عماد الدين موسى - كاتب ضيف
تكتب إيمان حميدان روايتها كما يُنسج ضفير من أصواتٍ متباينة، من نساءٍ يتوارثن الحكي كما يُورَّث القهر، وأزمنةٍ متداخلة تُفصح عن حضورها من خلال انكسارات الأفراد؛ روايتها «أغنيات للعتمة»، الصادرة عن دار الساقي في بيروت (2024)، تتجاوز حكاية عائلةٍ إلى فضاءٍ سرديّ يتنقّل بين الضوء والعتمة، اليومي والتاريخي، الخاص والعام، بلغةٍ دافئة تنساب وتخفي تحت سطوحها جروحاً عميقة.
تبني الرواية سردها على التقطيع الزمني، فتتجاور المراحل التاريخية من أوائل القرن العشرين حتى اجتياح بيروت في ثمانينيات القرن الماضي بدون دافعٍ تأريخيّ، لإبراز كيف تُعيد المأساة نفسها، كمهزلة، كعبء موروث. وتشكل المرأة النقطة التي تتقاطع عندها هذه الأزمنة، فهي من يدفع ثمن الحرب والسلطة والذاكرة.
ينتقل السرد عبر أربع نساء من عائلة الدالي: شهيرة، وياسمين، وليلى، وأسمهان؛ تبدو هذه الشخصيّات أشبه بمرايا يعكس بعضها بعضاً، تمثيلات مختلفة للمرأة في مجتمع ذكوريّ لا يتغيّر إلا شكليّاً.
الرواية مبنيّة كجدارية، كل فصلٍ منها لوحة جديدة، لكنّها تشترك في خلفيّة واحدة: العتمة المتوارثة.
النساء بوصفهن أرشيفاً للألم
شخصيّات الرواية تُجسّد أكثر من كونها أفراداً، فهي تمثيلات لوعي اجتماعيّ ونفسيّ وجسديّ؛ «شهيرة» تمثّل الجيل الأول، حيث الخضوع الصامت، والأمومة المقهورة، والتضحية المفهومة كواجبٍ حتمي. أما «أسمهان»، فتمثّل الجيل الأخير الذي يسعى لتفكيك هذا الإرث، من موقع الرغبة في فهمه وكتابته.
كلّ امرأة في الرواية هي صندوق ذاكرة، وهذه الذاكرة ليست فقط ما حدث إنما ما جرى إسكاته، وتغييبه، وكبته. حتى في علاقة النساء بعضهن ببعض، لا نجد التآلف دائماً إنما نشهد الصراع بين الأم والابنة، بين الموروث والرغبة في القطع، في إيماءة واضحة إلى أنّ البنية الذكورية قد تسكن أحياناً في الأم نفسها.
عندما يُغنّي السرد
عنوان «أغنيات للعتمة» يتجاوز حدود الاستعارة، ويشكّل مفتاحاً أسلوبيّاً للرواية؛ تُكتب العتمة بصيغة النشيد لا الغصّة، وهو ما يمنح النصّ فرادته، بقدرته على تحويل الألم إلى كتابة مشغولة برهافة شعريّة.
اللغة في الرواية تواجه القسوة من دون أن تسقط في البكائيّة؛ تنحت المعنى من الحطام، وتمضي في البحث عن الأمل، حتى حين يبدو خالياً من ملامحه.
تستعمل حميدان لغة تقترب من الجسد، من الرائحة والملمس والنبض، فتبدو المشاهد كما لو أنها تُرى لا تُروى. بناء لغوي بعيد عن الخطابة، ومشغول بسرد حميميّ، داخلي، مكتوم أحياناً، لكنه مشحونٌ دوماً بطاقة مُقاومة.
كتابة تنبع من الجرح
تسرد إيمان حميدان الحكاية كما تُنحت من الداخل، فهي تكتب من موضع الانكسار نفسه. السرد عندها ليس بناءً هندسيّاً تقليديّاً إنما نسيجٌ حيّ، نابض بالذاكرة والغياب، بالندبة والهمس، وكأنّ اللغة لا تُستخدم لتروي إنما لتلملم ما تناثر من الذات.
يتجلّى هذا الحسّ السرديّ بوضوح في معظم أجزاء الراوية. نقرأ: «شهيرة جدّة أمّي ماتت وهي تسأل: ماذا لو عاد الجرادُ ثانيةً يأكل مؤونتنا ويقتل أولادنا؟ وأنا أسمهان أعيش بلا كريم ابني. خطفه والدُه من حضني في يوم عيد ميلاده السّابع. هكذا نحن نساء عائلة الدّالي: نرحل، أو نصمت، أو نجنّ، أو ببساطة نموت قبل الأوان كأزهار الكرز».
