الصورة: (مظاهرة في برلين ضد تقييد لم شمل عائلات اللاجئين AFP - JOHN MACDOUGALL)
بعد انتظار سنوات، حصلت مريم (اسم مستعار) على موعد لإجراء «مقابلة لم شمل» في القنصلية الألمانية بإسطنبول. اقترضت ثمن التذاكر لها ولأولادها الثلاثة من ماردين (حيث تعيش)، وراحت تترقب الموعد بصبر يكاد ينفد، فقد باتت على بعد خطوة من الانضمام إلى زوجها في ألمانيا.
لكن تصويت البرلمان الألماني في 27 حزيران/ يونيو 2025 على مشروع قانون «تعليق لم شمل عائلات اللاجئين الحاصلين على الحماية الثانوية»؛ قضى على هذه الآمال.
في 24 تموز/يوليو 2025 أعلنت الحكومة الألمانية دخول القانون حيّز التنفيذ لمدة عامين، وجاء القرار ضمن سلسلة من الإجراءات المشابهة التي اتخذتها دول أوروبية عديدة عقب سقوط النظام السوري السابق في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024.
في هذا السياق يقول المدير التنفيذي لمنظمة «سوريين من أجل الحقيقة والعدالة» بسام الأحمد: «منذ اليوم الثاني عقب سقوط النظام؛ أعلنت وزارتا داخلية ألمانيا والنمسا تعليق البتّ في طلبات اللجوء الخاصة بالسوريين، وهو ما انعكس بشكل مباشر على ملفات لمّ الشمل».
وفقاً للسجل المركزي للأجانب في ألمانيا؛ بلغ عدد السوريين المقيمين في ألمانيا حتى نهاية شهر آذار/مارس الماضي 968.899 شخصاً، من بينهم 322.998 حاصلاً على الحماية الثانوية، وهذه هي الفئة التي تأثرت بقرار تعليق لمّ الشمل.
تقول مريم (36 عاماً): «عند سماعنا خبر تعليق إجراءات لمّ الشمل؛ ألغيت رحلتي التي كلفتني مصاريف، كما تكبدت عناء تجديد جوازات سفرنا التي شارفت على انتهاء مدتها، لذلك لا أستطيع تحمّل نفقات أخرى مقابل أمر مجهول وغير مؤكد».
أما حنان (اسم مستعار، 39 عاماً) التي هاجر زوجها إلى النمسا منذ خمس سنوات وتعيش مع أطفالها الأربعة في مدينة ماردين التركية، فتصف شعورها قائلةً: «شعرنا بالندم أنا وزوجي على قراره بالهجرة بعد سماع هذا الخبر، فقد مضت خمس سنوات مسبقاً دون إحراز أي تقدّم في إجراءات لمّ الشمل، والآن سوف نضطر إلى الانتظار سنوات أخرى».
في منتصف آذار/مارس الماضي، كانت النمسا أول دولة أوروبية تأخذ قراراً بتعليق إجراءات لم الشمل، ليدخل حيز التنفيذ في 3 تموز/يوليو 2025.
يشرح الأحمد أن حق اللجوء الذي يحصل عليه السوريون في أوروبا يستند إلى اتفاقية 1951، التي تنص على حق أي شخص مهدد أو يخاف الاضطهاد أو الانتهاكات في بلده الأم بالحصول على لجوء سياسي أو إنساني على هذا الأساس. وتُحاجج الحكومات التي علّقت النظر في طلبات اللجوء بأن الأشخاص الذين طلبوا اللجوء بسبب النظام الاستبدادي القمعي، بات بوسعهم العودة إلى بلادهم فذلك النظام لم يعد موجوداً.
نساء في مواجهة التحديات المالية
يؤثر تعليق لم الشمل على آلاف الأسر السورية في تركيا، ومعظم هذه الأسر مكونة من نساء وأطفال، فيما الآباء في بلد اللجوء.
في ظل التضخم المتزايد الذي تشهده تركيا، لم تعد الأعباء المادية التي تتحملها هؤلاء النساء أمراً يمكن التغلب عليه، بل أصبح واقعاً مريراً يواجهنه يومياً.
قررت حنان فتح محل حلاقة نسائية في مدينة ماردين، بعد أن عجزَ زوجها عن إرسال المال لها لمدة عام ونصف العام بسبب عدم حصوله على الإقامة، وبالتالي عدم قدرته على مزاولة العمل. تقول: «زوجي كان يرفض فكرة عملي، ويحثني على تكريس وقتي لنفسي ولأولادي فقط، لكن أمام الغلاء المتزايد كان لا بد أن أعمل».
رغم حصولها وعائلتها على مساعدة شهرية مقدَّمة من الهلال الأحمر التركي، قدرها 500 ليرة تركية لكل فرد (نحو 12 دولاراً) فإن هذا المبلغ لا يكفي حنان لتسديد فاتورة الكهرباء، تضيف: «كل هذا وأنا أعاني من مرض الفتق الأربي الذي يمنعني من المشي لمسافات طويلة، ويزيد عملي في هذا المجال الأمر سوءاً».
