× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

بين ربيعين: 1848 - 2010.. دروس الثّورة والتحوّل

عقل بارد - شعوب وحروب 13-06-2025

ما الذي يجعل الثورات تنهض؟ وما الذي يجعلها تصمد؟ ولماذا تسقط أحياناً في فخ التناحر أو العجز أو التهميش؟ هذا المقال يحاول أن يسهم في فتح هذا الباب من جديد. لا من موقع تنظيري أو فلسفي، بل من موقع من عايش ما جرى، ومن يسأل نفسه كل يوم: ماذا تبقّى؟ وماذا يمكن أن نبني من جديد؟

الصورة: (من مظاهرات الربيع العربي في مصر / AFP)

من الصعب اليوم أن نجد في جيل الشباب الذي رفع رايات الثورات العربية بدءاً من أواخر العام 2010 من لا يشعر بالإحباط.

بعد نحو خمسة عشر عاماً من انطلاق هتافات «الشعب يريد..»، عاد كثرٌ إلى المربع الأول: القمع، الفقر، الغموض، وانسداد الأفق. الكل يتحدث عن فشل الربيع العربي، عن انتصار الدولة العميقة، واستبدال أنظمة عسكرية بأنظمة عسكرية أخرى، وعن انقسام المجتمعات طائفياً وأيديولوجياً، وعن جيل ضائع. لكن في زحمة هذه السوداوية، ننسى أن للتاريخ إيقاعاً مختلفاً، أبطأ من الشعارات، وأطول من الهزائم.

مرّت أوروبا بموجة ثورات مشابهة في العام 1848. انطلقت من باريس، وامتدت إلى برلين، وفيينا، وميلانو، وبودابست. خرج الناس مطالبين بالخبز والحرية والدساتير. تجمع العمال مع الطلبة، الليبراليون مع القوميين، النساء مع الرجال، وكلهم حلموا بزمن جديد. لكن لم يمر عام حتى كانت الثورات قد قُمعت، وقادة الحراك إما في السجون أو المنافي. ومع ذلك، لم تنتهِ الحكاية هناك. فالخيال السياسي الذي أطلقته تلك الثورات ظل حاضراً، وتسلل بهدوء إلى قوانين، ودساتير، وحركات، وحتى إلى ثورات لاحقة. وكأن الثورة ليست فقط لحظة تغيير، بل هي أيضاً لحظة إدراك أن النظام القائم قابل للكسر.

اليوم؛ نحن بحاجة لنتذكر هذا. لا لنجمّل الماضي أو نُهوّن من قسوة الحاضر، بل لنفكر بهدوء: ما الذي يجعل الثورات تنهض؟ وما الذي يجعلها تصمد؟ ولماذا تسقط أحياناً في فخ التناحر أو العجز أو التهميش؟ هذا المقال يحاول أن يسهم في فتح هذا الباب من جديد. لا من موقع تنظيري أو فلسفي، بل من موقع من عايش ما جرى، ومن يسأل نفسه كل يوم: ماذا تبقّى؟ وماذا يمكن أن نبني من جديد؟

التغيير على نار هادئة

قبل 1848، لم تكن أوروبا ساكنة. كانت هناك تحولات بطيئة، وحركات تظهر وتخبو، ومثقفون يكتبون عن العدالة والحرية والمساواة. تشكلت نقابات عمالية، وظهرت حركات نسوية، وصعدت أصوات تطالب بتوسيع المشاركة السياسية، خاصة في المدن الكبرى. هذه التراكمات لم تنضج لتصبح ثورات بحد ذاتها، لكنها هيأت الأرض للانفجار. كانت تلك الحركات بمثابة مختبرات سياسية، يبني فيها الناس لغة جديدة للحقوق والمواطنة.

