عمر عبد العزيز الحلاج
الصورة: (من مراسم توقيع مذكرات التفاهم في قصر الشعب بدمشق - 6 آب/سانا)
في حفل كبير أقيم في قصر الشعب بدمشق، قبل أيام، وُقّعت مذكرات تفاهم استثمارية بين الحكومة السورية (الانتقالية) وعدد من المستثمرين السوريين والأجانب. حزمة مشاريعٍ تبدو سوريا اليوم بأمس الحاجة إلى بعضها، بينما يندرجُ بعضها الآخر في إطار إعلان النوايا حول طبيعة الاقتصاد في المرحلة القادمة.
من بين مذكرات التفاهم المعلن عنها، برز مشروعٌ لإعادة تطوير حي وادي الجوز في حماة. ذلك الحي الشعبي القابع على أطراف المدينة، ولم يبقَ منه سوى الاسم بعد أن أزالته جرافاتُ نظام الأسد. ليأتي المستثمر الجديد وفي نيّته تغيير اسمه إلى «حيّ الياسمين» فيزول الاسم ولا يبقى منه سوى الذكرى!
حيٌّ داخل المدينة، وخارج المكان
لم يكن مشاع وادي الجوز حالةً استثنائيةً في الجغرافيا السورية، بل امتداداً طبيعيّاً لنمطٍ عمرانيٍّ قديمٍ قِدَمَ المدن السورية ذاتها. المشاعاتُ هي أراضٍ ذاتُ ملكيّةٍ جماعيّةٍ، لا يملك أحدٌ حق بيعها أو شرائها، وتعود بالنفعِ المشتركِ للمجتمعات المحلية. اعترف بها القانون في الفترة العثمانية بوصفها إحدى أنواع الحيازة الجماعية. غير أنّ الانتدابَ الفرنسي، في قانون الأراضي الصادر في 1933 اختزلَ حقوقَ الملكيّة العقاريّة بنوعين فقط: العام والخاص. فأُلغيت، بذلك، أطيافُ الملكية المشتركة التي كانت سائدةً في العرف القانوني الإسلامي. وتحوّلت بعض المشاعات إلى أملاكٍ للدولة، وتحوّل بعضُها الآخر إلى ملكٍ خاص لأصحاب المنطقة. وُزِّع، أغلبُها، على شكل حصائر عقارية كبيرة بقي وضعها القانوني معلقاً.
بعد الاستقلال، بدأت هجرة سكان الأرياف إلى المدن، طلباً للوظائف في أجهزة الدولة الناشئة وفرص العمل في الفعاليات الصناعية والخدمية. استقرّت الدفعة الأولى من الوافدين في مراكز المدن القديمة التي غادرها الميسورون من أبنائها إلى الأحياء الجديدة. أما الدفعات اللاحقة من وافدي الأرياف، ومعهم أبناءُ المدن الأصليّون الأقل دخلاً، فتوجهوا إلى أحزمة الفقر في المحيط، التي شكّلت أحياءَ قد تختلف عن «وادي الجوز» بالاسم والوضع القانوني، لكنها لا تختلف عنه في ظروفها الاجتماعيّة والاقتصاديّة. بنى معظم السّكان بيوتاً بحسب استطاعتهم، ثمّ عملوا على توسيعها على مدى سنواتٍ لاحقة. ولئن افتقدت تلك الأحياء التخطيطَ ورخصَ البناء، أي الاعترافَ الرسمي من قبل الدولة، لكنّها لم تفتقد تضامن الأهالي وإحساسهم بالمكان. فاشترى أغلبُهم أسهماً من ملّاك الحصائر الزراعية، أو حقوقَ ارتفاقٍ على أراضي المشاعات كي لا يسكنوا فوقَ أرضٍ مغتصبة.
سعى نظام «البعث» إلى فرض التخطيط المركزي على المدن، في ما عُرف بالتخطيط الاشتراكي (في إطار مرحلة الانتقال العربي إلى الاشتراكيّة) فأصدر الأسد الأب العام 1979 القانون رقم 60، المعروف بـ «قانون التوسع العمراني». منح هذا القانون الجهات العامة سلطةً حصريةً في إدارة توسّع المدن، واستُملكت بموجبه الأراضي الزراعية والمشاعات المحيطة بالمخططات التنظيمية (مثل مشاع وادي الجوز ومشاع الأربعين في حماة) بغرض إعادة تقسيمها وبيعها للمواطنين بسعر التكلفة عبر القطاعات العام والتعاوني والمشترك. لكن التطبيق العملي كشف عن نتائج سلبية واسعة، إذ ترافق بطء الإنجاز وتعقيدات البيروقراطية، مع استغلالٍ للقانون فتحَ أبواب الفساد من خلال التلاعب في التوزيع وبيع الحصص بطرق ملتوية. فبقيت الدولة عاجزة، لا هي استطاعت تأمين السّكن للمواطنين، ولا هي استطاعت تعويضهم حتّى عن حصصهم السّهميّة من الحصائر العقارية التي كانوا يملكونها. أدّى ذلك إلى تراكم التأخير سنة تلو أخرى، وبالتالي تفاقم أزمة السّكن، وبقاء الأراضي مجمّدَةً كشاهدٍ على إخفاق تطبيق القانون أكثر من كونه أداةً للإصلاح.
في عهد الأسد الابن، اختبر النظام مجموعة أدوات للتعامل مع ما سمّي بـ «العشوائيّات» دونَ وجود تعريف قانوني واضح للمصطلح. أُجريت دراسات عديدة حول تلك المناطق، وصلت إلى نتائجَ متباينة في ما يتعلّق بمدى انتشارها وأنواعها. أفادت التقديرات، قبيل الثورة، أنّ نسبة 30% - 50% من سكّان المدن الكبرى باتوا قاطنين في أحياء لم تستطع الدولة الاعتراف بها، ولا تخديمها بالشّكل اللائق، واصطُلح على تسميتها جميعاً «مناطق السّكن العشوائي» رغم تباين الأوضاع القانونية بينها، واختلاف طبيعة حيازة سكّانها منازلَهم التي آوتهم على مدى عقود.
«وادي الجوز» مثالٌ واضحٌ لغياب العدالة الانتقالية في ملفات حقوق السكن، ونموذجٌ لاستعجال المصالح قبل درء المفاسد، قد يتكرّر في عشرات المواقع والمدن
جرت تعديلات عديدة على قوانين قديمة، وكان من بينها القانون رقم /60/ المذكور أعلاه، الّذي عُدّل بالقانون رقم 26 للعام 2000. وبخلاف اللجوء العشوائي إلى هدم ما سُمّي بالمخالفات، أتاحَ هذا القانون بعضَ النماذج القانونية التي قدمت حلولاً متنوعة، راوحت بين إعادة تنظيم تلك الأحياء وتحسينها تدريجاً، وتنظيم سكانها على شكل جمعيات سكنية وفق مخططات تتوافق مع المخطط التنظيمي العام للمدينة، وبين هدم الأحياء وتطبيق المخططات التنظيمية الرسمية رغم كونها مأهولة، ومع امتلاك أهلها درجاتٍ متفاوتةٍ من حقوق الحيازة. ترك القانون للمجالس المحلية حرية الاختيار، بدون وضع معايير قانونية واضحة أو مبررة. وعند التطبيق، لم يكن مهماً إن امتلك سكّان تلك الأحياء إثباتات حيازة، كان المعيار الأساسي وجود ترخيص بناء، وهو ما كان شبه مستحيل مع بطء إنجاز المخططات التنظيمية وفساد الإدارات العمرانية وتقصيرها.
من هنا مرّت الثورة
كان وادي الجوز في أواخر العام 2010 قد بلغ المراحل الأخيرة من مشروع إعادة تخطيطه، وتنظيم سكّانه ضمن جمعية سكنية. كانت «اللقمة قد وصلت إلى الفم» على حدّ تعبير الأهالي لاحقاً. رحلتهم الطويلة نحو تثبيت وضعهم القانوني، والحصول على سندات الملكية المعروفة بـ «الطابو الأخضر» كانت على وشك الاكتمال. لكن مع انطلاق الثورة لم يتردّدوا لحظة في الانضمام إلى الحشود المطالبة بالكرامة والحرية والعدالة. واحتضنت شوارع الحي مظاهراتٍ رفعت لافتاتٍ تدعو إلى التغيير.