تقول حنان إن من حولها ينصحونها بالاستعانة بأطفالها في العمل بدلاً من إرسالهم إلى المدرسة، لكنها تؤكد رفضها ذلك، إذ تريد لأطفالها أن يُكملوا تعليمهم حتى لا يعانوا مثلها، لا سيما أنّ والدهم هاجر لتأمين حياة أفضل لعائلته.
يؤثر تعليق لم الشمل على آلاف الأسر السورية في تركيا، ومعظم هذه الأسر مكونة من نساء وأطفال، فيما الآباء في بلد اللجوء
مريم هي الأخرى ترغب في العمل لتتمكن من مساعدة زوجها، تقول: «عندما أعمل ليومين أو ثلاثة، أعود لأجد أولادي قد أحدثوا فوضى عارمة. لا يمكنني تركهم مع أحد، لذا أعجز عن العمل».
أما سيدار (اسم مستعار، 33 عاماً) فتعيش وابنتها البالغة من العمر عامين وستة أشهر في مدينة ماردين مع أهلها، منذ أن هاجر زوجها قبل عامين إلى هولندا ومن ثم إلى ألمانيا. بحثت كثيراً عن عمل يمكنها مزاولته من المنزل، لكن أغلب الأعمال التي وجدتها كانت مقابل أجر ضئيل لا يتناسب مع الجهد المطلوب. تقول: «لجأت في نهاية المطاف إلى تحويل هوايتي في صنع المكرمية إلى مصدر دخل، يتيح لي ذلك العمل من المنزل والبقاء إلى جانب ابنتي، وإن كان دخله محدوداً».
أبوّة افتراضية!
بينما ينتظر الآباء المهاجرون إلى أوروبا للحصول على الإقامة وإنجاز معاملات لمّ الشمل، يمر الزمن عليهم حاصداً سنوات من عمر أطفالهم بعيداً عنهم، لذلك يتواصلون مع عوائلهم عبر شبكات الأنترنت محاولين التعويض، لتصبح علاقتهم بأطفالهم افتراضية متجسدة في صوت وصورة، تاركين أعباء الأبوة الحقيقية على عاتق الأمهات.
تعيش مريم مع أبنائها الثلاثة في شقة صغيرة ضمن مبنى قديم، لا يصل إليها سوى درج غير آمن. تروي كيف سقط طفلها الصغير من أعلى الدرج مرة أثناء لعبه، بينما كانت تحضر الطعام.
تصف مريم حال ابنها بحرقة: «أدى هذا السقوط إلى تداخل عظمتين في صدره، وهو الآن بحاجة عملية جراحية، إضافة إلى عملية ثانية لمعالجة مشكلة أخرى يعاني منها، لكنني متخوفة جداً من قرار إجراء العمليتين في غياب والده، لذلك أبقينا الأمر مؤجلاً إلى حين قدومه».
تواجه الأم سيدار بدورها تحديات مختلفة مع ابنتها فتقول وهي تحاول كتم دموعها: «لو كان زوجي موجوداً هنا لخفّ الحمل في تربية ابنتي»، مشيرة إلى أن طفلتها التي لم تع غياب والدها وهي رضيعة، اعتادت أن تقول له عبر مكالمات الفيديو: «بابا تعال لعنا».
تضيف سيدار: «أحاول أن أشرح لها أنه ذهب ليؤمن لها مستقبلاً أفضل، لكنها ما زالت صغيرة على فهم هذه الأمور».
تَجبر هؤلاء النساء أنفسهن على الصمود وقمع الحزن من أجل أطفالهن، لكن عند الحديث عن معاناتهن تبدأ المشاعر بالظهور، فتتحدث حنان بصوت مرتجف: «أحد أولادي يخبرني أحياناً كيف يضع يده على خده عندما يشاهد آباء يلعبون مع أطفالهم». تمسح دموعها قبل أن تتابع حديثها: «كثيراً ما يسألني أطفالي: كم سنة مرّت، ألا تكفي لنجتمع؟ وعندما يبدؤون بهذه الأحاديث، أترك المكان حتى لا أبكي أمامهم، فأنا أحاول أن أحبس حزني بداخلي كي لا يؤثر عليهم».
«لن يفهمك إلا من عاش ما تعيشينه»
تشكل هجرة الأزواج منعطفاً قاسياً في حيوات هؤلاء النساء على الصعيد النفسي أيضاً، فيتجلى لديهن التوتر والقلق وقلة النوم والعصبية.
تحاول روجين (اسم مستعار، 27 عاماً) أن تخفي قسوة واقعها خلف ضحكة ترافق حديثها، فهي تعيش مع ابنتها في منزل عائلة زوجها بمدينة ماردين، بينما زوجها يقيم في ألمانيا منذ عامين.
تقول: «بعد ذهاب زوجي أصبحت أكثر عصبية... أشعر دائماً أن هناك شيئاً ناقصاً في حياتي، وهو شعور صعب للغاية. كثيراً ما أتمنى وجوده إلى جانبي خصوصاً عندما أضطر إلى اصطحاب ابنتي الى المستشفى وحدي، أو حين أعتذر عن حضور مناسبات تخص صديقاتي».
