× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

عن أبناء الخوف: كلنا سرحان عبد البصير!

حكاياتنا - ملح 06-08-2020

قبل أيام شاهدت مسرحية «شاهد ما شفش حاجة» كما نفعل في كل عيد. رأيت نفسي سرحان عبد البصير، ذلك المواطن التائه الخائف من كل شيء، رأيت سرحان، في كل سوري حولي. كلنا سرحان، وكلنا شهود على ما جرى ويجري، وكلنا بسبب الخوف «ماشفناش حاجة»

الصورة: (Charles Roffey - فليكر)

في الأسبوع الماضي قُرع باب منزلنا، من دون موعد مسبق، على الباب موظفان حكوميان!
أخفيت بكثير من الجهد ارتعاشة ركبتيّ أمامهما، حتى بعد أن عرفت أنهما من شركة الكهرباء، ويقومان بجولة تفتيش روتينية، للتأكد من عدم قيامنا بسرقة التيار الكهربائي. 
كان الخوف يهيمن عليّ، رغم يقيني أننا لم نسرق أي تيار في حياتنا.
حين غادرا حاولت إيجاد تفسير لخوفي ذلك، مجرد موظفين حكوميين، يتبعان جهة «خدميّة» فلماذا خفت؟ 
بعد دقائق اتصل جارنا بنا، وسأل بلهفة هل زارنا موظفان حكوميان؟ كان صوته يرتجف، حسناً لست وحدي من يخاف الحكومة وموظفيها.
في بلادي ينمو الخوف مثل شجرة دائمة الخضرة. يباغتنا بكل أشكاله، بدءاً بعنصر الأمن، وصولاً إلى الخوف من أزمات الخبز، وحليب الأطفال، وحتى الكهرباء التي تنقطع «ع الطالعة والنازلة»، مع يقيني أن انقطاعاتها خارج أوقات التقنين ليست ناجمة عن أعطال فنية، أو أزمة وقود، بل هي جزء من منظومة الإذلال التي نعيشها. عملية ترويض مستمرة ومتكاملة، مفروضة علينا في كل تفاصيل حياتنا.
نحن مجموعة بشرية محكومة بالخوف، وهذا الأمر ليس شعاراً أو منشور «فايسبوكياً» يكتبه مثقف لجمهوره النخبوي، وإنما حقيقة فعلية. 
ربما كان العالم كله قائماً على الخوف واستثماره، ولكن استثماره في وطني بلغ حداً لا يمكن وصفه من الإسفاف.
عندما ولدت اكتسبت الخوف. رضعته مع حليب أمي، رأيته في نظرات أبي المتعب بعد عودته من العمل حاملاً ربطة خبز، وثلاثة أكياس سوداء مما استطاع شراءه. صار جزءاً من ملامحي مع كل حركة لعصا أستاذ المدرسة التي كان يلوح بها في وجوهنا دائماً، ومع صراخ الموجهة علينا أثناء ترديد الشعار في المدرسة: وقفو منيح يا حيوانات.

بات الخوف رفيق يومياتنا: الخوف من الموت والخطف والفقدان، الخوف من الجوع، الخوف من القصف، من البراميل والقذائف ومدافع جهنّم، ومن منشورات رامي مخلوف!

عشت الخوف بشكل تدريجي ممنهج، الخوف من السيارات، والخوف أكثر من السيارات ذات الزجاج الأسود (المفيمة). الخوف من الفشل في المدرسة، ومن الفشل في «البكالوريا» تتويجاً لكل مراحل الخوف السابقة.
أذكر جيداً الليلة التي سبقت يوم صدور النتائج. لم أنم تلك الليلة، ولم تنم عائلتي كلها بانتظار الصباح، كانت أوراق النتائج تعلق في المدارس، جلسنا أمام باب مدرستنا منذ الساعة السابعة ننتظر تعليقها، كنت خائفة من النتيجة مهما كانت، خائفة من حياتي بعد صدور هذه النتيجة التي ستحدد مستقبلي.

في مراحل لاحقة، طاردني خوف من النوع الذي نفرضه نحن على أنفسنا، الخوف من الخروج عن عادة ما، أو كسر تقليد ما، الخوف من عدم تمكني من الحصول على عريس حتى الآن (المحررة: نيّالك)، الخوف من شرطي المرور الذي علينا أن نرشوه، الخوف من قسم الشرطة و«عار» دخول القسم، حتى لتقديم شكوى، الخوف من الأمن ومن استدعائي لتحقيق ما! 
مع اندلاع الحرب انقسمنا إلى مجموعات من الخائفين. بيننا من خاف الخروج عن منظومة الخوف التي عهدناها، وبيننا من راح يختبر خوفاً جديداً. 

بات الخوف رفيق يومياتنا جميعاً: الخوف من الموت والخطف والفقدان، الخوف من الجوع والعطش، الخوف من القصف، الخوف من البراميل والقذائف ومدافع جهنّم، الخوف من السيف، الخوف حتى من منشورات رامي مخلوف، ومن ارتفاع سعر الصرف المرافق لها دوماً، الخوف من استمرار التغيير في منظومات الخوف القائمة بين يوم وآخر!
لي صديق يعيش في منطقة تسيطر عليها جماعة متشددة، أخبرني خلال اتصال بيننا أن أوضاعه استقرت أخيراً بعد أن تمكنت جماعة واحدة من فرض سيطرتها على منطقته! لقد صار في وسعه أخيراً فهم القوانين المفروضة، بعد سنوات من تغيير القوانين واختلافها مع كل تغيير في المسيطرة على منطقته. سألته عن سبب بقائه في مدينته فأجابني بأنه «يخاف مغادرة منزله واختبار خوف جديد»، مثلي تماماً.
بدافع الخوف، هاجر قسم كبير من أقربائي (في الواقع هُجروا، حتى ولو أن بعضهم سافر بقرار)، قطع بعضهم البحر وتمكن من الوصول إلى أوروبا، في حين خاف قسم آخر من خوض هذه التجربة. 
من بقي في سوريا لم يغادر خوفاً من المجهول.
نحن باختصار أبناء الخوف. نخاف ماضينا الذي لا نعرف عنه شيئاً، نخاف حاضرنا الذي عشناه من دون أن نعرف عنه أي شيء، نخاف المستقبل وما يخفيه من مجهول. 
نخاف أن تسألنا الأجيال المقبلة عما حدث، وعما فعلناه. 
حسناً يمكننا أن نقول إن جل ما فعلناه هو الخوف، وإن ما جرى كان مخيفاً.. مخيفاً جداً.


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها