عماد الدين موسى - كاتب ضيف
الرسم مولّد بالذكاء الاصطناعي
ثمّة ميل واضح لدى الكاتب السوري راهيم حسّاوي (من مواليد 1980) إلى اختيار موضوعات ترتبط بالتحوّلات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها سوريا في العقود الأخيرة، بوصفها حاضرة في التفاصيل اليومية، تؤثّر في مسار الحياة وتعيد تشكيل علاقة الفرد بذاته وبمن حوله، متجاوزة كونها أحداثاً خارجية عابرة. يتعامل حسّاوي مع الكتابة كأداة تحليل لآثار الحرب على المستوى الشخصي والداخلي، يذهب نحو الشخصيات الهامشيّة، المهزومة، والمربَكة، ويجعل من حياتها الخاصة مادة للسرد، دون أن يفرض عليها خطابات جاهزة أو مواقف حادّة.
في روايته الأحدث «النشيد الأولمبي»، الصادر عن دار نوفل/هاشيت أنطوان في بيروت (2025)، يواصل هذا التوجه، متخذاً من مدينة اللاذقية خلفيّة لأحداث تتعلق بانعكاس الحرب في العلاقات، الحب، الخوف، والقرارات المؤجلة، بعيداً عن الجبهات الساخنة. إنها رواية تنظر إلى الداخل، إلى ما يحدث في النفس عندما تصبح الحياة من حولها غير مألوفة.
يبتعد الكاتب عن تقديم البطولة بوصفها مجداً، وينقض صورتها بهدوء داخلي عميق، ليضع القارئ وجهاً لوجه أمام أولئك الذين لم يُصنّفوا أبطالاً، وعاشوا في الظل، وهزمهم الزمن، أو أبعدتهم الظروف عن ساحة الحياة بصمت. الحكاية مشبعة بجوّ الحرب دون تمحور حولها، وتفيض بتأثيرات السياسة من دون جعلها موضوعاً مباشراً. كما تتغلغل فيها العلاقات الإنسانية المتشابكة والمرتبكة، فتتشكل داخلها كثافة شعورية تنبع من الحب دون أن يكون محوراً ظاهراً.
الوجه الهادئ للحزن
تدور أحداث الرواية في مدينة اللاذقية، لكنّها تتجاوز المحلي إلى الأسئلة الكونية عن الحب، الفقد، الهوية، والذاكرة.. شخصيات الرواية ليست مركزية بمعناها الكلاسيكي، هي نماذج مأخوذة من الحياة اليومية، من أولئك الذين لا يُروى عنهم في الأخبار، ولا يُكتب عنهم في الكتب، لكنهم يمثّلون جوهر الإنسان العادي الذي يعيش بصمت في عاصفة كبرى لا يد له فيها.
تشكّل شخصية علياء الللبّ العاطفي للرواية. هي نموذج للمرأة التي تعيش وحدتها بطريقة متماسكة، تمشي كل صباح على الكورنيش، تمارس الرياضة كنوع من العلاج الذاتي، كأنها تطرد من جسدها أثر الحزن، أو تحاول مصالحة جراحها الجوانية بالحركة والإيقاع المنتظم.
«النشيد الأولمبي» عمل عن أولئك الذين لم يُكتب عنهم في كتب التاريخ، ولم تظهر صورهم في نشرات الأخبار، ولم تُرفع أعلام باسمهم
تنتمي علياء إلى بيت كُسرت أركانه الداخلية: أمّها غارقة في صمتها، تحمل ذاكرة فقدٍ لا تُروى، وشقيقها انتحر تاركاً فراغاً بلا تفسير، أما الأب فمهاجر في دبي، حاضر بالاسم وغائب بالفعل، يعيش حياته منفصلاً عن أسرته التي تآكلت. في خضم هذا التفكك، تمثل علياء شكلاً من أشكال المقاومة الهادئة. تحتج بصمت، لا تكتب أو تصرخ، لكنها موجودة، وتحاول أن تخلق توازناً هشاً، أن تجد لنفسها معنى في الحياة، عبر علاقات غير مكتملة أو لحظات مؤقتة من الدفء الإنساني.
طيّار غريب يهبط داخل نفسه
تُعتبر شخصية لوكاس من أكثر شخصيات الرواية إثارة للتساؤل؛ ضابط روسي، فردٌ في قوة أجنبية جاءت لدعم النظام السوري السابق انطلاقاً من قاعدة حميميم الجوية، في داخله إنسان هش، تائه، ضائع داخل طبقات من الذاكرة المعطوبة والهوية المرتبكة. حمل منذ طفولته جرحاً لا يُشفى، حين شهد مقتل والده أمام عينيه، وتحوّل ذلك الحدث إلى نواة داخلية لا يتجاوزها، يعيش وفقها. الحرب بالنسبة له معركة داخلية، كل طلعة جوية امتداد لهروبه، وكل علاقة إنسانية يحاول أن يدخلها تبدو محاولة لإنقاذ نفسه من حطام روحه.