فشل الثورات لا يعني فشل الفكرة. هناك شيء تغيّر في الوعي. لم تعد الشعوب ترى الأنظمة كما كانت تراها قبل 2010

في المقابل، جاءت الثورات العربية في لحظة فراغ سياسي. لم تكن هناك حركات قوية ومنظمة تقود الشارع. غابت النقابات المستقلة، وتآكلت الأحزاب، وقُمع كل شكل من أشكال التنظيم المدني لسنوات طويلة. وعندما خرج الناس، خرجوا بدافع الغضب أكثر من الرؤية. خرجوا حاملين مظلومية حقيقية، لكن بلا أدوات كافية لترجمتها إلى مشروع سياسي جامع.

هذا لا يقلل من شجاعة جيل الشباب الذي اندفع إلى الشوارع، لكنه يُظهر هشاشة البنية التحتية للفعل الجماعي. فالثورة، كي تنجح، تحتاج إلى شيء أكثر من الانفجار العاطفي. تحتاج إلى بُنىً سياسية أخلاقية، إلى تحالفات تتجاوز اللحظة، وإلى لغة مشتركة تستطيع أن تجمع المختلفين.

في أوروبا 1848، اصطدمت الثورات بواقع صلب: النخب لم تكن مستعدة للتنازل، والجيوش بقيت موالية للأنظمة، والانقسامات بين الثوار أنفسهم (ليبراليون مقابل اشتراكيين، قوميون مقابل فيدراليين) سرّعت الانهيار. في العالم العربي، حصل شيء مشابه: انطلق الصراع بين المدنيين والعسكريين، بين الإسلاميين والعلمانيين، بين الهوية الوطنية والانتماءات الطائفية. ووجدت القوى المضادة للثورة ثغرات جاهزة للانقضاض عبرها.

لكنْ؛ هناك درسٌ مهم من كل هذا: فشل الثورات لا يعني فشل الفكرة. هناك شيء تغيّر في الوعي. لم تعد الشعوب ترى الأنظمة كما كانت تراها قبل 2010. لم يعد الناس يثقون ببساطة، ولم تعد الروايات الرسمية تمرّ بلا سؤال. صار على الأنظمة العربية أن تحسب حسابات لرضا مجتمعاتها للمرة الأولى. وهذه بداية تغيير قد يبدو اليوم بعيد المنال ولكنه ليس مستحيلاً.

أين البذور؟

في 1848 والسنوات التي مهّدت لها، ظهرت أصوات من خارج المركز الأوروبي التقليدي. كتبت نساء مثل فلورا تريستان (Flora Tristan 1803-1844) عن حق العاملات في الكرامة، ونادى مفكرون من المستعمرات مثل الهندي رام موهان روي (Ram Mohan Roy 1772-1833) بحق الشعوب في تقرير مصيرها، وطالب آخرون، مثل ديفيد والكر (David Walker 1796-1830) بإنهاء العبودية. لم تكن هذه الأصوات تملك الجيوش، لكنها زرعت أفكاراً ستؤتي أكلها لاحقاً من خلال تنظيمات نقابية وحركات اجتماعية وسياسية.

في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، أعادت الحركات العمالية والتنظيمات النقابية تجميع صفوفها بعد 1848. استفادت من التجربة، وبدأت تبني من الأسفل: جمعيات، صناديق تضامن، مدارس ليلية للعمال، وأشكالاً أولية من الإعلام الشعبي. كما تحالف بعض الليبراليين المعتدلين مع الاشتراكيين في محاولة لإعادة صياغة خطاب سياسي أكثر اتزاناً، لا يستعدي الدولة بالكامل، بل يسعى لتعديلها من الداخل.

كاريكاتور لـ فرديناند شرودر حول هزيمة ثورات 1848/49 في أوروبا (نُشر في Düsseldorfer Monatshefte، آب 1849)

كان لظهور مفكرين من طراز لويس بلان (Louis Blanc 1811-1882)، وفرديناند لاسال (Ferdinand Lassalle 1825-1864)، تأثير واضح على المزاج السياسي في أوروبا الغربية. فهم لم يطرحوا نقداً للرأسمالية فحسب، بل حاولوا إيجاد أدوات ملموسة لتوسيع نطاق المشاركة السياسية: توسيع حق الاقتراع، إنشاء التعاونيات، المطالبة بتعليم مجاني، وربط العدالة الاجتماعية بفكرة الأمة الحديثة. هذه اللبنات، وإن بدت صغيرة، مهدت الطريق لنضج سياسي أسهم لاحقاً في صياغة الدساتير الحديثة، وعلى رأسها دستور ألمانيا في 1871 بعد توحيدها.

