× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

«شراكة الخيل» في السويداء: محاولة لاستعادة الدم المسفوح

عقل بارد - على الطاولة 27-07-2025

في لحظة تبدو فيها البلاد مجرد جغرافيا منكسرة وخرائط طائفية معلّقة على حبال المجهول، تأتي «شراكة الخيل» من الجنوب السوري لتُذكّرنا بأن ما انكسر ليس بالضرورة بلا أمل. تلك الشراكة، التي قد تبدو للكثيرين حكاية فلكلورية أو طقساً غريباً من الماضي، تعيد اليوم طرح سؤال حاسم: هل يمكن للذاكرة الجمعية أن تصبح وسيلة مقاومة؟ وهل ما زال في اليد ما يُرمَّم؟

في سهول الجنوب السوري على تخوم جبل العرب، وعبر قرون من العيش المشترك الفعلي بإيجابياته وسلبياته، ظهرت شراكةٌ قد لا نفهمها نحن السوريين والسوريات اليوم إلا من باب الاستغراب الممزوج بهزة الرأس وربما الامتعاض، إنها «شراكة الخيل».

تشير هذه الشراكة في سرديات المنطقة وجوارها إلى اتفاق عُرفي بين عائلة بدوية وأخرى درزية، أو بين أفراد من الجانبين، يَمنح بموجبه أحدهما مُلكية شكلية لخيول عربية أصيلة، ويحتفظ الطرف الآخر بحق الانتفاع بها مدّة معينة. لا يستخدم أي من الطرفين ورقاً للتوثيق بل يشهد الاتفاق عدد من الشخصيات الاعتبارية المنتمية إلى الطرفين، وعادةً ما يحصل الاتفاق في مضافةٍ بدوية أو درزية بما يعكس الطابع الاجتماعي والرمزي للمكان.

الحصان.. مفتاح رمزيّة قيمية

يعتبر هذا المشهد الذي يعرفه سكّان المنطقة جيداً، واحداً من الأمثلة التي يجهلها كثرٌ منّا عن طبيعة العلاقة التي ربطت بين الجيران التاريخيين. لقد أثمرت هذه الشراكة عن إنتاج منظومة قيمية تتخطى العقود المكتوبة بالحبر إلى وثيقة شفاهية تُختصر بكلمة منطوقة لا يمكن خرقها بسهولة، وإلى أمانة محفوظة بالنفس والروح.

اعتماد الحصان في هذه المقايضة لم يأت من عبث. يدرك البدوي أنّ فرسه ـ حبيبة دمه وظله في حرّ البادية وتيهها ـ جزء من عِرضه بالبداهة. ويدرك ابن جبل العرب أن حصانه الأصيل جزء من عِرضه بالبداهة. الخيل هنا هو «مَلك الاتفاق» ومادته الثمينة، و«العِرض» هنا قيمة تقليدية مشتركة، وربطُها بالاتفاق تأكيد على القيمة العليا لهذا الميثاق.

الحيوان يحضر هنا بوصفه قيمة ثمينة تتجاوز «البهيمية» إلى كونه قيمة «أصليّةً»، وعلامة مشتركة بين الطرفين، فهو رمز انطلاق البدوي في عالمه، ورفيق الدرزي في سيرة جماعته وحياته. يتخطى الحصان هنا الانتفاع الذي يحققه الطرفان ويتحوّل إلى سردية تساهم في بناء علاقات جذرية. هذا الدفق الرمزي والمعنوي والمادي خلاصة تاريخ طويل من العلاقات المتبادلة التي ربطت البدو والدروز في تلك الجغرافيا القاسية. 