تقوم علاقته بعلياء على اعتراف ضمني بأنهما متشابهان من حيث العمق الداخلي: كلاهما فقد شخصاً عزيزاً، وكلاهما يفتقد المعنى، ويبحث عن توازن روحي. حين يلتقيان لا يتكلمان كثيراً، لكن اللقاء بينهما هو نوع من التنفس، محاولة للالتصاق بالحياة، ولو مؤقتاً. لوكاس يمثل في الرواية الجانب الغريب، غرابته ثقافية ووجودية، إذ لا يعرف من يكون تماماً، ولا إلى أين ينتمي، وهذا قد يجعله أكثر قرباً من القارئ، باعتباره إنساناً محطماً يبحث عن نقطة ضوء في عتمة كثيفة.
العنف والموهبة في مشهد عبثي
في الرواية، تتقاطع شخصيتان مختلفتان جذرياً: «صفوان» و«بديع». صفوان ملازم في الجيش، يعيش بمنطق القوة، ويؤمن بالهيمنة، ويستخدم جسده وسلطته ليخضع الآخرين. يمثل نموذجاً لرجل السلطة الذي يُمارس العنف لأنه لم يتعلّم غير ذلك. نشأ في بيئة عسكرية، تربى على الطاعة والتسلط، وتحول مع الوقت إلى نسخة مشوهة من النظام الذي ينتمي إليه.
أما بديع فهو النقيض التام: فنان شاب، موهوب، حساس، يؤمن بالمسرح والكلمة، يُطرد من معهد التمثيل بسبب وشاية، لكنه لا يتخلى عن حلمه.
بديع لا يحمل السلاح، يقاوم بطريقة مختلفة: بالكلمة، بالتجربة، وبالحب. يقع في حبّ «سوسن»، وتشكل علاقته بها نوعاً من الملجأ، لكنها علاقة محفوفة بالخوف أيضاً، لأن كل شيء في حياته هش، مؤقت، ومهدد بالخراب. التوازي بين صفوان وبديع في الرواية يمثل رؤية الكاتب لصراعات داخل البلد نفسه: العنف ضد الثقافة، السلطة ضد الحلم، البطش ضد الإبداع. والغلبة هنا دائماً لمن يحتفظ بإنسانيته وسط كل هذا الخراب، لا لمن يملك الصوت الأعلى.
جوقة النشيد
كل شخصية في الرواية تكتب نشيدها الخاص، بالموسيقى، بالألم، بالرموز، باليومي والبسيط؛ بدءاً من الأب الذي يزرع شتلة ريحان على شباك نافذته لتخليد ذكرى ابنته القتيلة، إلى المرأة التي تفقد ابنها وتظل تنتظره رغم علمها بموته، إلى الفتى الذي يركض كل صباح لأنه لا يملك طريقة أخرى للتنفيس عن ذاته. كل هؤلاء يشكلون جوقة «النشيد الأولمبي» الحقيقي، نشيد الهزيمة النبيلة، الذي يُهمس في البيوت، ويختفي عن الملاعب والاحتفالات.
يقوم الأسلوب في الرواية على البساطة، مع الابتعاد عن السطحية. اللغة مباشرة ونظيفة، تقترب من الأحداث كأنها تمسح الغبار عن تفاصيلها. الجمل قصيرة، وكثافتها العاطفية تجعلها تسري في النفس ببطء، كأنها موجات هادئة.
لعلّ ما يميز السرد فيها هو التوازن بين الحياد الظاهري والانفعال الداخلي، حتى المشاهد العنيفة تُروى برصانة، والمواقف الحميمة تُقدم بلا إثارة. هذه كتابة تحاول التأثير على القارئ، بل تُدخله عالمها شيئاً فشيئاً، حتى يجد نفسه وسط العتمة التي تضيئها التفاصيل الصغيرة: كوب قهوة، شتلة، نافذة، عرق على جبين راكض، أو رسالة لم تُرسل.
اللعب وسيلة مقاومة
يتجلى مفهوم اللعب في الرواية، بوصفه وسيلة للمقاومة؛ يُبرز الكاتب كيف أن الشخصيات، رغم معاناتها، تلجأ إلى اللعب للتعبير عن الذات والهروب من الضغوط اليومية. هذا اللعب أكثر من مجرد ترفيه؛ إنه فعل فلسفي يعكس رغبة الإنسان في التمسك بالحياة رغم كل شيء.
لا يقدم حسّاوي نهاية مغلقة أو مصيراً حاسماً لشخصياته، يتركها معلقة في فضاء من الاحتمالات، كما لو أن كل مصير فردي هو مشروع حياة مؤجلة في زمن معلّق. الرواية لا تدّعي تقديم إجابات بقدر ما تطرح أسئلة عن الحب، والفقد، والهوية، في زمن تتشوش فيه الحدود بين ما هو شخصي وما هو عام. يبني حسّاوي نصاً يقترب من الهشاشة الإنسانية دون أن يسقط في التقريرية. إنها حكاية داخل الحكاية، سردٌ لا يكتمل، تماماً كالحياة نفسها.
الكتاب: النشيد الأولمبي (رواية) - 176 صفحة 24×14
المؤلف: راهيم حساوي (سوريا) - الناشر: دار نوفل- بيروت (2025)
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0