الصورة: من الاحتفالات الأولى في دمشق عقب سقوط نظام الأسد - فرانس برس
لم يشكّل سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 نهايةً لمعاناة النساء في سوريا، بل مثّل بداية مرحلة انتقالية تتسم بتحديات جديدة؛ فوجدن أنفسهن أمام سلطة تعتمد على خطاب ديني وأخلاقي محافظ، امتد سريعاً إلى تفاصيل الحياة اليومية، بعد عقود من القمع السياسي الذي قيّد المجال العام تحت سلطة الدولة الأمنية.
تشير دراسة نُشرت في آذار/مارس 2025 إلى أن بعض المؤسسات الدينية الصاعدة تحت حكم السلطة الحالية بدأت إعادة تنظيم الفضاء العام بطرق تُعيد إنتاج الهيمنة بقوالب جديدة، أشد وطأة على النساء بشكل خاص.
عقود من السلطة الذكورية بوجه حداثي
لم تكن سوريا قبل حكم حافظ الأسد فضاءً متحرّراً بالمعنى الحديث، لكنها كانت، في كثير من مدنها، مجتمعاً متعدد التيارات الفكرية والسياسية. مثّلت سبعينيات القرن الماضي بداية تأسيس دولة شمولية حديثة في أدواتها، تقليدية في بنيتها الاجتماعية. رفع الأسد الأب شعارات المساواة وتحرير المرأة، لكنه في الواقع أحكم السيطرة على المنظمات والنقابات، ومن بينها «الاتحاد العام النسائي»، الذي كان أداة تعبئة سياسية لا مساحة تمثيل فعلي.
في ذلك النظام، جرى ضبط المجال العام برمّته - بما في ذلك الحركات النسائية - ضمن إطار الولاء السياسي. كانت المشاركة النسائية ممكنة ما دامت منضبطة ومعبّرة عن «روح الثورة» الرسمية، أما أي حراك مستقل فقد عُدّ تهديداً للنظام. ومع الوقت ترسخ شكل من «الحداثة المنضبطة»، يتيح للمرأة أن تعمل وتتعلم، لكن من دون أن تخرج عن الخطوط الحمراء الأيديولوجية أو الأخلاقية التي تحددها السلطة الذكورية للدولة والمجتمع.
خلال حكم بشار الأسد، عاشت النساء السوريات واقعاً معقداً من القيود السياسية والاجتماعية والدينية، تختلف حدتها بحسب المنطقة والانتماء الطائفي والسياق المعيشي، وفق دراسة صادرة عن منظمة «النساء الآن».
تشير الدراسة إلى أنّ القمع الأمني في مناطق النظام فرض قيوداً على حرية النساء وحركتهن في الفضاء العام، رغم وجود نصوص دستورية تدعو إلى المساواة بين الجنسين. وكان المجال السياسي شبه مغلق أمامهن، حدّت استراتيجيات التحكم المركزية من استقلاليتهن، وأخضعتهن للسلطة الأمنية في معظم جوانب حياتهن اليومية.
تفكك الدولة وصعود البديل الديني
مع اندلاع الثورة السورية في آذار/مارس 2011، خرجت آلاف النساء إلى الشوارع، في مشهد نادر في التاريخ السياسي السوري الحديث. لعبن دوراً أساسياً في المظاهرات والتنظيم والإغاثة وتوثيق الانتهاكات.
لكن هذا الحضور القوي سرعان ما تراجع مع عسكرة الحراك، وصعود قوى متشددة أعادت فرض نموذج أبوي أكثر صرامة. ففي المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، حلّ خطاب «الفضيلة» و«الهوية الدينية» محلّ خطاب «الوطن» و«المواطنة» الشعاراتي. ومع انهيار مؤسسات الدولة، تراجعت القوانين المدنية (التي لم تكن مثالية)، وبرزت محاكم شرعية تتبع فصائل مختلفة، لتتحكم بشؤون النساء من الزواج واللباس إلى التعليم والعمل، في ظل تفسيرات صارمة للشريعة الإسلامية، ما قلّص فرص النساء في المشاركة السياسية.