كذلك؛ تواجه هؤلاء النساء أثراً نفسياً ناتجاً عن نظرة المجتمع وكثرة التعليقات المحبطة. تقول سيدار: «معظم من حولي يبدون آراءً سلبية دون أدنى تفكير في وقع كلماتهم على نفسيتي»، وتضيف أن بعض المقرّبين لها يسألونها دائماً: «متى سوف تلتحقين بزوجك؟ لماذا هاجر وتركك وحدك؟ هل كان ذهابه ضرورياً؟»، فتكاد تشعر بالإحباط لولا دعم أهلها الذي ساعدها على التماسك، مشيرة إلى أن تجربة إحدى قريبات زوجها التي مرّت بظروف مشابهة كانت العزاء الوحيد لها، إذ «لن يفهمك إلا من عاش ما تعيشينه».
أما حنان فتتحدث عن معاناتها مع الأرق ليلاً، إذ تراودها أفكار ومخاوف مرتبطة بشعورها بانعدام الأمان لغياب زوجها. في المقابل تتلقى تعليقات قاسية من محيطها، موضحةً: «يقولون لي إن زوجي تزوّج عليّ، ولهذا لا يكمل إجراءات لم الشمل»، مبينةً أن لها صديقة واحدة فقط تقف إلى جانبها، وترفع من معنويات أولادها عندما تكون في حالة نفسية سيئة.
فرص علاجية واقتصادية
بالنسبة لكثير من هذه العائلات لم يكن قرار الهجرة إلى أوروبا مجرد خيار لتحسين مستوى المعيشة فحسب، بل كان نافذة نجاة للحصول على فرصة علاج أفضل. تروي مريم أن زوجها أصيب بشلل نصفي بعد أشهر قليلة من زواجهما، ما استدعى نقله من سوريا إلى تركيا لتلقي العلاج، وإلى جانب ذلك يعاني أيضاً من مرض تختّر الدم، وهو ما جعل وضعه الصحي أكثر تعقيداً وحدّ من قدرته على العمل. أمام هذه الظروف، كان خيار زوجها بالهجرة إلى أوروبا المجال الوحيد لتأمين صحته والقدرة على إعالة أسرته. تقول مريم: «تحسنت صحته بعد وصوله إلى ألمانيا، لكنه يعاني نفسياً بسبب غيابه عنا»، وتضيف «لا نعلم ماذا سيحدث بعد قرار توقيف إجراءات لمّ الشمل... لا يستطيع العودة إلى سوريا لعدم توفر العلاج هناك».
تواجه النساء كثيراً من التعليقات المحبطة. تقول سيدار: «يسألونني دائماً: متى ستلتحقين بزوجك؟ لماذا هاجر وتركك وحدك؟ هل كان ذهابه ضرورياً؟»
على غرار مريم، كانت لدى روجين وزوجها أسباب أخرى دفعتهم إلى قرار الهجرة، فقد كان زوجها يعمل ساعات طويلة في تصليح الأدوات الكهربائية وغالباً ما يمتد عمله إلى منتصف الليل، دون أن يشعرا بأي تقدم ملموس نحو تأمين حياة مستقبلية أفضل، ولذلك قرر السفر بحثاً عن فرص أفضل.
هل سقوط نظام الأسد يضمن عودة آمنة؟
منذ سقوط النظام السوري السابق، اتخذت كثير من الدول الأوروبية إجراءات تجاه اللاجئين السوريين، بينها الترحيل. في 3 يوليو/تموز 2025 نفذت النمسا أول عملية ترحيل قسري لسوري إلى بلاده، في إشارة واضحة لسياسات أكثر صرامة، بحسب وصف وزير داخلية النمسا جيرهارد كارنر.
ووفق بيان للأمم المتحدة في اواخر أيلول/سبتمبر 2025، عاد أكثر من مليون شخص إلى سوريا منذ الإطاحة بالرئيس السابق بشار الأسد، ولكنهم يواجهون تحديات كثيرة، إذ يشكل غياب الأمن والبنية التحتية المدمرة ونقص الخدمات الأساسية عائقاً كبيراً أمامهم.
يؤكد المدير التنفيذي لمنظمة «سوريين من أجل الحقيقة والعدالة» بسام أحمد أن الانتهاكات لم تتوقف بسقوط النظام: «صحيح أن الوضع كان مقبولاً نسبياً في الأشهر الثلاثة الأولى، لكن سرعان ما أصبح أكثر صعوبة خصوصاً على الأقليات»، مشيراً إلى المجازر والانتهاكات التي حصلت بحق العلويين والدروز والمسيحيين بالإضافة إلى الاعتقالات التي طالت عدداً من السوريين من مختلف الانتماءات ممن عادوا حديثاً من الدول الأوروبية.
وفيما يخص السياسات الأوروبية، يشدد الأحمد على أن أي حديث عن عودة اللاجئين لا بد أن يرتبط بخلق بيئة سياسية وقانونية قائمة على احترام حقوق الإنسان، مضيفاً: «يجب أن تكون العودة مبنية وفق ثلاثة مبادئ أساسية: آمنة، كريمة وطوعية».