منذ العام 2011 تحولت سوريا واحداً من أكثر بلدان العالم خطورة على الصحافيين، ولا تزال حتى اليوم، رغم تغير المشهد. لم يكن الخطر مقتصراً على الرصاص أو القصف، بل على ما هو أعمق: إفلات الجناة بشكل دائم من العقاب. مئات الصحافيين الذين قُتلوا أو اختفوا قسراً لم ينالوا أي عدالة، وبقيت قصص كثير منهم طي النسيان.
اليوم، مع وقوف البلاد عند مفترق طرق، يبرز سؤال جوهري: هل يمكن لسوريا الجديدة أن تواجه إرث الإفلات من العقاب؟ أم أن الصمت سيظل الغطاء الذي يدفن الحقيقة مرتين؟
ذاكرة الفقد
مُنذ اختفائه في 15 كانون الأول/ديسمبر 2014، أثناء ممارسته عمله قرب الطريق الدولي بين القامشلي وتل كوجر، لا تزال عائلة فرهاد حمو تعيش بين الصدمة والانتظار المستمر. يقول شقيقه، المصور أراس حمو: «غيابه غيّر كل شيء في حياتنا، وكأن الزمن توقف معه».
الواضح أن الانتظار لم يكسر الأمل بشكل كامل، لكنه خلف إرهاقاً عميقاً لدى عائلة حمو «بعد 11 سنة، لا نعرف إذا كان حيّاً أم شهيداً، لكن الأمل لا يزال في القلب»، يضيف أراس بعينين دامعتين: «دائماً ما تتذكره أمي، فتسمع صوته من تقاريره القديمة، أو تطّلع على صوره. لا نريد أن ننساه، نحكي لأولادنا عنه، نقول لهم كان شجاعاً، لم يخف، وكان دائماً يقول الحقيقة. نحن لا نريد أن يموت مرتين؛ نريد أن يتذكروه الجميع».
كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد اعتمدت في 2013 قراراً أعلنت فيه يوم 2 تشرين الثاني/نوفمبر «يوماً دولياً لإنهاء الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحافيين»، وذلك اعترافاً بالنتائج البالغة الأثر للإفلات من العقاب.
عدالة معلّقة
خليل (اسم مستعار) وهو صحافي من دير الزور اعتقل لدى النظام السوري السابق، ولدى تنظيم «داعش» المتطرف. فضل عدم كشف اسمه خوفاً من نشاط خلايا التنظيم في أرياف دير الزور. يقول لـ«صوت سوري» إن «الإفلات من العقاب تحول إلى اختبار يومي لمصداقية المرحلة الانتقالية. هو صراع بين الذاكرة والصفح، بين محاسبة المجرمين واستمرار بعضهم في المؤسسات الجديدة، وبين العدالة الانتقائية التي تترك الكبار دون مساءلة. العدالة تحتاج إطاراً قانونياً ومحاكمات عادلة».
يضيف: «الإعلام يجب أن يكون شريكاً في بناء الذاكرة الجماعية، والمجتمع الدولي مدعو لدعم الاستقرار دون شروط مسبقة. معاً يمكننا كتابة فصل جديد لسوريا، حيث العدالة للجميع».
«كانوا يعتبروننا أخطر من حملة السلاح، كان التعامل معنا أقسى، لأنهم يرون فينا تهديداً لهيبتهم أكثر مما يرونه في أي شخص آخر»
يُسلط الصحافي سلام حسن، من ريف القامشلي، الضوء على الأثر الاجتماعي والنفسي للإفلات من العقاب، ويرى أنه «يشبه شكلاً من أشكال العقاب الجماعي، وقد يخلق نفوراً من مهنة الصحافة لدى الأجيال القادمة». ويضيف حول سلوك الصحفيين بعد تجارب اعتقال سابقة: «هناك من توقف عن العمل، وهناك من يمارس الصحافة بحذر، ومنهم من أصبح أكثر تصميماً على الاستمرار. وبعضهم يندمج كليّاً في أطراف تسعى إلى الإفلات من العقاب».