في المقابل، لم تكن المناطق التي بقيت تحت سيطرة النظام أكثر انفتاحاً. فمع عودة الخطاب الديني إلى الواجهة بوصفه إحدى أدوات التعبئة بعد 2011، بدأ النظام ذاته بإعادة إنتاج رموز دينية مؤيدة له، واحتوى الشخصيات النسائية ذات الخلفية الإسلامية ضمن منظومة الولاء الجديدة. أصبحت بعض الداعيات وعضوات الجمعيات الدينية واجهة لسلطة «التدين الرسمي» الذي يتقاطع مع الخطاب السياسي حول «حماية المجتمع من الفساد».
هذا الواقع أنتج شعوراً بالإحباط، لكنه عزز وعي النساء وأكد أهمية تطوير مهاراتهن وخبراتهن الميدانية، ما أصبح في ما بعد رأس مال اجتماعي ومهارات مقاومة يُؤمل أن تشكل أساساً لمواجهة القيود المفروضة عليهن بعد سقوط النظام، والمطالبة بتمثيل أوسع في المرحلة الانتقالية القادمة.
المساحات المتبدلة.. من الشارع إلى البيت
من اللافت أنّ الحرب لم تلغِ القيم الأبوية، بل أعادت توزيعها عبر قنوات جديدة. فحيثما تراجعت سلطة الدولة، تقدّمت سلطة الجماعة، وحيثما ضعفت سطوة الأمن، تقوّت الرقابة الاجتماعية، وغالباً ما كانت النساء أول من يدفع الثمن.
أعادت الحرب رسم خرائط الفضاء العام نفسه. في إدلب وشمال غرب سوريا، تحوّل النشاط النسائي إلى مجالات «مقبولة شرعاً» كالإغاثة والتعليم الديني والتمريض. أما في دمشق، فشهدت الجمعيات الخيرية النسائية نمواً لافتاً، لكن ضمن ضوابط السلطة الأمنية والدينية المتداخلة، ولم يكن ممكناً إطلاق مشروع من دون غطاء معلن لجهة دينية، أو مستتر لجهة أمنية.
أما في السويداء، التي ظلت تحت إدارة شبه مستقلة فحافظت النساء على هامش أكبر من الحرية، لكن ضمن سياق تقليدي متجذر في البنية الأهلية.
سيطرة دينية بلا مركز
بعد هروب الأسد الابن، طرأت تحولات جذرية على أنماط السلطة الدينية ونظم الضبط الاجتماعي داخل البلاد. تتسم هذه المرحلة بانفلات واضح للسلطة الدينية التقليدية التي كانت تحتكرها مؤسسات النظام السابق، لتطفو على السطح مجموعات دينية متعددة ومتناقضة، تمارس نفوذها بشكل متفاوت في مناطق سوريا المختلفة.
مع تسلم «تحرير الشام» زمام السلطة وجدت النساء السوريات أنفسهن أمام مرحلة جديدة تتأرجح بين الأمل بالمشاركة والقلق من القيود المحتملة
تؤكد دراسة «دور الدين في إعادة بناء دولة سوريا: دراسة حالة الإسلام السني» الصادرة عن مركز «جسور» في 2018، أنّ مؤسسات الدين التقليدية تعرضت خلال السنوات الماضية إلى شقاق وانقسام حاد بفعل فقدان سلطة الدولة المركزية، ما أدى إلى فراغ شرعي سمح بتعدد مصادر النفوذ الديني وتباينها. فيما نشأت بيئة ملغمة بصراعات دينية بين علماء ودعاة متنافسين على السلطة والحكم، ما أثر بعمق على بنية المجتمع وعمليات الضبط الاجتماعي.
مع تسلم «هيئة تحرير الشام» زمام السلطة في دمشق وجدت النساء السوريات أنفسهن أمام مرحلة جديدة تتأرجح بين الأمل بالمشاركة والقلق من القيود المحتملة. يشير تقرير من جامعة كوليدج لندن (UCL) إلى أن هذه السلطة الجديدة تحمل تحديات كبيرة لحقوق النساء، لكنها لم تفرض بعد قيوداً صارمة بشكل كامل، رغم أن تجربة إدلب السابقة تشير إلى احتمال تقييد الحركة، واللباس، والتعليم، والمشاركة السياسية اعتماداً على تفسيرها المحافظ للدين والأخلاق.