تالياً، ومع تحوّل الحراك لاحقاً إلى العمل المسلّح، أصبح «مشاع وادي الجوز» ملاذاً لوحدات من الجيش الحر، واندلعت اشتباكات على أطراف الحي. وفي العام 2013 وبعد ضغوط عسكرية وتهديدات بقصف المنطقة، جرت مفاوضات بين وجهاء الحي وممثلين عن أجهزة النظام السابق، انتهت إلى اتفاق يقضي بخروج المقاتلين مقابل ضمانات بعدم اجتياح الحي. غادر المقاتلون بالفعل، وساد هدوء مؤقت. لكن، وبعد أيام قليلة فقط، دخلت الجرافات رفقةَ القوى الأمنية، وبدأت عمليات الهدم تحت ذريعة «إزالة الأبنية المخالفة»، متجاهلةً مشروع إعادة التنظيم الذي شارك فيه الأهالي. كان ذلك انتهاكاً فاضحاً للاتفاق، وإحدى أوائل حالات العقاب الجماعي بعد توقف المعارك، إذ استُخدمت حجّة التنظيم العمراني أداةً للقمع السياسي، بما يخالف القانون نفسه.
{وفقاً لتقرير هيومن رايتس ووتش (باختصار)، جرت عمليات الهدم من دون اتباع الإجراءات القانونية المعتادة، واتسمت بطابع عقابي استهدف مجتمعات يُنظر إليها على أنها مؤيدة للمعارضة(المحررة)}.
صورة أقمار اصطناعية توضح الأحياء المهدومة في حماة - هوين رايتس ووتش 2014
تحت الخيام، بلا تعويض
منذ ذلك التاريخ تفرّق سكّان الحي على عجل، وقد حمل كلٌّ منهم ما استطاع حمله من متاعه القليل. لجأ بعضهم إلى أرياف حماة الشماليّة، قبل أن تسقط هي الأخرى في قبضة نظام الأسد. وفي نهاية المطاف، انتهى معظمهم إلى ريف إدلب، في خيامٍ على هامش الحدود والخرائط. لم ينالوا أيّ تعويض، لا ماديّ ولا قانونيّ، ولم تُفتح أمامهم أيّة مساراتٍ للتقاضي. ظلّت حقوقهم معلّقة، ومضت سنوات من الانتظار، كانت كافية لامتلاء أوّل بقعة من «الجبّانات» على أطراف المخيمات، تلتها مقابر جديدة.
بعد أن سُوّي وادي الجوز بالأرض، سارعت حكومة نظام الأسد إلى طرحه «مشروعاً للتطوير العقاري». جُهّزت الأضابير وطُرحت للاستثمار، لكن، ورغم تعديل القوانين وتقديم الحوافز الكبيرة، لم يبدأ التنفيذ، فأعيد طرحه مراراً من دون أي شفافية في قرارات تلزيم الاستثمارات. لم يكن المشروع ذا جدوى اقتصادية إلا لمن أراد تبييض أمواله من المتنفّذين، وحتى هؤلاء، لم يجدوا في هذه القناة فائدة تُذكر، فالمصارف السورية ما زالت تحت العقوبات، وتبييض الأموال داخل سوريا لم يكن ليسمح باستخدامها في الخارج. وعليه، بقي المشروع معلّقاً بانتظار نهاية الحرب، حين تتحقق جدواه الحقيقية، بعد أن تسقط حقوق سكّانه بالتقادم.
أصدرت حكومات «البعث» المتعاقبة قوانين ومراسيم ضيّقت على سكّان عديد من الأحياء المخصّصة للتطوير العقاري، وهي في المجمل اختيرت دون سواها لإخراج الحواضن المجتمعية للمعارضة من المدن الكبرى. مُنح أصحاب الحقوق مهلاً قصيرة لتسجيلها، رغم أنّ معظمهم كان مبعداً في الخيام، وقد خرج من بيته هائماً من دون وثائق أو إثباتات. جُهّزت الأضابير الاستثمارية، وأُنشئت في سوريا 36 شركة استثمار عقاري، لكن لم يبنِ أيٌّ منها مسكناً واحداً. ظلّت تلك الأضابير والقوانين معلّقة كسيوفٍ فوق رقاب سكّان مناطق السكن العشوائي والمشاعات؛ سواء ما دمّرته المعارك، أو ما سُوّي بالأرض بعدها، أو ما أُرجئ هدمه إلى ما بعد الحرب.