يعتقد حسن أن الحل يكمن في التمسك بـ«الصحافة الملتزمة، الواعية، المنحازة لحقوق الشعوب، والمهمشين. نشر الوعي، والحفاظ على المعلومات الصحيحة، والسعي دائماً نحو الحقيقة والشفافية. ه1ا السبيل الوحيد لمواجهة الإفلات من العقاب».
«أخطر من السلاح»
يستذكر ريبار (اسم مستعار) تجربة اعتقاله في 2013. يروي لـ«صوت سوري» أنه كان عائداً من لقاء مع أحد زملائه لإعداد تقرير عن الاعتقالات، فأوقفه عناصر أحد الحواجز في إدلب بناءً على «مذكرة استدعاء». يضيف: «ظننتها مجرد استفسارات روتينية كما كان يحدث كثيراً للصحافيين. لكن حين صادر العناصر هاتفي، وأُغلقت الأبواب خلفي في الفرع، أدركت أنني لن أخرج قريباً».
يؤكد الشاب أن أسباب اعتقاله كانت تقتصر على عمله. «لم يكن هناك سبب آخر. لم أنتمِ إلى أي جهة سياسية، ولم أشارك في أي عمل مسلح. في التحقيق كل الأسئلة كانت تدور حول مقالاتي، والأشخاص الذين التقيت بهم، والمصادر التي أعتمد عليها». يروي ريبار تفاصيل مريرة عن التحقيق، والاعتقال، والتعذيب، والضغوط النفسيّة الهائلة التي مرّ بها هو و«زملاء الاعتقال»، ويضيف: «كانوا يعتبروننا أخطر من حملة السلاح، كان التعامل معنا أقسى، لأنهم يرون فينا تهديداً لهيبتهم أكثر مما يرونه في أي شخص آخر».
الحساب على النوايا
في صباح شتوي بارد في 2019، خرج الصحافي رامان (اسم مستعار) من منزله في القامشلي، ليجري مقابلة مع سياسي مفرج عنه من سجون الإدارة الذاتية. لم يكن يعلم أنه التقرير الأخير عن المعتقلين، قبل أن يتحول هو نفسه إلى معتقل. يقول: «عند دوّار الهلالية، أوقفتني دورية، طلبت هويتي، ثم اقتادتني إلى جهة مجهولة من دون مذكرة أو توضيح». بعد أيام علمت عائلته أنه محتجز بتهمة «نشر أخبار كاذبة تسيء إلى الإدارة وتضر بالأمن العام».
إفلات مرتكبي الجرائم ضد الصحافيين «يشبه شكلاً من أشكال العقاب الجماعي، وقد يخلق نفوراً من مهنة الصحافة لدى الأجيال القادمة»
يصف رامان بعض ظروف اعتقاله. «في زنزانة صغيرة داخل مقر في القامشلي، أمضيت 37 يوماً. لم أتعرض للتعذيب الجسدي، لكني كنت أمام تجربة واختبار للكرامة والذاكرة. كان التحقيق يدور حول نواياي لا حول ما كتبت. كانوا يسألون: مع من تتواصل؟ من يمولك؟ ليش لسانك طويل؟».
بعد خروجه بكفالة، مُنع رامان من العمل مؤقتاً، وأُغلقت صفحته الإخبارية المحلية التي كانت توثّق أوضاع المخيمات والاعتقالات. ويوضح أن المنع «لم يكن رسمياً، لكنه أقسى. كل وسيلة إعلام ترفض التعاون معك، وكل زميل يبتعد خوفاً من الاتهام نفسه».