القيود التي لوحظت في بعض المناطق تشمل اشتراط وجود وليّ ذكر لمرافقة المرأة في الأماكن العامة، ومراقبة الشرطة الأخلاقية، وتقليص الفرص التعليمية والمهنية. كما تشير دراسة لجامعة رايس (Rice University) إلى أن بعض القيادات النسائية في السلطة الجديدة، مثل عائشة الدبس، حملت توجهات إسلامية محافظة قد تحد من جهود النساء لتحقيق المشاركة الفعلية، رغم بعض التعيينات الرمزية، مثل حاكمة البنك المركزي التي استقالت لاحقاً.
ويبدو ملحوظاً أن العام الحالي (2025) شهد تصاعداً لسلطة المشايخ، على مختلف انتماءاتهم. تحوّل «الشيخ» إلى رمز لسلطة الظل في بنية النظام الجديد، وفي الوقت نفسه يبدو أن «الشيخ» عند الموحدين الدروز في السويداء مثلاً لم يعد لقباً دينيّاً، بل بات يحوز سلطات متداخلة، وعلى نحو مختلف في الحيثيات يُلاحظ أن لقب «الشيخ» تصدّر الواجهة لدى أبناء الطائفة العلوية بشكل لم يكن معهوداً سابقاً، فيما ظلّت سلطة الكنيسة ورجالها في واجهة المشهد المسيحي. هذا الصعود المطّرد لسلطة رجال الدين مؤهل للانعكاس سلباً على مكانة النساء في المشهد العام.
مع ذلك، لم تتوقف النساء عن النشاط والمقاومة. ترى الناشطة المدنية والحقوقية فاطمة حميد من إدلب، أن واقع مشاركة النساء في الشمال بعد سقوط نظام بات أفضل نسبياً، لكنه لا يخلو من التحديات. تشير فاطمة إلى أن إدلب شهدت حركة نسائية أكثر ديناميكية رغم القيود، لكنها تدرك أن التحديات مستمرة ويجب أن تنخرط النساء في العمل السياسي أكثر. وتضيف: «قبل الثورة حدّت المخاوف من الوصم والتقاليد من قدرة النساء في إدلب على الحضور في الفضاء العام، لكن اليوم نرى حضوراً متزايداً في لجان انتخاب مجلس الشعب ودراسة العلوم السياسية، رغم أن الفهم الخاطئ للدين يُستخدم لإقصاء النساء من المجال العام».
حضور رمزي مقنّن
رغم حالة التفاؤل تلك، لم تصل إلى عضوية مجلس الشعب سوى 6 ست نساء، من أصل 140 عضواً (نسبة 4 % تقريباً)، رغم ترشح 14% من النساء (من بين 1578 مرشحاً). كان قانون الانتخابات المؤقت قد نص على ألا تقل نسبة النساء في الهيئات الناخبة عن 20 %، فيما أكد نوار نجمة، المتحدث باسم «اللجنة العليا» عقب الانتخاب أن نسبة النساء تجاوزت في بعض الهيئات الناخبة 30%.
أما الحكومة الانتقالية، فلا تضم سوى وزيرة واحدة فقط، حازت حقيبة «الشؤون الاجتماعية» مقابل 22 وزيراً ذكراً، ما يعكس استمرار الهيمنة الذكورية على المناصب السيادية.
الحضور الرمزي للنساء في المناصب السياسية ومجلس الشعب ليس بالسلوك المستجد، فقد اتبعه نظام الأسد أيضاً، إلّا أنّ الرغبة في أن تكون المرحلة المقبلة مختلفة والوعود الكثيرة المرتبطة بظهور أكبر للنساء في الفضاء العام وعدم انعكاسها على الأرض قد تتسبب بحالة إحباط.
مع ذلك؛ تواصل النساء على الأرض تنظيم النساء ورش عمل، وحملات توعية، ومؤتمرات افتراضية لتأكيد حقهن في المشاركة السياسية، رغم المخاطر الأمنية والضغوط الاجتماعية. المرحلة الانتقالية الحالية تحمل فرصاً محدودة لكنها مهمة، فهل تتمكن النساء من تحويل هذه الفرص إلى مشاركة فعلية؟ أم أن تاريخ السلطة الاستبدادية والقيود الاجتماعية والدينية سيعيد تشكيل نفسه تحت مظلة جديدة؟
«مُعضلة» العاصمة
دمشق وريفها يحملان إرثاً طويلاً من السيطرة الأمنية والدينية، مع مخاطر تصاعد سلطات دينية جديدة قد تحد من حرية النساء ومكانتهن في المجتمع، رغم اختلاف السياقات.