في العالم العربي، لدينا اليوم بذور مشابهة: شبكات من المبادرات المدنية، منصات إعلامية مستقلة، محامون وحقوقيون، فنانون يكتبون وجعهم باللوحات والموسيقا. قد لا يغيرون المعادلة الآن، لكنهم يصنعون وعياً مختلفاً. يصنعون لغة جديدة. بالطبع لن يصنعوا أي تغيير إذا ظلّت طرائق تفكيرهم ونشاطاتهم رهناً بمقبولية نشاطهم أمام المانحين وثقافة الكولونيالية الجديدة المرتبطة بتمويلاتهم. ولكن هناك فرصة حقيقية للعمل من وعي المجتمع ومن داخل ثقافته وموارده. 

ما الممكن؟

لكي نخرج من مأزق «ما بعد الربيع العربي»، لا يكفي أن نندب الماضي، ولا أن ننتظر الثورة القادمة. بل يجب أن نعمل على بناء تحالفات أخلاقية، تحالفات لا تقوم على المصالح الضيقة أو الانتماءات الطائفية، أو الجدليات المتهافتة بين الفكر الديني والفكر العلماني.

نحن بحاجة أن نُعيد تعريف الفعل السياسي. أن نفهم أن السياسة ليست فقط في البرلمان أو الحكومة، بل في الحي، وفي المدرسة، وفي الإعلام، وفي الشارع

قادة التغيير في أوروبا لم ينجحوا في تغيير المجتمع عبر محاربة قيمه الدينية. ربما كان هذا الدرس الأكبر بعد فشل ثورات 1848. بل نجحوا في زحزحة تمسك القوى التسلطية التقليدية من خلال تحرير الفكر الديني من قبضة الدوغمائية الدينية والتركيز على القيم الأخلاقية والمعرفية للدين. نجحوا لاحقاً في تقييد سلطة الملوك والنخب الرأسمالية إلى حد ما من خلال العمل على بناء رؤى مشتركة لما هو عادل، وما هو ممكن. تحالفات تبني ثقة جديدة بين المواطنين، وترى في الاختلاف غنى، لا تهديداً.

اليوم في العالم العربي، نحن بحاجة أن نُعيد تعريف الفعل السياسي. أن نفهم أن السياسة ليست فقط في البرلمان أو الحكومة، بل في الحي، وفي المدرسة، وفي الإعلام، وفي الشارع. وأن المقاومة لا تكون فقط عبر المظاهرات، بل أيضاً عبر الصبر اليومي، والإصرار على الكرامة، والبحث المستمر عن معنى. والعمل على توسيع دائرة الممكن بدلاً من الندب على أبواب القوى الكبرى والمطالبة بالتدخلات الخارجية.

في المحصلة؛ لا توجد إجابات سحرية، فالثورات لا تُقاس بما تحقق فوراً، بل بما زرعته في الوعي. ما كان يجب أن يحدث خلال الأعوام الثلاثين التي سبقت ثورات الربيع العربي يجب أن يحدث اليوم. علينا أن نرفض الاستسلام للسوداوية، أن نرفض ترك الهزيمة تحكي القصة وحدها. ما نحتاجه الآن ليس انتظار موجة ثورية جديدة، بل بناء قدرة جماعية على توليد سردية جديدة مبنية على الثقة والفعل الأخلاقي المنظّم. ففي زمن الضياع، لا تبقى إلا الروايات التي يعرف أصحابها إلى أين يتجهون.. وكيف يكتبون مستقبلهم بأيديهم، لا بأوهام الآخرين.

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها

This work by SOT SY is licensed under CC BY-ND 4.0