مؤتمر الاستثمار: من يستفيد من مشاريع الإعمار؟
بعد سقوط نظام الأسد، صدرت توجيهات ملحة من الحكومة الجديدة للإدارات المحلية بجرد جميع فرص الاستثمار المتاحة تحت أيديها. درس بعض المسؤولين أوضاع الأضابير بدقة ورشحوا مشاريع ذات أوضاع قانونية واضحة، بينما سار البعض الآخر سريعاً لتفعيل الأضابير الاستثمارية القديمة التي تعود إلى عهد الأسد. وقع مشروع مشاع وادي الجوز في الفئة الثانية، وذلك، على الأرجح، لأن أحداً لم يستشر أهالي الحي النازحين في الخيام، ولا طالَبهم بتقديم وثائق تثبت حقوقهم.
في اجتماع توقيع الاتفاقيات الاستثمارية الذي أُقيم أخيراً في قصر الشعب، بحضور المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توماس باراك، طُرح مشروع «ياسمين» على أرض وادي الجوز باعتباره فرصة لإعادة الإعمار. إلا أن المذكرة الموقعة مع المستثمر لم تكن نتيجة مزايدة علنية، ولا إعلان عام لتقديم طلبات الاستثمار، كما لم تُمنح مهلة كافية لدراسة المشروع من الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والخدمية، وكيفيّة ربطه بالمخطط التنظيمي للمدينة أو بنيتها التحتية.
لم تتضمن تلك المذكرة أي بنود معلنة تتعلق بمراجعة الوضع القانوني للأرض، ولم تتطرق إلى تعويض حقوق أصحابها المبعدين. المشروع يهدف إلى بناء 2600 وحدة سكنية فاخرة على أنقاض حي شعبي كان يقطنه ما لا يقل عن 6000 أسرة. في مقابلة تلفزيونية، أعلن المستثمر أنه سينفذ المشروع بالتعاون مع أهل حماة، لكن يبقى السؤال: عن أي أهل حماة نتحدث؟ هل هم برجوازية المدينة؟ أم أهالي السكن العشوائي الفقراء الذين باتوا خارج الزمان والمكان للمرة الثانية؟
أزمة تتكرّر: من مخطّط وادي الجوز، إلى خارطة الإسكان الوطنيّة
السكن العشوائي كالماء، إذا سددت أمامه منفذاً سيتجه إلى مكان آخر. وهو كالنار، إذا لم تطفئها بالإنصاف والإحسان فستشتعل من جديد. تحتاج سوريا إلى مئات الآلاف من الوحدات السكنية كل عام، ولن يغطي مشروع للشقق الفارهة سوى نقطة من بحر الاحتياجات. دعونا نفكر بحلول حقيقية وجادة، ونبتعد قليلاً عن الرسومات البراقة المبتدعة بالذكاء الاصطناعي.
هذا لا يعني أن على الدولة السورية أن ترجع إلى منظومة الإسكان القديمة وأن تأخذ على عاتقها بناء المساكن. ولا يعني، بالضرورة، أن دور القطاع الخاص والاستثمارات الخاصة خاطئ، لكن هذا الدور يحتاج إلى ترشيد وفق خطة أولية تحدد احتياجات السكن، والحوافز التي يجب تقديمها للمستثمرين من جميع المستويات الكبيرة والصغيرة، بمن في ذلك أصحاب المساكن الراغبين بإعادة اعمارها. يجب على الدولة أن تحدد الشروط الأساسية لضمانات حقوق الملكية، كي لا يُهجّر سكان العشوائيات لأنهم لم يستوفوا الشروط التعجيزية التي فرضها نظام البعث لضبط ولاءات الطبقات الفقيرة.
لا يشكّل وادي الجوز حالةً فرديةً لحيٍّ مسحته جرافات الأسد في الماضي، ونسيته المشاريع الاستثمارية اليوم، بل هو مثالٌ واضحٌ لغياب العدالة الانتقالية في ملفات حقوق السكن. نموذجٌ لاستعجال المصالح قبل درء المفاسد. نموذجٌ قد يتكرّر، إذا لم ننتبه له باكراً، في عشرات المواقع والمدن، وقد يهدد مئات الآلاف من الأسر التي وقفت مع الثورة في الماضي. التسرع في استقطاب المستثمرين لا يجب أن يحصل بدون الأخذ بأسباب العناية الموجبة واللازمة لإحقاق الحق وإعادة الاعتبار لسكان الخيام الذين صبروا سنواتٍ في العراء، وذلك من أجل كرامتهم، لا من أجل أن يشم سواهم «رائحة الياسمين».
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0