في مناطق سيطرة «جيش الإسلام» سابقاً، في ريف دمشق، تتجدد المخاوف لدى كثير من النساء من عودة سلطة رجال الدين إلى الواجهة، وخاصة بعد ما عانينه تحت سيطرته في دوما وغيرها من مدن الغوطة، حتى خروجه منها في 2018.
تخلُص دراسة Mapping Militants إلى أن «جيش الإسلام» مارس قيوداً صارمة على النساء في المناطق التي سيطر عليها، مثل فرض قوانين لباس صارمة ومراقبة الحركة العامة. كما وُثقت العديد من الانتهاكات لحقوق الإنسان، علاوة على تورط التنظيم في قمع المراكز الحقوقية التي تركز على حقوق النساء». تشير الدراسة إلى استخدام التنظيم للنساء دروعاً بشرية خلال المعارك، مما يعكس الطبيعة القمعية للتنظيم في التعامل مع حقوق النساء في مناطق نفوذه.
شهد العام الحالي تصاعداً لسلطة رجال الدين في سوريا، على مختلف انتماءاتهم، هذا الصعود مؤهل للانعكاس سلباً على مكانة النساء في المشهد العام
تقول هبة عبد المجيد، وهي ناشطة مدنية من دوما: «بعد ما عانيته تحت سيطرة جيش الإسلام، أخاف من هؤلاء الذين سيعودون للسيطرة على البلد. اليوم، تتحول حياتنا إلى مساحة يسودها التوتر، تُفرض رموز دينية صارمة تحاول التحكم في أجسادنا وأرواحنا، وتغييب الحرية التي حلمنا بها».
على الضفة الأخرى وعلى بعد دقائق من دوما أيدت جماعة «القبيسيات» حكم بشار الأسد لسنوات، واليوم يقف ذلك التنظيم على مفترق طرق، ورغم ذلك لم ينتهِ تقييده لحرية النساء في الفضاء العام.
و«القبيسيّات» جماعة نسائية دعوية تأسست في سوريا، وركزت على تعليم النساء القرآن والحديث وفقاً للتقاليد الصوفية. خلال عقود، كانت تحافظ على خصوصيتها وتعمل في الفضاء المنزلي بعيداً عن السياسة. ولكن بعد عام 2012، بدأت الجماعة تتحول نحو تأييد نظام الأسد، مما أثر على حرية النساء ضمن الحركة، إذ جرى دمجها في «الهيكل الديني» للنظام، لتتحول الجماعة جزءاً من أدواته للسيطرة على المجال الديني والسياسي.
قيّدت «القبيسيات» النساء من خلال تعزيز هيكل تنظيمي هرمى صارم يتطلب طاعة كاملة للقيادة الدينية، ودفعت النساء ليكنّ أكثر التزاماً بالأدوار التقليدية في المنزل والتعليم الديني فقط، دون المشاركة الفعلية في الأنشطة العامة أو السياسية. كما أن الجماعة كانت تفرض قيوداً على حرية اتخاذ القرارات الفردية، وتقيد الآراء الشخصية بتوجيهات «القيادة»، ما قلل من قدرة النساء على التعبير عن أنفسهن أو اتخاذ مواقف مستقلة.
تبرز هنا تجربة ريم (اسم مستعار) وهي شابة من تلك البيئة، تقدم شهادة حية على التداخل المعقد بين الدين، والأسرة، والمجتمع. تقول: «يؤثر الدين على حياتي بشكل كبير... لا توجد مساحة للتعبير عن نفسي وخاصة بعدما أن أصبحت عائلتي أكثر التزاماً دينياً وحضوراً للدروس في المسجد، صار كل شي "حرام"، من الاختلاط إلى التواصل مع الجنس الآخر».