كيف تخلخل النسيج؟

لم تكن شراكة الحصان وحدها التي نشأت عبر قرون العيش المشترك. اتسعت هذه الشراكة لتشمل تبادل الاحتفالات والأغاني والرقصات والطعام المشترك. كانت تجسيداً عملياً لاقتصاد الثقة بين الجيران. فمن هو المسؤول اليوم عن تحويل ذلك العقد الاجتماعي النادر إلى عقد مكتوب بالدم والضحايا والتخريب؟

في الحقيقة، لم تتهدم أسس هذه الثقة بين ليلة وضحاها. لقد عملت الدولة المركزية لعقود، بقصد أو بغير قصد، على إضعاف السلطات التقليدية لصالح قبضتها الأمنية، واستبدال الولاءات الأهلية بالولاء للحزب والقائد، فتراجع دور الحكماء لصالح سطوة رجل الأمن. هذا التآكل البطيء جعل النسيج الاجتماعي هشاً، جاهزاً للتمزق مع أول عاصفة كبرى.

«شراكة الخيل» ليست موروثاً جمالياً، بل أساس عقد اجتماعي تنبغي حمايته. ليست حكاية ريفية بل نواة مشروع سياسي-أخلاقي بديل، يتجاوز الدولة حين تفشل، ويتجاوز الطائفة حين تتوحش

تاريخياً، كانت الأعراف القَبَلية هي النظام الفعلي والضابط العام للمجتمعات في المناطق الهشّة، لكن مع تصاعد النزاعات، وانكشاف المنطقة الجنوبية السورية أمام تدخلات إقليمية وأجندات خارجية وأفعال سلطوية، تراجع دور الحكماء والوسطاء لصالح منطق السلاح، وغابت الميثاقيات التقليدية لصالح نزعة فردية وجولات ثأر مقيم.

عاصفة 2024: حين يغيب الحكماء

عقب سقوط نظام الأسد العام 2024، ووصول سلطة جديدة على رأسها جماعة ذات خلفيات جهادية، تغير المشهد بشكل كبير. لا ننسى هنا أن للسويداء حكاية دموية قاسية مع تنظيم «داعش» المتطرف، ولا ننسى أيضاً أن هناك منظوراً عامّاً يضع التنظيمات «الجهادية» على سويّة واحدة من دون أن يشكل فارقاً أن هذه التنظيمات احتربت في ما بينها. 

قد يكون متوقعاً أن تتخلخل الميثاقيات التاريخية حين يطغى صوت الأيديولوجيا، وهنا تحديداً تغدو الحاجة إلى الحكماء أشد إلحاحاً. لكن ما جرى على أرض الواقع أن الاصطفافات السياسية الحادة، وهي سياسيّة قبل أي توصيف آخر، أدت إلى استغلال الهويات لخدمة الأجندات. وبدلاً من الحكماء، تصدر المشهد أمراء حرب وخطباء تحريض. أما التدخلات الإقليمية والأجنبية، فلم تكن مجرد مال وسلاح، بل كانت أيضاً خطاباً إعلامياً ممنهجاً يعيد كتابة التاريخ، ويصور الجار «عدواً أبدياً»، ويستغل كل حادثة ليجعلها شرارة لحريق طائفي شامل.

هل يمكن الترميم؟

في الغالب، لا تصل المجتمعات المتجاورة، الصغيرة منها والكبيرة، إلى لحظة الحرب إلا بعد قطع مسافة زمنية طويلة من الهدوء والاستقرار تنشأ خلالها منظومات متعددة تحمي وتبني وتيسّر مختلف أنواع العلاقات بين تلك الجماعات، هذه المنظومات نفسها هي التي تقوم بدور رئيس في ترميم العلاقات بعد نشوب حروب بين تلك المجتمعات وانتهائها أو انطفائها. 

على الأرجح كانت منظومة الميثاقيات التقليدية كفيلة بتوقيف أي نزاع ولأي سبب عند حده بشرط أساسي: ألا تعلو فوق الميثاقيات أية منظومة من خارجها بما في ذلك منظومة إشكالية مثل «منظومة الدولة» أو القوة التابعة للدولة، وهي المنظومة الطارئة على مجتمعات تشكل العشيرة لبّها وجوهرها.