لاحقاً، غادر الرجل إلى إقليم كردستان العراق، حيث يعمل اليوم مع منظمة إعلامية صغيرة. لكنه يرى أن الإفلات من العقاب في مناطق الإدارة الذاتية لا يقل خطراً عنه في بقية الجغرافيات السورية، ويضيف: «حتى اليوم لا أستطيع النشر باسمي خوفاً على أهلي. كل سلطة في سوريا تعتقد أن الصحافة تهديد. المشكلة ليست في الأشخاص، بل في العقل الأمني الذي يتوارثه الجميع».
سوريا على خريطة حرية الصحافة والانتهاكات
تُشير إحصاءات «مراسلون بلا حدود» إلى وجود 21 معتقلاً من قطاع الإعلام في سوريا حتى الساعة (20 صحافياً، ومتعاون واحد مع وسائل إعلام)، فضلاً عن مقتل المصور الصحافي ساري مجيد الشوفي في منتصف تموز/يوليو، في خضم مجازر السويداء. علماً أن قائمة المنظمة لا تتضمن إلا من ثبُت أن الانتهاك بحقه/ـا قد نجم بشكل مباشر عن ممارسة العمل الإعلامي.
تقبع سوريا في المرتبة 177 (من أصل 180) على مؤشر «حرية الصحافة»، متقدمة مرتبتين منذ سقوط نظام الأسد. وفي مطلع العام الحالي قدّمت «مراسلون بلا حدود» سبع توصيات إلى السلطات الجديدة في دمشق من أجل حرية الصحافة، تتمحور ثلاث توصيات منها حول مصير الضحايا وإنصافهم، ومنع الإفلات من العقاب في قضاياهم، والتوصيات الثلاث هي:
- تسليط الضوء على مصير الصحافيين ضحايا نظام الأسد وإنصافهم: إماطة اللثام عن مصير الصحفيين الخمسة والعشرين الذين تعرضوا للإخفاء أو الاعتقال أو الاختفاء القسري على يد نظام بشار الأسد، ومازالت أخبارهم منقطعة منذ سقوط النظام، إلى جانب الاحتفاظ بجميع الأدلة على جرائم قتل الصحافيين الـ 181 المنسوبة إلى نظام بشار الأسد وحلفائه منذ 2011، وتقديم مرتكبي هذه الجرائم إلى العدالة بموجب المعايير الدولية.
- تحرير الصحافيين وإحقاق العدالة للصحافيين ضحايا فصائل الثورة: إطلاق سراح الصحافيين العشرين المحتجزين بدأً من العام 2011 لدى فصائل الثورة، بما في ذلك هيئة تحرير الشام، مع إجراء تحقيقات شفافة ومستقلة في جرائم قتل الصحافيين الـ 19 المنسوبة إلى المجموعات المسلّحة منذ عام 2011، ومن بينها 7 منسوبة إلى هيئة تحرير الشام، مع تقديم جميع الفاعلين المتورطين في هذه الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين إلى العدالة، مع احترام سيادة القانون.
- العثور على الصحافيين الرهائن، وتحديد هوية جميع المسؤولين عن الجرائم المرتكبة ضد الصحافيين وتقديمهم إلى العدالة: تسليط الضوء على مصير الصحافيين العشرين الذين اختطفهم تنظيم «داعش» في 2013 ومحاكمة مرتكبي جرائم قتل الصحافيين الـ 22 المنسوبة إلى هذه الجماعة بموجب المعايير الدولية، فضلاً عن تحديد ومحاكمة المسؤولين عن جرائم القتل التي لم تنكشف ملابساتها بعد، التي راح ضحيتها 53 صحافياً، إلى جانب إنصاف الصحافيين الستة الذين يُعتقد أنهم قُتلوا جراء غارات الجيش التركي، وصحافي آخر يُنسب مقتله إلى قوات سوريا الديمقراطية عام 2012، مع فتح تحقيق في ملابسات مقتلهم، والعمل مع جميع الجهات الفاعلة الوطنية لضمان الإفراج عن جميع الصحافيين المحتجزين في سوريا.