تجد الشابة العشرينية نفسها محاطة بقيود دينية حتى على التفكير: «عندما أحاول التعبير عن رأيي في الأحداث، يرد أهلي بأن "الله هو الذي ييسر الأمور"، وهذا يمنعني من المشاركة أو التعبير»
النساء العلويات في الفضاء العام
في مقالها، «المرأة في الطائفة العلوية…وطقوس التمييز» تشير هنادي زحلوط إلى أن المرأة العلوية تشارك في الأعمال الزراعية الشاقة وتربية الحيوانات، بالإضافة إلى الصناعات المنزلية مثل صناعة الألبان والأجبان وتسويقها. ومع ذلك، كانت تعاني من تمييز اجتماعي يحول دون حصولها على حقوقها الكاملة. هذا التمييز كان يشمل تقليص فرص التعليم والعمل والمشاركة السياسية والدينية.
من جانب آخر، يشير تقرير لمؤسسة «كارنيغي» إلى أن النساء العلويات كنّ عرضة للتمييز والاضطهاد بسبب ارتباطهن بالنظام السابق. هذا التمييز تفاقم بعد سقوط النظام، إذ تعرضت العديد من النساء العلويات للاختطاف والقتل على أساس هويتهن (نفت وزارة الداخلية بتاريخ 2/11/2025 صحة كل التقارير والتحقيقات التي تناولت الموضوع).
اليوم يسيطر رجال الدين العلويين على مساحات المشاركة السياسية من خلال محاولات لتشكيل مجالس دينية تمثل الطائفة العلوية، في حين تضطر النساء للرضوخ للواقع الأمني المتردي، ولسيادة الخطاب الذكوري وانعدام حضورهن الفاعل في الفضاءات العامة.
سماح اسمندر، ناشطة في المجالين المدني والإعلامي من بانياس، تقول: «لا تمتلك نساء الطائفة العلوية تمثيلاً دينياً ضمن المؤسسات التي تحاول الظهور اليوم وتمثيل العلويين، وأعتقد أنّ الهوية الدينية لا يمكن أن تلغي بقية الهويات، بل يجب أن يعلو انتماؤنا لهويتنا الجامعة بوصفنا سوريين وسوريات على انتماءاتنا الضيقة».
وتضيف: «أعتقد أنه حتى لو حاول تيار فرض سلطة دينية، فإن العلويين يجب أن يتصرفوا بطريقة مختلفة».
تعتقد سماح أن النساء يمكنهن خلق النساء مسارات بديلة من خلال المجتمع المدني بعيداً عن التقييدات والتحيزات التي تفرضها الانتماءات الضيقة.
الدرزيات.. حاضرات غائبات
بدأ الحراك المدني الأشمل في محافظة السويداء، ذات الغالبية الدرزية، في آب/أغسطس 2023، احتجاجاً على رفع أسعار الوقود من قبل نظام الأسد، وسرعان ما تطور ليشمل المطالبة بتنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، والسعي نحو إسقاط النظام. كانت النساء الدرزيات في الصفوف الأمامية لهذا الحراك، فمثلاً لعبت سلمى النبواني، وهي معلمة سابقة، دوراً قيادياً بوصفها أول امرأة تشارك في «اللجنة التنفيذية للحراك»، وكانت مسؤولة عن كتابة كثير من اللافتات اليومية في ساحة الكرامة، قلب الاحتجاجات في السويداء.
على مدار سنة من النشاط، شاركت النساء في تنظيم الفعاليات اليومية، وحماية المؤسسات العامة من النهب، وإدارة اللجان السياسية والإعلامية والقانونية للحراك، وهو ما يعكس مستوى غير مسبوق من المشاركة المدنية للنساء الدرزيات في المجال العام، مقارنة بالمرحلة السابقة في ظل هيمنة نظام الأسد، الذي فرض قيوداً هائلة تحول دون تمكين المجتمع المدني خارج عباءته.
مع سقوط النظام في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، انطلقت الاحتفالات في السويداء، وواصلت النساء المشاركة في الحراك بكثافة.
من أبرز الخطوات التي سُجلت، اختيار محسنة المحيثاوي، لتكون أول امرأة تُشارِك في إدارة شؤون المحافظة مؤقتاً، رغم أن تعيينها لم يؤكد رسمياً من قبل الحكومة المركزية.
