والهند.
الطب التكميلي في الجامعات
يروي الشاب مصطفى قصاص كيف دفعه عشقه لهذه المهنة إلى السفر خارجاً لدراستها ونيل شهادة علمية مختصة بالطب البديل أو التكميلي، لعدم وجود اختصاص علمي في الجامعات السورية حتى الآن. ويضيف قائلاً: «تعمل عائلتي في مهنة العطارة منذ 80 عاماً، بدأتُ تعلُّمها منذ الصغر على يد والدي، واليوم لدي خبرة تقارب 25 عاماً».
يشير مصطفى إلى ضرورة التفكير بتدريس «الطب البديل» في المدارس والجامعات السورية لاستثماره بشكل صحيح في ظل ما تمتلكه البلاد من أعشاب غير متوافرة في كثير من بلدان العالم.
ومع ذلك، يشدد مصطفى على أن الأعشاب قد تترك تأثيرات جانبية كالدواء، في حال عدم امتلاك العطار الخبرة الكافية، فبرأيه يوجد بعض العطارين ممن يعملون في هذه الصنعة بقصد التجارة بدون امتلاك أبسط أساسيات العمل، واصفاً إياهم بـ«الدخلاء على المهنة»، وهذا يؤثر على العطارين الفعليين ذوي الخبرة والمعرفة.
فيما يؤكد جاره من العائلة ذاتها، الشاب محمد قصاص، الذي كان أول من فتح محله بعد ترميم سوق السقطية، أن «الطب بديل يعود اليوم إلى مكانته السابقة، بعد زيادة الطلب على منتجاته وخاصة من الريفيين، بينما يفضل أهالي المدينة الدواء كونه يعطيهم نتائج سريعة».
وحول أسباب قصد الناس له رغم صغر سنه، يقول الشاب الثلاثيني: «هو توفيق من الله، إضافة إلى عشق هذه المهنة التي لا تكفيها الموهبة والخبرة، فمن يرغب في اكتشاف كنوز الطب الشعبي عليه أن يحبها أولاً».
الحاجة والقناعة
تختلف القناعة بالتداوي بالأعشاب من شخص إلى آخر حسب معتقداته وتجاربه وأمراضه أيضاً، تؤكد الأربعينية بتول نوح، أنها تقصد محال العطارة والتوابل لشراء الأعشاب والزهورات بقصد معالجة أمراض بسيطة كالرشح وخاصة في فصل الشتاء، إضافة إلى بعض النواحي التجميلية كونها آمنة أكثر، لكن في الأمراض الأخرى تفضل التوجه إلى الأطباء المختصين.
يخالفها الحاج أحمد بادنجكي، الذي يفضل، بعد تجارب عديدة مع الأطباء، التداوي بالأعشاب مع اختيار عطارين معروفين، موضحاً: «بالنسبة لعمري تبقى الأعشاب أفضل من الأدوية، أحبّذ أخذ ملينات طبيعية وآمنة خشية من مضاعفات لا تناسب وضعي الصحي».
كذلك تفضل السيدة هناء عبد الحميدي، ابنة ريف حلب المقيمة حالياً في المدينة، الأعشاب الطبيعية، تقول: «نحن أهل الريف نعرف فوائد كل نبتة ومضارها، فباستثناء التي تنمو بالبرية، معظم الأعشاب شغل أيدينا نزرعها ونهتم بها، ولأنني مقيمة حالياً في المدينة أتردد إلى محال العطارة لأخذ احتياجاتي، وحينما أزور قريتي في منطقة خناصر أحضر بعض الأعشاب الطبية والعطرية معي، فمن المفروض امتلاكها في كل بيت».
«بترول أخضر»
تمتلك سوريا بسبب مناخها وموقعها الجغرافي نباتات وأعشاب ذات خصائص علاجية غير موجودة في كثير من بلدان العالم التي حاولت بعضها زراعتها لكنها لم تكن بالجودة ذاتها، ومع الأسف هذه الثروة غير مستثمرة وتفقد قيمتها النسبية نتيجة بيعها وتصديرها خاماً بأسعار زهيدة، وهو ما يؤكده نائب الجمعية العلمية السورية للأعشاب الطبية والطب التكميلي والتجانسي هشام قاسم.
يصف قاسم الأعشاب والنباتات العطرية بـ«البترول الأخضر»، لكن «للأسف استثماره شبه معدوم، لأسباب عديدة منها تقليد الفلاحين بعضهم بعضاً عند نجاح تجارب زراعة محصول ما، وهذا يؤدي إلى انخفاض قيمته مقابل ارتفاع أسعار منتجات أخرى غير مستثمرة، ما يفترض تغير قناعات الفلاحين ووضع مناطق استثمار محددة حسب مزايا كل منطقة».
ويبين قاسم أن التعاون الانتقائي والخجول للجهات العامة والخاصة أحد الأسباب أيضاً، فالجمعية وقعت اتفاقيات تعاون عديدة (قبل سقوط النظام السابق) تتضمن تقديم معلومات علمية للاستثمار بهذا المجال، لكن واقعياً لم تثمر عن أي فعل اقتصادي حقيقي، باستثناء وضع «دستور» خاص بالأعشاب الطبية موثق بالصور لكل أصنافها في سوريا، وصل إلى مرحلة التراخيص لاستصداره رسمياً.
الاستثمار الذكي
يرى قاسم أن «لا جدوى من المهرجانات الخطابية والمعارض المنظمة إذا لم تنتج استفادة اقتصادية سريعة واستثماراً ذكيّاً للأعشاب الطبية»، علماً أن الجمعية طورت هذه النقطة من خلال مخبر مرخص من «غرفة صناعة حلب» مختص بإجراء البحوث الصناعية والكيميائية ومنها تجارب الأعشاب، وينظم دورات تدريبية لخريجي الكليات الطبية أو الصيدلانية أو الهندسات الزراعية لاستخلاص مستحضرات جلدية من الأعشاب الطبية، وهذا يمكنهم من خلق مصلحة تدر أرباح مباشرة عليهم.
يشدد قاسم على ضرورة أن يكون أي منتج مستخلص من الأعشاب تحت إشراف طبي، والأمر ذاته ينطبق على محال العطارة، بغية استثمار وترشيد الأعشاب ومعرفة كيفية تخزينها للمحافظة على خصائصها العلاجية.
ويرفض قاسم مصطلح «الطب البديل»، فالأصح هو «الطب التكميلي»، الذي يؤمن به أطباء أكثر، وخاصة في منطقة الساحل، الذين يعدون «الأكثر اقتناعاً بهذا الطب كحال المجتمع المحلي في تلك المنطقة، لدرجة قد يصفون دواء عشبياً عوضاً عن الكيميائي، بينما أطباء حلب يعتبرون الأقل إيماناً به على مستوى سوريا».
كما يشدد على أهمية وضع خطة استراتيجية لاستثمار الأعشاب الطبية، والاتجاه صوب الاستثمار الذكي وإنشاء صناعة أعشاب مستقلة، أسوة ببعض الدول المجاورة خاصة أن كل مقوماتها متوافرة في سوريا، كما أن التحول من الشكل العشبي إلى الطبي ليس صعباً، ما يتوجب اتخاذ الإجراءات المطلوبة لمنع بيعها خاماً بالكيلو أو الطن، بل بيعها بـ«الغرامات» كالذهب تماماً، وعند تحويلها إلى خلاصات زيتية ومستحضرات طبية تباع بأضعاف قيمتها وتنعكس بفوائدها على أطراف العملية الإنتاجية كافة.
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0