هذه بكل تأكيد ليست دعوة إلى النكوص إلى مجتمعات ما قبل الدولة وأعرافها، لكنّ لللأزمات استثناءات تفرض نفسها، خاصة حين يكون مفهوم الدولة في حد ذاته على المحك، وحين تكون «الدولة» مجموعة التباسات هائلة تحت الأنقاض، وتحتاج إعادة بناء جوهريّة، بعد توافر الإرادة بالضرورة.
في الجنوب السوري وعبر التاريخ وقعت عشرات المعارك والاشتباكات بين العشائر البدوية العربية وسكّان جبل العرب، ولأسباب تراوح بين الصراع على المياه والمرعى وبين الحاجة للتوسع الجغرافي والسكاني أو غير ذلك من أسباب. 

برغم ذلك، تروي الوقائع التاريخية أنّ المنطقة المحيطة بـ «جبل العرب» ـ وللاسم دلالته في إصرار الدروز والبدو معاً على هذا الاسم ـ كانت منطقة مشتركة للرعي والزراعة لكلا الطرفين وأنّ أحداً من الجيران لم يجبر الآخر على اتباع نمط حياته وطقوسه.

يعني هذا وببساطة أنّ الحرب بين هذه المجموعات طارئة وأن السلم و«الانتجاع المشترك» هو الأساس. تصح هذه الحقيقة اليوم وغداً على المجتمعات المجاورة ومن النادر أن تتمكن جماعة من إفناء جماعة أخرى مهما امتلكت من تقنية وقوة، فبعد أكثر من أربعة قرون على حروب المستوطنين الأوروبيين على الهنود الحمر ما زال سكان أميركا الأصليين يعيشون رغم محاولات إفنائهم بتعداد قتلى تجاوز مئتي مليون إنسان.

التراث القيمي بوصفه ملاذاً أخيراً

في خضم التغيرات القاسية التي ألمّت بجبل العرب، تبدو «شراكة الخيل» اليوم أكثر من مجرد ذكرى تاريخية، إنها دعوة ملحة لاستعادة ميثاقيات الضبط الاجتماعي التي صاغها الزمن والعقلاء وشيدت على أُسس الاحترام والوفاء والثقة. هذا التراث القيمي هو خط الدفاع الأخير ضد الفوضى والتشرذم.

إنّ البناء على التاريخ المشترك والاعتراف بالميثاقيات التقليدية يحول دون توصيف الآخر خصماً أو عدواً، ويجعل من «شراكة الحصان» نموذجاً لإعادة الثقة وتأمين السلم الأهلي.

الحرب ليست قدراً

الحرب بين الجيران ليست دائماً قدراً. وفي الوقت نفسه لا تكفي العبارات الإنشائية لاستعادة الميثاقيات التقليدية، بل تحتاج إلى جرأة الاعتراف بجراح الجميع، وإلى حكماء جدد يعيدون خياطة الجرح بالعدل لا بالإقصاء والتقسيم والتهجير. قد لا تكون مهمتهم اليوم إصدار بيانات كبرى، بل البدء بخطوات صغيرة وعنيدة: تشكيل لجان أهلية مشتركة لحماية الأرزاق والممتلكات، أو إرساء اتفاقات محلية، أو حتى إنشاء مجالس عزاء جامعة تكسر حلقة الثأر وتستعيد لغة المواساة.

«شراكة الخيل» ليست موروثاً جمالياً، بل أساس عقد اجتماعي تجب حمايته. ليست حكاية ريفية بل نواة مشروع سياسي-أخلاقي بديل، يتجاوز الدولة حين تفشل، ويتجاوز الطائفة حين تتوحش.

أبناء الجنوب، ككل السوريين اليوم، يقفون أمام مفترق وجودي حقيقي لم يكن ظاهراَ بهذا الوضوح في أي حقبة من تاريخ الدولة السورية الحديثة: إما إعادة بناء الثقة، أو الغرق في تقسيمات لا تشبههم ولا تنصفهم، إما أن نكمل معاً طريقناً أو نفترق إلى الأبد وننسى ما كان يسمى في التاريخ والأغاني «سوريا»!

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها

This work by SOT SY is licensed under CC BY-ND 4.0