يوضح هذا الحضور النسائي في الحراك قدرة النساء الدرزيات على خلق مساحات بديلة للعمل السياسي والمدني، بعيداً عن السيطرة التقليدية للكهنوت الديني والقيود المجتمعية، ورغم المخاوف من سلطة دينية جديدة أو مخاطر أمنيّة وسياسية، استطعن أن يكنّ فاعلات أساسيات في صياغة مشهد الفضاء العام، مستندات إلى خبرتهن السابقة في العمل المدني والتنظيم الاجتماعي، ومؤكدات على أهمية فصل الدين عن السلطة لضمان استمرار المشاركة المدنية والسياسية بشكل متساوٍ.
لكن بعد مجازر السويداء تواجه النساء في السويداء مخاوف من نوع آخر، رانيا (اسم مستعار) فتاة من السويداء، تصف في شهادتها الضغوط الأمنية والاجتماعية التي تعيشها.
«الخوف دائماً من الوصم الذي قد يلاحقك بسبب تعبيرك عن اختلافك مع الآراء والقناعات في الداخل، وبالأخص مع حالة الحصار التي تعيشها السويداء، لكن الخوف الأكبر هو تصنيفك كتابعة لهذا الشيخ أو ذاك بسبب انتقادك للسياسات الحكومية مثلاً، الأمر الذي قد يتسبب في حرماني من التنقل خارج المحافظة».
تشير رانيا، إلى أنّ القيود لا تمارس عليها ضمن المجتمع المحلي، بل تمارس ضمن فضاءات أخرى كالسوشال ميديا مثلاً، فهي لا تستطيع مشاركة آرائها بحرية، وتمتنع عن أي ظهور إعلامي قد يتسبب في تصنيفها ضمن دوائر فقط لأنها عبّرت عن رأيها. كما أنّ الخوف من العنف الإلكتروني عامل آخر يدفعها للصمت والانكماش.
محاولات لخلق مسارات بديلة
برغم كل هذه القيود، برزت محاولات للنساء للتكيف والمقاومة، سواء من خلال المشاركة في منظمات مدنية أو العمل المجتمعي. ورغم أن الفضاء العام ظل ضيقاً وخاضعاً لرقابة شديدة متفاوتة بحسب الجغرافيا والانتماء الطائفي، تنجح بعض النساء بالانخراط في الحراك المدني والسياسي.
بتول الشيخ، الكاتبة السورية، تسعى أن تُمثّل نموذجاً محايداً، ربما ساهم تنقلها الدائم بين المناطق السورية في تشكيل تجربتها الشخصية التي منحتها هامشاً أوسع من الحرية. تقول: «لم أفكر يوماً بسؤال إن كان العامل الديني يقيدني أم لا، فلطالما وجدت لنفسي المسار الذي يتيح لي المشاركة سواء عبر السوشال ميديا أو في المجتمع المدني. سمح سقوط النظام، لي بالمجاهرة بقناعاتي وممارسة نشاطي بقدر أكبر من الحرية. لم يكن الدين هو ما يعيقني، ربما التقييد الأمني سابقاً، لكن ليس الدين».
إعادة رسم خريطة الحضور النسائي
تكشف التجربة السورية خلال العقد الأخير عن مفارقة قاسية: كلّما انكسر شكل من أشكال السلطة الذكورية، وُلد شكل آخر أكثر تجذراً. لم تؤدِّ الثورة إلى تفكيك النظام الأبوي، بل إلى إعادة توزيعه بين الفصائل الدينية والطائفية والسياسية. وبين «الأمن» و«الدين»، وجدت النساء أنفسهن عالقات في مساحة رمادية، حيث يُطلب منهنّ أن يكنّ رمزاً للثبات، لا طرفاً في التغيير.
ومع ذلك، لم تُمحَ أصواتهن. فكل شهادة، وكل مبادرة محلية، وكل محاولة لاستعادة المجال العام ولو رقمياً، تمثّل مقاومة صامتة ضدّ منظومةٍ تحاول اختزال النساء في موقع الضحية أو الرمز. لا تزال إمكانات التحول قائمة، لكنها مشروطة بقدرة النساء أنفسهن على تحويل تجربتهن من معاناة إلى وعي جماعي يُعيد تعريف السلطة لا من خارجها فقط، بل من داخل المجتمع ذاته.