الصوت الفرديّ يتجاوز حدوده ليغدو شاهداً على قرنٍ من الألم اللبنانيّ، من قمع الدولة العثمانية إلى الاستعمار الفرنسي وصولاً إلى الحرب الأهليّة
يبدأ المقطع أعلاه من سؤالٍ معلّق، من فزعٍ متوارث، وتتوالى بعده المصائر كأنها مشاهد صامتة، تومض في فيلمٍ منسيّ لا يُعرض إلا في ذاكرة من عاشه. تهمس الشخصيات بدل أن تصرخ، وتُشير بدل أن تطالب، فيما تُكتب الرواية من داخل غرفة مغلقة، يجيء الضوء الوحيد فيها الوحيد من وهج الكتابة نفسها.
أسلوب حميدان يتجه نحو الفهم أكثر من سعيه للانتصار، ويرتكز على التداخل الحي بين زمن الحكاية وزمن البوح، متجاوزاً البنية الكلاسيكية. إنها كتابة تنبع من الندبة وتدور حولها، تُجسّد الألم كخلفيّة هامسة تُضيء جماليات الحكي.
السرد بوصفه مُقاومة
«أغنيات للعتمة» ليست رواية فردانية بالمعنى الضيق، إنما تحمل في جوهرها طابعاً جماعيّاً، حتى حين تنطلق من ذاتٍ محددة. فالصوت الفرديّ يتجاوز حدوده ليغدو شاهداً على قرنٍ من الألم اللبنانيّ، من قمع الدولة العثمانية إلى الاستعمار الفرنسي وصولاً إلى الحرب الأهليّة اللبنانيّة.
تتجاوز الرواية التشخيص السياسي، وتتعمّق في ما هو أبعد؛ كيف يتحوّل التاريخ إلى عبءٍ على الجسد، وكيف يُنقش الحزن في الملامح، وكيف تتبدّل الأمومة من فعل حنان إلى فعل صمود. بهذا المعنى، يتجلّى السرد كفعل مقاومة، مقاومة للنسيان، ومواجهة للاستلاب.
مُفارقة الضوء والعتمة
تبدو «أغنيات للعتمة» محاولة لاختراق الصمت، لتفجير اللغة داخل الظلمة، لتقديم الغناء ليس احتفالاً إنما صرخةً ناعمة، موسيقى ضدّ المحو. هذه المفارقات تعكس جماليات الرواية بأسرها؛ القدرة على الجمع بين النعومة والعنف، بين الجرح والجمال، بين الهشاشة والصلابة.
لفهم النسيج العميق للرواية، لا بدّ من التوقّف عند الكاتبة نفسها؛ فإيمان حميدان، روائية وصحافية وباحثة لبنانية، تنتمي إلى جيل من الكاتبات اللواتي لا يفصلن بين الكتابة والمعايشة. فهي تكتب من تماسٍ مباشر مع المجتمعات، مع اللغة، ومع النساء، ومع الذاكرة التي تُغفلها الروايات الرسمية.
درّست حميدان الكتابة الإبداعية في جامعات عدّة حول العالم، ما أكسبها حسّاً تقنيّاً عالياً، دون أن يُفقدها صوتها الحميميّ. وهي كاتبة مشهودٌ لها بقدرتها على صهر البحث السوسيولوجي في بوتقة السرد، ما يجعل أعمالها تحمل تلك الكثافة الإنسانية والمعرفية في آن. اختيرت عضوة في لجنة تحكيم جائزة «البوكر» العربية العام 2022، ومن أبرز أعمالها «خمسون غرامًا من الجنّة»، التي فازت بجائزة «كتارا» للرواية العربية العام 2016، وهي رواية تستكمل فيها اشتغالها على المسكوت عنه في حيوات النساء، وعلى العلاقات بين الحبّ والجسد والحرية.
إنّ وعي حميدان الباحثة بالتحليل، وخبرتها الصحافية في التقصّي، ومهارتها السردية في الإنصات للصوت الداخلي، كلّها تجتمع لتصنع رواية ليست عن نساءٍ مهمّشات فقط إنما عن معنى التهميش نفسه، عن كيفيّة حدوثه، وتوريثه، وتمزيقه من الداخل. بهذا تصبح «أغنيات للعتمة» جزءاً من مشروعها الأوسع؛ تحويل الهامش إلى مركز، والصوت الخافت إلى لحنٍ دائم.
رواية تنزف ببطء
«أغنيات للعتمة» تُقرأ ببطء وتُستَدرَج كما تُستَدرَج الذاكرة؛ هي رواية تأخذ بيد القارئ إلى عمق التاريخ الشخصيّ والوطنيّ، بدون أن توفّر عليه التعب أو الصمت أو الحيرة. رواية تُشبه اللوحات المُغبّرة، تحتاج أن تُمسَح بعينٍ حنونٍ حتى يظهر لونها الحقيقيّ.
بهذا المعنى، يمكن القول إنّ رواية إيمان حميدان ليست شهادةً على زمن، إنما هي احتكاكٌ زمنيّ بالجسد، إذ يصبح التاريخ تجربة جسدية أكثر من كونه سرداً زمنياً، دعوة لأن نصغي إلى الأصوات التي لم يُسمح لها أن تُقال، وأن نغنّي، ولو للعتمة.
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0